قضايا

صباح خيري: تآكل الانضباط المهني

كيف تُقوّض اللامبالاة التعليمية الالتزام الأخلاقي في المهنة التربوية

في زمنٍ انحسر فيه وهج الرسالة وتراجعت حرارة الإيمان بالمهنة، تحوّل التعليم عند كثيرين إلى وظيفة تُؤدّى ببرودٍ، ودرسٍ يُلقَى كواجبٍ لا كعبادةٍ. في خضمّ هذا الفتور يتسلّل إلى الجسد التربوي داءٌ خفيّ اسمه اللامبالاة؛ ذلك المرض الصامت الذي لا يُعلن نفسه لكنه يأكل من الداخل كلّ ما هو نبيل في مهنةٍ كان يُفترض أن تكون أقدس المهن، لأنها تصنع الوعي وتبني الإنسان.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9-10)،

فيضع أول لبنةٍ للانضباط المهني من داخل النفس، حيث تبدأ التربية الحقيقية. فالتزكية ليست فكرة وعظية بل سلوكٌ يوميٌّ يُمارسه المربي حين يُهذّب نفسه قبل أن يُهذّب الآخرين.

وهنا تتجلّى عظمة الكلمة التي قالها الإمام علي عليه السلام:

(من نصب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)،

فهو يربط بين القيادة الأخلاقية والانضباط الذاتي، مؤكدًا أن القدوة الصامتة أبلغ من ألف درسٍ منطوق، وأن المربي حين يُعلّم بسيرته يترك في النفوس أثرًا لا يُمحى.

المهنية في المنظور الإسلامي ليست انضباطًا إداريًا جامدًا، بل هي سلوكٌ نابع من الضمير، إذ يقول أمير المؤمنين عليه السلام أيضًا:

(قيمة كل امرئ ما يُحسنه)، فيُعيد تعريف القيمة المهنية على أساس الإتقان لا المنصب، وعلى الإخلاص لا الظهور. فالمعلم الذي يرى في عمله وجه الله لا وجه الرئيس هو الذي يبلغ قمة المهنية التربوية، لأنه يجعل من الإتقان عبادةً ومن العمل طريقًا للتقوى.

أما الإمام الحسين عليه السلام فيُجسّد جوهر الإصلاح المهني حين يقول:

(إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)،

فالإصلاح في منطق الحسين هو الغاية العليا لكل مهنة، وهو المعيار الذي يقيّم به الإنسان أداءه لا في ظاهر الفعل بل في نيته وبصمته الأخلاقية في المجتمع.

حين يغيب هذا البعد الإصلاحي، تتحوّل المهنة إلى تكرارٍ ميكانيكيٍّ بلا روح. اللامبالاة لا تقتل فقط شغف المعلّم، بل تُطفئ نور الرسالة في عينه، فيفقد توازنه بين الواجب والضمير، بين الأداء والإيمان. عندها تتحوّل القوانين إلى جدرانٍ صامتة لا حياة فيها. وهنا يأتي نداء الإمام الصادق عليه السلام ليوقظ الضمائر:

(كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية)

فالمهنية ليست في كثرة التعليمات، بل في صدق التطبيق، وليست في حسن القول، بل في صفاء العمل.

ولأن الإسلام يربط الانضباط بالنية، لا بالعقوبة، جاء في القرآن قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7-8)، ليُشير إلى أن مصدر الأخلاق هو الإلهام الإلهي في ضمير الإنسان، لا الرقابة الخارجية. هذا ما التقطه الفكر التربوي الغربي لاحقًا، حين رأى كولبرغ أن قمة النمو الأخلاقي هي أن يتصرّف الإنسان بدافعٍ من مبدأ داخلي لا من سلطةٍ خارجية، وهي الفكرة نفسها التي سبق إليها القرآن حين جعل الضمير المستنير بالتقوى هو الحارس الأول للسلوك.

وفي هذا السياق، حاول إميل دوركايم أن يفسّر الانضباط كقيمةٍ اجتماعية تحفظ تماسك الجماعة، بينما رأى ماكس فيبر أن الأخلاق المهنية شكلٌ من العبادة الدنيوية، إذ يتحوّل العمل إلى ممارسةٍ أخلاقيةٍ تُعبّر عن روح الإنسان. غير أن الإسلام تجاوزهما معًا، حين جعل العمل نفسه عبادةً إذا قصد به وجه الله، فجعل الانضباط نيةً قبل أن يكون نظامًا، وإخلاصًا قبل أن يكون التزامًا.

وقد جسّد الإمام علي عليه السلام هذا الفهم في وصيته الشهيرة لعامله مالك الأشتر حين قال:

(واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق) إنها مدرسة في القيادة الأخلاقية، حيث تكون الرحمة أساس المهنية، والاحترام جوهر الانضباط، والإنسانية غاية العمل. فالمعلم الذي يُربي بإنسانيةٍ يزرع في المتعلم محبة العلم لا الخوف منه، ويجعل من الصف فضاءً للثقة لا للرهبة.

ولذلك قال الإمام علي عليه السلام أيضًا:

(العلم مقرونٌ بالعمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)،

فيختصر بذلك جوهر الممارسة التربوية الصادقة، فالعلم الذي لا يُثمر عملاً يتحوّل إلى عبء، والمهنة التي لا تقوم على الإخلاص تفقد معناها الروحي مهما بلغت من التنظيم والدقة.

إن التعليم الحقيقي ليس في ضبط الحضور والانصراف، بل في حضور القلب أثناء العطاء. فالمعلم الحقّ هو من يرى في كل تلميذٍ أمانةً، وفي كل درسٍ شهادة، وفي كل نجاحٍ صدقةً جارية. إنّه من يربط الطباشير بالسماء، ويرى في كل حصةٍ عبورًا نحو إنسانٍ أفضل.

وصدق الله تعالى إذ يقول:

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105)، ليؤكد أن المهنة في جوهرها عبادة، وأن العمل الذي يُنجَز بنيةٍ صادقةٍ لا ينتهي بانتهاء الدوام، بل يمتدّ أثره في النفوس ما دامت تبحث عن النور.

اللامبالاة التعليمية ليست مجرد غيابٍ للحافز، بل هي غياب للرسالة. حين يفقد المعلم إحساسه بأن التعليم عبادة، يتحوّل الفعل التربوي إلى نشاط آلي بلا روح، ويتحوّل المتعلم إلى متلقٍ لا يتفاعل. وهنا تكمن المأساة الكبرى: حين يغيب الإيمان بالمهنة، تتلاشى قدسيتها، وتُختزل في مسمى إداري أو روتين يومي.

لقد أدرك إميل دوركايم منذ بدايات الفكر التربوي الحديث أنّ المدرسة ليست مكانًا للتلقين، بل فضاء لتشكيل الضمير الجمعي، وأن الانضباط في التعليم هو انضباط في الأخلاق قبل أن يكون انضباطًا في السلوك. لكن ما لم يفطن إليه الكثير من المربين الغربيين هو أن جذور هذا المعنى ضاربة في عمق الوحي؛ ففي الإسلام، يُعتبر التعليم طريقًا إلى الله، والمعرفة عبادة إذا خالطها الإخلاص.

يقول الإمام علي عليه السلام: «قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه»، وهي عبارة تختصر معنى الاحتراف المهني في أبلغ صوره؛ فالقيمة هنا ليست في المنصب ولا في الشهادة، بل في الإتقان، في ذلك البذل الهادئ الذي لا يراه أحد لكنه يبني أجيالًا. ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم»، فيضع معيارًا للقدوة المهنية لا يحده قانون ولا توصيف وظيفي، بل يقوم على الصدق العملي الذي يزرع في المتعلمين احترام المهنة، لا الخوف منها.

أما في الفلسفة الغربية، فقد حاول ماكس فيبر أن يمنح للمهنة بعدًا روحيًا في تحليله لـ"الأخلاق البروتستانتية"، حين رأى أن الانضباط في العمل شكل من أشكال التعبّد الأخلاقي. ومع أن نظرته وُلدت في سياق مادي، إلا أنها تلتقي – دون أن تدري – مع جوهر الرسالة القرآنية التي تقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ﴾، لتؤكد أن الاتقان هو الوجه العملي للإيمان، وأن المهنية ليست قيدًا على الحرية بل تعبير عن الوعي بالمسؤولية.

ويأتي كولبرغ في نظريته عن "النمو الأخلاقي" ليقول إن الإنسان في أرقى درجات نضجه المهني يتصرّف وفق ضميره الداخلي لا رقابة الخارج، وهو ما يجعلنا نرى في المربي المؤمن نموذجًا راقيًا لهذه المرحلة؛ إذ يتصرف اتساقًا مع وازعه الإيماني، لا خوفًا من محاسبة إدارية.

في هذا السياق، يبدو التعليم اليوم في أزمة مزدوجة: أزمة ضميرٍ وأزمة هوية. حين يتراجع الحس الأخلاقي في المؤسسات، تصبح القوانين عاجزة عن إنتاج الانضباط، تمامًا كما لا يمكن للماء أن يُروّي أرضًا قُطِع عنها النبع. فالضمير المهني هو النبع الذي منه تنبثق كل قيمة تعليمية حقيقية.

ولعلّ أجمل ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب قوله: «ثمرة العلم العمل به». فالعلم الذي لا يتحول إلى سلوكٍ منضبط، إلى مهنةٍ تُمارس بوعي، هو كالسراج الذي لا يضيء إلا لذاته. وهنا تتجلّى مأساة التعليم المعاصر: كثرة المعلومات، وقلة الضمائر.

التعليم المهني الحقيقي ليس في ضبط الحضور والانصراف، بل في حضور القلب أثناء العطاء. هو أن يقف المعلم أمام طلابه، لا كموظف يُنجز واجبه، بل كحامل أمانةٍ يخشى أن يُسأل عنها يوم يُقال: (وقفوهم إنهم مسؤولون)، عندها فقط يستعيد التعليم روحه، ويسترد الانضباط معناه، وتعود المهنة رسالةً لا وظيفة، وإيمانًا لا واجبًا.

فالمعلم الذي يُتقن عمله، ويُربي بصدق، ويُخلص في رسالته، هو امتدادٌ للنور الذي حمله الأنبياء والأئمة في دعوتهم إلى الوعي والعقل. ذلك أن التربية ليست مجرد نقل معرفة، بل بناء إنسان، والإنسان لا يُبنى إلا على قيمة الانضباط والإتقان التي هي في جوهرها قيمة التوحيد في الفعل والإخلاص في النية.

***

ا. م. د. صباح خيري العرداوي

في المثقف اليوم