قضايا

بدر الفيومي: الغزو الفكري والحرب الناعمة (2)

الإسلام في عين الخصم منذ البعثة حتى نهاية الحروب الصليبية

 ذكرنا في المقال السابق أن الحروب في عصرنا لم تعد تأخذ شكلها المألوف القائم على المواجهة المباشرة وصلصال السيوف وأزيز المدافع، بل انتقلت إلى مرحلة أشد وأعمق وصفناها بـ الحرب الناعمة؛ حيث صار المضمار الحقيقي هو العقول والضمائر لا ميادين القتال. وحيث أيقن خصوم الإسلام أن القوة العسكرية مهما عظمت لا تستطيع أن تستأصل الإيمان من القلوب، ولا أن تفرغ الرسالة من جوهرها، فتحولوا إلى منهج أكثر دهاءً وتأثيرًا هو الغزو الفكري.

واستكمالا لما سبق نوضح أن هذا النوع من النزال لا يستهدف الجغرافيا بقدر ما يستهدف الذات، ولا يسعى إلى هدم الحصون المادية بقدر ما يعمل على هدم الحصون الفكرية والنفسية. ولذلك برزت خطط التغريب التي ترمي إلى إعادة بناء منظومة القيم والمفاهيم داخل الأمة، لتصبح مهيأ بوعي أو بغير وعي لتقبّل رؤى خصومها ومقاييسهم. وفي مقامنا هذا نتناول مسار نظرة خصوم الإسلام له عبر الأزمان منذ الانبعاث النبوي وانتهاءً بالحروب الصليبية، لمعرفة كيف تحوّلت المواجهة من غزو خارجي إلى مسعىً مُنظَّم لإعادة تشكيل الوعي من الداخل.

وإذا ما انتقلنا إلى اللحظة المفصلية التي أضاء فيها فجر الدعوة المحمدية عام 610م، نجد أن العالم دخل في درب حضاري مغاير، حيث حملت الرسالة الخاتمة فيه مشروعاً يتجاوز أطراف العشيرة والمكان، ويناشد الإنسان من حيث هو بشري، غير أنّ التيارات السياسية والدينية التي كانت تسيطر على العالم آنذاك استقبلت هذا التغيير التاريخي بعين الشك والعداوة ؛ إذ لم تدرك أبعاد الرسالة الروحية والإنسانية، ولا استوعبت كونها تدعو إلى تحرير الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية خالقه، ومن قيود الطاغوت إلى فضاء التوحيد والعدل.

وقد كان أولى ردود الأفعال من القوى العظمى آنذاك محكومًا بمنطق التنافس على السلطة والنفوذ، لا بمنطق البحث عن الحقيقة أو تقييم مضمون الرسالة. حيث نظر الفرس والروم -وهما قطبا العالم- إلى الإسلام باعتباره تحركًا سياسيًا يسعى العرب من خلاله إلى كسر قيد التبعية والخروج من صحرائهم الجرداء نحو أرض الخصب والنهرين. هكذا غلبت النظرة المادية على فهمهم، فأبعدتهم عن الجوهر الحقيقي للرسالة الخاتمة.

ففي مشهد يعبر عن عجز القوى الكبرى في ذلك الوقت ما فعله كسرى، حين استلم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم-، أمر بتمزيقه، وأرسل جنوده للقبض عليه. متناسيا أن الرسائل السماوية لا تُقمع بالقوة وحدها. ولذلك لم تسر لأمور كما توقعوا، فقد تغيرت الأحداث بشكل غير متوقع، وانقلبت موازين القوة. حيث حقق المسلمون انتصارات كبيرة في بدر عام 624م، وأحد عام 625م، والخندق عام 627م. ثم استمرت الفتوحات الكبرى في عهد الخلفاء الراشدين بين 632 و661م، وامتدت لتشمل فارس والروم والشام ومصر.

ولم تكن هذه الانتصارات التي تحققت نتيجة لتفوق في العدد أو في الموارد. بل كانت ثمرة إيمان عميق وعقيدة قوية جعلت من مجموعة صغيرة أمة قادرة على مواجهة القوى الكبرى. هذا التغيير كان صدمة للخصوم، فقد تغيرت صورة العرب في نظرهم من مجرد قبائل بدوية غازية إلى قوة تاريخية متماسكة. مدفوعة بقيم تؤمن بوحدانية الله وبالفداء من أجل الحق. وبرزت خلال تلك الفترة أسماء عدد كبير من قادة المسلمين مثل أبي عبيدة بن الجراح (توفي عام 18هـ/639م)، وسعد بن أبي وقاص (توفي عام 55هـ/675م)، وخالد بن الوليد (توفي عام 21هـ/642م) الذي وصل صيته إلى حد أنه في بعض المصادر الغربية يُقال إن مجرد ذكر اسمه يثير الخوف في قلوب الجنود، وحتى الأطفال كانوا يخافون عند سماع اسمه.

 ولئن جمع الخصوم جحافيل هائلة لاستعادة هيبتهم، فقد كانت النتيجة هزائم متكررة، وكان أشدها وقعًا معركة اليرموك (15هـ/636م)، حيث واجه أربعون ألفًا من المسلمين جيشًا يناهز الربع مليون جندي، فكتب الله لهم النصر، وانقلبت موازين القوى في المشرق نهائيًا لصالح الإسلام. فأشعل هذا الانقلاب الاستراتيجي في الغرب رغبة دفينة في الثأر، لكنها بقيت كامنة قرونًا بفعل تراجعهم الداخلي وانقسامهم الديني والسياسي. ومع ذلك، استمر العداء بين الحضارات يتغذى على ذكريات تلك الهزائم القديمة.

وإذا ما انتقلنا إلى القرن الخامس الهجري نجد أنهم لم يترددوا في شن هجمات جديدة، والتي تجسدت في الحملات الصليبية. ورغم ما أصاب المسلمين من ضعف وفرقة آن ذاك، إلا أنهم أدركوا أن المعركة ليست معركة سيوف فحسب، بل معركة إيمان وعودة إلى الله، فاستفتوا العلماء الذين أمروهم بالتوبة وجمع الكلمة.

وكان موقف السلطان ألب أرسلان (ت 465هـ/1072م) في ملاذ كرد(463هـ/1071م) تجسيدًا لهذه الروح؛ إذ خلع ثوب الإمارة ولبس كفنه قبل القتال، فحقق نصرًا أسطوريًا أُسر فيه إمبراطور بيزنطة رومانوس الرابع، مما أعاد للأمة ثقتها بأن النصر ثمرة لليقين والروح المعنوية قبل أن يكون حصيلة العتاد.

غير أنّ شرارة العداء لم تخمد؛ إذ ما لبث البابا أوربان الثاني أن دعا في مجمع (كليرمونت1095م) إلى ما سمي بالحروب الصليبية، مانحًا صكوك الغفران لكل من يشارك في استرداد القدس. فتدفق عشرات الآلاف من فرسان أوروبا على المشرق، وكان الدافع مزيجًا من الدين والطمع والانتقام. وفي تلك الفترة، كانت الأمة الإسلامية مشتتة إلى دويلات صغيرة متناحرة، فقدت طريقها ولم تعد تعرف إلى أين تتجه.

والنتيجة كانت مأساوية، حيث سقطت القدس عام 492 هـ (1099 م) وحدثت واحدة من أفظع المجازر التي عرفها التاريخ. تصفها المصادر الغربية بفظاعة مرعبة، يقول الراهب روبرت (ت 1122م) أحد أشهر المؤرخين الأوربيين في العصور الوسطى- (كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت يروون غليلهم من التقتيل، كاللبؤات التي خُطفت صغارها... وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث). ويزيد المؤرخ (ريموند داجميل ت 1105م) بقوله (لقد قُطعت رؤوس بعض العرب، وبُقرت بطون آخرين، وأُحرِق كثير منهم بعد عذاب طويل، وكانت شوارع القدس تعج بأكداس الرؤوس والأيدي والأرجل).

غير أن هذه الفاجعة أحدثت زلزالاً في الوعي الإسلامي وأيقظت الشعور الجمعي بخطورة التفريط في وحدة الصف. فبدأت إرهاصات مشروع المقاومة الذي توّج بظهور صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ/1138-1193م)، الذي وحّد مصر والشام وأسقط الدولة الفاطمية، ثم أحرز النصر الساحق في حطين (583هـ/1187م)، وأعاد القدس إلى حاضنة الأمة. حيث مثل صلاح الدين تجسيدًا لفكرة أن المعركة الحاسمة لا تُخاض إلا بعد إعداد نفسي وأخلاقي وعقدي يعيد للأمة ثقتها بنفسها.

وبرغم كل ذلك، لم تستسلم أوروبا بسهولة. ففي الحملة السابعة، التي قادها لويس التاسع بين عامي 1214 و1270م، انتهى الأمر بهزيمة كبيرة في المنصورة عام 1250م، حيث وقع لويس أسيرًا في دار ابن لقمان. وكانت هذه اللحظة محورية، حيث فهم الغرب بعدها أن المواجهة العسكرية المباشرة لن تزيل الإسلام أو تمحو حضارته.

ولذلك، كانت هذه بداية تغير طبيعة الصراع، الذي انتقل من معارك السيوف إلى معارك الأفكار. الأمر الذي جعل لويس التاسع يدعوا أتباعه ومن يأتي بعده إلى تغيير طريقة المواجهة، فبدلاً من القتال بالسيوف، يجب أن تكون المعركة على مستوى الفكر والثقافة، لأنه أدرك أن صليل الأفكار أقوى من صليل السيوف. ولذلك أوصى بتكثيف الجهود في مجالات التبشير والتنصير والاستشراق المبكر، وكان من الأوائل الذين دعوا لدراسة الإسلام ولغة العرب. بهدف فهم عقائد المسلمين بشكل عميق، كي يتمكنوا من نشر الشكوك حول دينهم ومعتقداتهم. فلم يكن الأمر مجرد هجوم مباشر، بل كان يهدف أيضًا إلى هدم أخلاقهم وإثارة الفتن الداخلية بينهم. ومن خلال تغير طريقة المواجهة تمكن الغرب من الوصول إلى قلب الأمة بسهولة، من دون الحاجة إلى خوض حروب مفتوحة. وبذلك وضعت بداية مشروع كبير يُعرف اليوم بالغزو الفكري، والذي ما زلنا نشعر بتأثيره حتى يومنا هذا.

ولا يزال الفكر العربي والإسلامي يعاني حتى الآن من تداعيات هذا الغزو الفكري. الذي ظهرت آثاره بوضوح في الصراعات حول الهوية واللغة والقيم. كما نرى محاولات مستمرة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي بعيدًا عن جذوره الحضارية. ولذلك لابد أن نتوقف كثيرا أمام تغير آليات المواجهة ونتمعن فيها ونفكر بعمق حتى نستطيع أن نعيد السيطرة ونحافظ على وعيّنا من أي تأثيرات ثقافية جديدة قد تقتحمنا.

***

بقلم: د. بدر الفيومي

في المثقف اليوم