قضايا
ابتهال عبد الوهاب: الفن بين عمق الروح وسطوة السوق
الفن ليس زينة تعلق على جدار الحياة ولا مجرد ترف جمالي يمر مرور العابرين بل هو مرآة داخلية تعكس اعمق ما في الانسان من ارتعاشات الروح وهمسات النفس. ان الوعي النفسي حين يفتح نوافذه على الفن فانه لا يبحث عن الجمال المصقول وحده بل عن التجربة التي توقظ فيه احساسا ما؛ احساسا قد يكون حزنا او نشوة او قلقا او حتى صمتا مبللا بالدهشة.
الفن بهذا المعنى ليس ترفا بل ضرورة لانه لغة الروح حين تعجز اللغة العادية عن البيان. ولعل اسمى ما يمنحه الفن هو تلك القدرة على ان يجعلنا نصغي الى انفسنا بعمق ان نتعرف على المشاعر التي نسكنها ونخشى الاعتراف بها ان نمد ايدينا الى مناطق في وعينا لم تطأها خطوات العقل بعد.
ان الوعي النفسي الذي يتذوق الفن هو وعي متجاوز لا يقف عند ظاهر الشكل او الاطار بل يسعى الى ما وراءه الى الرموز الى الدلالات الى المعنى الذي يتجاوز ذاته. فالفن حين يهزنا انما يكشف ان فينا شيئا كان ينتظر تلك الرعشة ليبعث من جديد.
ولهذا ليس مطلوبا من الفن ان يكون جميلا بالمعايير المألوفة بل ان يكون صادقا بقدر ما يوقظ فينا شيئا يوقظ الحي من الميت والصوت من الصمت والنور من الظلمة. ومن لا يتأثر بالفن لا لانه لم يعجبه بل لانه لم يشعر بشيء امامه انما يكشف عن فراغ في داخله عن جدار سميك يحجب صوته الداخلي عن سماع نفسه.
لطالما آمنت أن الأدب والشعر والفنون الإنسانية تهذب أخلاق الإنسان وتجعله أكثر رقة، وعاطفة، وإحساسا بالأشياء، واستشعارا لجماليات الحياة ومآسيها على حد سواء.. إذ أن ذلك المكان العميق في الإنسان لا يلمسه سوى أشياء غير مادية تخاطبه على متن الإحساس والشعور
الفن لا يقتصر على اللوحات والمسارح، الفن هو الألوان التي تراها دون اكتراث كل يوم، ستراه في الغروب أو في غيمة تعانق جبل، في اخضرار الشجر ورقص الزهور على أنغام النسائم، في غموض البحر وزرقة السماء ورهبة مشهد النجوم في المساء
أمعن النظر وستجد أن الفن يتجلى في كل شيء حولك، وفيك أنت ايضا
فالفن اذن ليس مجرد وسيلة للتسلية او التزيين بل هو اختبار للوعي امتحان لمدى قدرتنا على التواصل مع ذواتنا وقياس لحجم المسافة بيننا وبين اعماقنا. ومن يملك حسا فنيا حيا يملك نافذة مفتوحة على سر الوجود ذاته.
ظنوا أن الفن مجرد زهرة قرنفل في عروة الجاكت الرسمي
مظهر لطيف ووسيلة تسلية
وظنوا أن الفن هو أخبار المشاهير ووسيلة ربح تجارية
وظن غيرهم أن الفن حرام
كل هذه الظنون تحطم كل يوم جزءا من الساق الثانية لأي حضارة بعد أن تم بتر الأولى. وساقا الحضارة.. العلم والفن
للأسف نحن نعيش في زمن وحشية الاستهلاك لا على مستوى المادة بل حتى مستوى الوعي والمشاعر الإنسانية،
السلعة صارت معيارا لكل شئ: الإنسان، القيم، الفن، المشاعر، التعليم، الثقافة، حتى الدين نفسه تحول مع شيوخ السبوبة إلي سلعة
كل شيء قابل لأن يستبدل او حتى يفقد القيمة وذلك هو سبب تصحر أرواح الناس حيث لم يعد الجمال والمعنى يكمن في الأعماق بل في الصورة الحسية ولذلك قد يتحول الإنسان التافه إلى ايقونه ونموذج
للأسف شوارعنا ينقصها البهجه.. ينقصها الألوان والجمال والفن والحب، ينقصها العازفون والرسامون والمبتسمون، ينقصها أناس لا يتدخلون في شؤون غيرهم ..
شوارعنا كئيبة، جافه، ومعقدة وذات أنوف طويلة جدا. تتدخل فيما لا يعنيها
شوارعنا حزينة رغم زحمتها كقلوبنا تماما
الفن ليس ترفا اذن، بل امتحان للوعي ونافذة على سر الوجود. من يملك حسه يمتلك طريقا الى ذاته، ومن يغلق قلبه دونه يعيش في صحراء بلا ماء، حتى لو امتلك كل مظاهر الغنى.
***
ابتهال عبد الوهاب






