قضايا
سليم مطر: حدود العلم والمعرفة البشرية بين المادية العلموية والدور الالهي!
منذ بدايات الفكر ظلت البشرية تسأل: لماذا تسقط الأشياء إلى الأسفل لا إلى الأعلى؟ ما هي الجاذبية أصلًا؟ لماذا يسبب الجوع الألم وليس الفرح؟ ولماذا توجد حدود لا يقدر العلم على تجاوزها؟
هذه الأسئلة تعبّر عن مفارقة دائمة: كلما كشف العقل سرًّا، وُلد بعده سرّ جديد. ومع ذلك، منذ قرنين، فرضت الحداثة الغربية، ومعها باقي العالم الذي تبنّاها من الصين إلى روسيا، (رؤيةً علموية: أي جعل العلم عقيدة مقدسة) إذ تعتبر أن العلم والعقل البشري هو الإله الجديد، وأن المجهول ليس إلا وقتًا مؤجّلًا. لكن في المقابل، ظلّ تيار فكري عميق يذكّر بأن كل معرفة محدودة، وأن وراء كل قانون لغزًا غيبيا لا يمكن للعقل وحده أن يفسّره.
موقف الثقافة الاوربية عبر التاريخ: ثنائية التيارين المادي والغيبي
انقسم الفكر الأوروبي، منذ بداياته اليونانية الرومانية حتى العصر الحديث، إلى تيارين متعارضين في التعامل مع هذه الاشكالية
أولًا، التيار الميتافيزيقي الغيبي: محدودية العلم والمعرفة البشرية
يرى هذا الاتجاه أن المعرفة البشرية، مهما بلغت، ناقصة ومحدودة، وأن وراء الظواهر قوة أو نظامًا متعاليًا لا يُدرك بالعقل وحده.
ـ سقراط (القرن 5 ق.م): «إني أعلم أني لا أعلم»، شعار الوعي بحدود الإنسان (1).
ـ أفلاطون: ميّز بين عالم الحس المتغيّر وعالم المثل الثابت، ورأى أن المعرفة الحقة لا تُنال بالتجربة بل بالتذكّر والتأمل في الحقائق العليا (2).
ـ أرسطو: اعتبر أن العلم معرفة بالأسباب، لكنه أثبت «المحرّك الأول» الذي يفسّر الوجود ولا يُفسَّر به (3).
ـ الرواقيون وسينيكا: رأوا أن العلم لا يُغني عن الحكمة الأخلاقية ولا يفسّر مصير الروح (4).
ـ في العصور الوسطى، عمّق توما الأكويني هذا الموقف بتأكيده أن العقل يخدم الإيمان ولا يُغنيه (5).
ـ في العصر الحديث، قال إيمانويل كانط إن العقل لا يعرف «الشيء في ذاته»، بل فقط الظواهر (6)
ـ إسحاق نيوتن، اكد أنه يصف القوانين ولا يفسّر علّة الخلق قائلاً: «لا أضع فرضيات» (7).
ـ في القرن العشرين، حذّر (مارتن هايدغر) من أن التقنية حوّلت الوجود إلى «شيء محسوب» ونسيت معناه (8).
ثانيًا: التيار المادي الطبيعي (العلموي)
يقف هذا الاتجاه على النقيض، إذ يرى أن الإنسان والعلم قادران على كشف كل أسرار الكون دون حاجة إلى قوى متعالية غيبية.
في العصر اليوناني الروماني:
ـ ديموقريطس: اعتبر أن كل شيء يتكوّن من ذرات في فراغ، بلا حاجة إلى إله أو محرّك (9).
ـ أبيقور: قال إن الآلهة موجودة لكنها لا تتدخل في العالم، وإن الطبيعة تفسَّر بذاتها (10).
ـ لوكريتيوس في طبيعة الأشياء: «الطبيعة تعمل وفق الضرورة لا الغاية» (11).
في عصر النهضة والحداثة:
ـ فرنسيس بيكون جعل «المعرفة قوة» تُمكّن الإنسان من السيطرة على الطبيعة (12).
ـ ديكارت رأى أن العقل أساس كل معرفة، وأوغست كونت أعلن أن «المرحلة العلمية» هي نهاية تطور الفكر (13).
ـ مع داروين تحوّل التطور إلى تفسير شامل للإنسان والطبيعة (14)، ثم مع ماركس أصبح التاريخ نفسه خاضعًا لقوانين مادية (15).
ـ في القرن العشرين، اعتبر (ريتشارد دوكنز) و(ستيفن هوكينغ) أن الكون مكتفٍ بذاته، وأن العلم قادر في النهاية على تفسير وجوده دون الحاجة إلى خالق (16).
موقف الثقافة العربية عبر التاريخ: تيار جامع بين دور العقل البشري والاشراف الالهي
في التاريخ القديم لمعتقدات وحضارات شعوب العالم العربي السابقة للحضارة العربية الاسلامية، أي الوقعة عند الضفة الشرقية للبحر المتوسط (من سوريا والعراق مرورا بمصر، حتى قرطاجة والمغرب)، كان يسود كما في باقي العالم الاعتقاد الغيبي المعبر عنه بالاساطير والحكم والحكايات.
لكن منذ القرن الرابع ق. م، بعد (غزو الاسكندر) وسيطرة اليونان على العراق والشام ومصر، اصبحت هذه المنطقة الاولى في العالم بعد اليونان، التي تبنت الفكر التحليلي والفلسفي الممتزج بالرؤية الغيبية الروحية، باسماء مختلفة، مثل (العرفانية: الغنوصية) والهرمزية والمانوية، وغيرها، وقد بلغت ذروتها في انبثاق (المسيحية) التي جمعت بين: (اقصى الروحانية الالهية الشرقية: معجزات المسيح)، و(اقصى المنطق الشكلاني اليوناني: الكلمة والتثليث).
اما في العصر العربي الاسلامي، فقد بلغ هذا (التيار الجامع: الغيبي ـ العقلاني) اقصى نضجه في الفلسفة والكلام والبرهان والتصوف. وهو مع تنوعه اتفق على الايمان الكامل بدور الله والوحي في المعرفة البشرية والعلم. حتى أكثر الفلاسفة عقلانية مثل (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد) كانوا يرون أن العقل وسيلة لفهم النظام الإلهي لا بديلاً عنه:
ـ ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا﴾ (سورة الإسراء: 85)، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) (الحج: 54).
ـ الكندي: «يجب ألا نستحي من استحسان الحقّ واقتناءه من أين أتى» (17).
ـ الفارابي: ميّز بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي، فجعل الأول وسيلة لفهم الثاني (18).
ـ ابن الهيثم: «نبتدئ بالبحث والاستقراء حتى نبلغ الحق» (19)، لكنه لم يدّعِ أن التجربة تكشف المطلق.
ـ الغزالي: «ليس الكشف العقلي يبلغ إلى حقيقة الأمور، بل نور يقذفه الله في القلب» (20).
ـ ابن رشد: «الشريعة حق والحكمة حق، ولا يضاد أحدهما الآخر» (21).
ـ ابن خلدون: رأى أن للعلم وظيفة ضمن «العمران»، لكنه لا يتجاوز حدود الطبيعة التي رسمها الله (22).
ومع ذلك، وُجد تيار تأويلي عقلاني مفرط عند بعض المعتزلة، وكذلك لدى (ابو بكر الرازي) الذين قالوا إن العقل قادر على إدراك الخير والشر بذاته. لكنهم لم ينكروا دور الله في العلم والمعرفة، وان العقل هو هبة إلهية للعالم (23). (25). لكن يبقى الاكثر شهرة هو (ابن الراوندي: ت 911م) الذي قال في الزمرد إن الأنبياء «أضرّوا بالعقول»، وإن العقل وحده كافٍ لمعرفة الحقيقة. لكنه بقى فردا معزولا ولم يشكل تيارا او اثرا فكريا واضحا(24).
الفكر العربي في العصر الحديث: يبدو ان الاجتياح الاستعماري والثقافي الغربي للعالم العربي، منذ اواخر الدولة العثمانية، وتشجيع نفوذ التيارات الغربية اليسارية والليبرالية، ادى الى تمزق الهوية الثقافية العربية، وفقدانها خصوصيتها التاريخية الجامعة بين دور العقل البشري والاشراف الالهي. واسوء تعبيرات هذا التمزق، الانقسام الى تيارين متناقضين متحاربين:
ـ التيار الغربي المادي الحداثي بمختلف مسمياته الليبرالية واليسارية. والذي تمكن بدعم غربي مادي علني وخفي من فرض سيطرته على الدول والمجتمعات والاحزاب وعموم المؤسسات الثقافية في العالم العربي.
ـ التيار السلفي الاسلامي، باشكاله الشيعية والسنية والتصوفية، المتعصب والرافض حتى للتراث الفكري والابداعي العربي الاسلامي.
نقد سيطرة التيار العلموي في الغرب المعاصر
كما رأينا، رغم وجود هذان التياران المتعارضان طيلة التاريخ الثقافي الغربي منذ اليونان والرومان حتى الوقت الحالي، الا انه في العصر الحديث ثمة عملية فرض لسيطر التيار العلموي المادي، في الثقافة السائدة والتعليم والاعلام، مع تعتيم مقصود على التيار السماوي، وذلك لغايات عقائدية سلطوية. هذه بعض المقولات الناقدة لهذه الهيمنة، لشخصيات فكرية معروفة، اوربية وعربية:
ـ بول فييرآبند: «العِلمُ إنما هو أيديولوجيا ضمن أيديولوجياتٍ متعددة، وينبغي فصله تمامًا عن الدولة كما فُصِل الدين عن الدولة.» (26).
ـ سي. إس. لويس: «سيظهرُ “مُكيِّفون” مسلّحون بدولةٍ قادرةٍ على كلِّ شيء وبـ“تقنيةٍ علميةٍ لا تُقاوَم”، يَصوغون الأجيالَ كما يشاؤون.» (27).
ـ يورغن هابرماس: ينتقد «الفهمَ العلمويَّ لذات العلم» بوصفه نزعةً تُحوِّل المعرفةَ العلمية إلى إيديولوجيا تُقصي أشكال الفهم الأخرى وتبرّر سلطةَ الخبراء. (28).
ـ هوركهايمر وأدورنو: «عقلُ التنوير حين يتحوّل إلى أداةٍ خالصةٍ للحساب والسيطرة يغدو أيديولوجيا للهيمنة باسم العلم والتقنية.» (29).
ـ جاك إيلول: «النظامُ التكنولوجي يَفرِض منطقَه على المجتمع والإنسان… ويُعيد تشكيلَ الحاجات والأولويات والسلوك اليومي» (30).
ـ أوستن ل. هيوز: «تحوّلت الدعوى القائلة إن العلوم الطبيعية هي الطريقُ الوحيدُ للمعرفة إلى أيديولوجيا.» (31).
ـ عبد الوهاب المسيري: «سطوةُ العلمِ الطبيعيِّ قد قُوِّضت في الغرب، بينما لا يزال بعضنا يتصوّرها المدخلَ الوحيدَ لفهم الإنسان.» (32).
ـ طه عبد الرحمن: ينتقد «الرؤيةَ الأحادية» التي تفصلُ القيمَ عن المعرفة وتؤدلجُ العلمَ ضمن منظورٍ علمانيٍّ يُقصي المتعالي. (33).
***
سليم مطر ـ جنيف
.......................
المصادر
(1) أفلاطون، الاعتذار، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ص 42.
(2) أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة، ص 179.
(3) أرسطو، الميتافيزيقا، ترجمة إسحق عبود، دار الأندلس، ص 15.
(4) سينيكا، الرسائل الأخلاقية إلى لوسيليوس، ترجمة جورج حنين، دار المدى، ص 210.
(5) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، ج 1، دار الفكر المسيحي، ص 31.
(6) إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، المركز القومي للترجمة، ص 102.
(7) إسحاق نيوتن، الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية، ترجمة عبد الحميد صبرة، دار النهضة، ص 12.
(8) مارتن هايدغر، السؤال عن التقنية، ترجمة فتحي المسكيني، دار الجمل، ص 21.
(9) أرسطو، الميتافيزيقا، فقرة 985b4–20 (عن ديموقريطس).
(10) أبيقور، رسالة في السعادة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ص 15.
(11) لوكريتيوس، في طبيعة الأشياء، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ص 42.
(12) فرنسيس بيكون، تأملات مقدسة، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة، ص 95.
(13) أوغست كونت، دروس في الفلسفة الوضعية، ج 1، دار الطليعة، ص 7.
(14) تشارلز داروين، أصل الأنواع، ترجمة إسماعيل مظهر، القاهرة، ص 25.
(15) كارل ماركس، رأس المال، ترجمة فالح عبد الجبار، ج 1، ص 11.
(16) ريتشارد دوكنز، وهم الإله، ترجمة حسان ميخائيل إسحق، ص 19.
(17) الكندي، رسالة في الفلسفة الأولى، تحقيق عبد الرحمن بدوي، القاهرة، ص 103.
(18) الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، القاهرة، ص 16.
(19) ابن الهيثم، كتاب المناظر، تحقيق عبد الحميد صبرة، بيروت، ج 1، ص 8.
(20) الغزالي، المنقذ من الضلال، دار المعارف، ص 22.
(21) ابن رشد، فصل المقال، دار الفكر العربي، ص 14.
(22) ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، بيروت، ص 435.
(23) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، القاهرة، ص 55.
(24) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، دار المعرفة، ص 86.
تمثل حالة ابن الراوندي نموذجًا لما يُعرف في الدراسات الحديثة بـ «الإلحاد الفردي» أو «الاعتراض الفكري المعزول»، فبرغم طابعه الجدلي وميله إلى انتقاد الأصول الدينية، فإن أفكاره لم تُنتج تيارًا فكريًا مستقلًا، ولم تؤسس مدرسة أو تلاميذ. وقد لاحظ المستشرق الألماني جوزف فان إس، المتخصص في علم الكلام، أن ابن الراوندي «ظل على هامش الجدل اللاهوتي الإسلامي، ولم يحظ فكره بأي امتداد مؤثر».
Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra, Bd. 2, S. 628–630.
(25) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 87.
(26) بول فييرآبند، ضد المنهج، عرض موقع الجزيرة، 15 تموز 2017.
(27) سي. إس. لويس، إلغاء الإنسان، عرض مؤسسة C.S. Lewis Institute.
(28) يورغن هابرماس، دراسات نقد النزعة العلموية، مجلة جامعة دمشق، ملف PDF.
(29) ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، جدل التنوير، عرض الجزيرة الثقافي.
(30) جاك إيلول، المجتمع التكنولوجي، قراءات عربية.
(31) أوستن ل. هيوز، «حماقة العلموية»، The New Atlantis، خريف 2012.
(32) عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، دار الشروق.
(33) طه عبد الرحمن، روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المركز الثقافي العربي.






