قضايا
جورج منصور: الثقافة والفن جسراً للهوية الوطنية
في بلدٍ مثل العراق، حيث تتجاور الهويات وتتقاطع الذاكرات وتتعاقب الأوجاع والأحلام، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للفن والثقافة أن يكونا جسراً يربط بين مكوّنات هذا المجتمع المتعدّد؟
الجواب، في رأيي، هو نعم. بل إنّ الفن والثقافة قد يكونان السبيل الأصدق والأعمق لإعادة بناء النسيج العراقي بعد عقودٍ من التمزق والاحتراب.
يمكن للفن أن يكون الجامع الأعمق للهُوية الوطنية حين يُنظر إليه بوصفه لغة الروح، لا وسيلة الانتماء الضيّق. فالفن، بما يحمله من حسٍّ إنساني وجمالي، يتجاوز الجغرافيا واللهجات والسياسة، ليعبّر عن جوهر الإنسان في كل مكان. في العراق، تتجاور أنغام العود العربي مع الدف الكردي، وتلتقي الزخرفة الآشورية مع الخط العربي، وتتعانق الأغنية السريانية مع المقام البغدادي. هذا التنوع، حين يُفهم في سياقه الطبيعي، لا يمثّل تفرّقاً بل ثراءً، ولا اختلافاً بل تنوّعاً يؤكد وحدة الجذور وتعدّد الأغصان.
الفن هو اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة، ولا تعرف الحدود الطائفية أو القومية. حين تعلو نغمة المقام العراقي، أو يصدح شاعر بكلمةٍ صادقة عن الوجع والفرح، أو يرسم فنان مشهداً من بغداد القديمة أو من أهوار الجنوب، فإننا لا نرى مذهب الرسام ولا قومية الشاعر، بل نرى العراق في صورته الإنسانية الجامعة. فالفن يتحدث إلى القلب، والقلب لا يعرف سوى الجمال والصدق.
إنّ الفنون العربية والكردية والتركمانية والآشورية والسريانية ليست مجرّد تعبيرات عن هويات فرعية، بل هي مجموع أصوات تعبّر عن الوجدان العراقي في تنوّعه. حين يغنّي الكردي للجبل، والعربي للنخلة، والمندائي للنهر، والآشوري للطبيعة، فإنّ كلاً منهم يصف وجهاً من وجوه الوطن ذاته.
إنّ الوحدة لا تتحقق بالصهر أو الإلغاء، بل بالاعتراف بأن كل لونٍ من ألوان الفن خيطٌ في نسيج الوطن. فالتنوّع الفني لا يُضعف الهوية الوطنية، بل يمنحها عمقاً وبعداً إنسانياً يجعلها قادرة على مخاطبة العالم بثقةٍ وتفرّدٍ لا يشبه إلا العراق نفسه.
ولكي يكون الفن جامعاً حقّاً للهُوية الوطنية، لا بد أن يحظى بحريةٍ صادقةٍ ومساحةٍ عادلةٍ لكل المبدعين، بعيداً عن التسييس والتهميش. فالمؤسسات الثقافية والإعلامية ينبغي أن ترى في هذا التنوّع طاقةً خلاقة، لا تهديداً للوحدة. عندها فقط يمكن للفن أن يتحوّل إلى جسرٍ بين المكوّنات، وإلى لحنٍ وطني واحدٍ تُعزفه الحرية، ويقوده الوعي بأن الجمال لا يُعرف بلغةٍ واحدة، بل بكل اللغات التي تنبض على هذه الأرض.
الثقافة بدورها ليست ترفاً ولا هواية، بل ذاكرة وطنية مشتركة تذكّرنا بأننا ننتمي إلى أرضٍ أنجبت أول كتابةٍ وأول قانونٍ وأول أغنية. من سومر إلى العباسيين، ومن المقام إلى المقاهي الأدبية، من السيّاب إلى يوسف العاني، ومن الجواهري إلى سعدي يوسف... جميعهم صاغوا وجداناً عراقياً واحداً، مهما حاولت السياسة تمزيقه.
وللفن أيضاً قدرةٌ ناعمة على فتح الحوار دون صدام؛ فحين يُقدَّم على المسرح عملٌ يناقش الانقسام أو الفساد أو الاغتراب، فإنه لا يهاجم أحداً، بل يعكس مرآة الواقع ويدعو إلى التفكير. إنها الطريقة الأذكى لطرح الأسئلة الكبرى من دون ضجيجٍ ولا خصومة.
لكن لا يمكن للفن أن يؤدي دوره ما لم يجد الحرية والدعم والاحترام. فالمبدع لا يزدهر في بيئةٍ خائفةٍ أو محاصَرة. الدولة التي تؤمن بالثقافة، والمجتمع الذي يحتفي بالمبدع بدل أن يهاجمه، هما الشرطان الأساسيان لتحويل الفن من نشاطٍ فردي إلى مشروعٍ وطني.
نحن اليوم بحاجةٍ إلى مشروعٍ ثقافيٍّ عراقيٍّ جديد، لا يقوم على التباهي بالماضي فحسب، بل على استلهامه لبناء المستقبل. مشروع يجعل من المسرح والموسيقى والسينما والكتاب جسور تواصلٍ بين المدن والقلوب، لا أدوات دعايةٍ أو ترفاً للنخبة.
فعندما يغنّي العراقي مع أخيه من مدينةٍ أخرى، ويضحك على مشهدٍ مسرحيٍّ يتحدث عن وجعه المشترك، ويقرأ روايةً تصف غربته وآماله، عندها فقط يمكن القول إنّ الفن والثقافة قد أدّيا رسالتهما: إعادة اكتشاف الإنسان فينا، قبل أي انتماءٍ آخر.
يُعدّ الفن أحد أهم الحقول الرمزية القادرة على التعبير عن الهوية الوطنية وصياغتها في آنٍ واحد، إذ يتجاوز بطبيعته الحدود اللغوية والإثنية والدينية، ليصبح أداةً للتواصل الإنساني العام. وفي السياق العراقي، تتجلّى هذه الخاصية بوضوح من خلال التنوّع الثقافي الواسع الذي يجمع الفنون العربية والكردية والتركمانية والآشورية والسريانية والمندائية وغيرها في نسيجٍ واحدٍ متعدّد الألوان. هذا التنوّع، حين يُفهم في إطاره الطبيعي، لا يمثل انقساماً، بل يشكّل رصيداً ثقافياً يمكن أن يُسهم في ترسيخ هويةٍ وطنيةٍ جامعةٍ، قوامها الاعتراف المتبادل والاحترام المتكافئ بين مكوّناتها.
إنّ الفنون العراقية بمختلف تجلياتها لا تعبّر عن هوياتٍ فرعيةٍ منعزلة، بقدر ما تعبّر عن وجوهٍ متكاملةٍ لوجدانٍ وطنيٍّ واحد. فحين يُتاح للفن أن يعمل بحريةٍ وضمن رؤيةٍ ثقافيةٍ شاملة، يصبح وسيلةً لإعادة إنتاج الانتماء المشترك، لا لإعادة إنتاج الانقسام. إنّ المشروع الثقافي الوطني لا يكتمل بفرض هويةٍ واحدة، بل بخلق تفاعلٍ خلاّقٍ بين الهويات، يُعيد صياغة مفهوم الوطن على قاعدة الجمال والتنوّع العراقي المشترك. ومن ثمّ، يغدو الفن ليس مرآةً للوطن فحسب، بل أداةً في بنائه واستمراره.
من هذا المنظور، يصبح الفن فضاءً للتكامل الرمزي لا للصراع الهويّاتي، ويغدو وسيلةً لإعادة تعريف "العراقية" بوصفها مشروعاً ثقافياً جامعاً يتأسس على التعدّد لا على التطابق.
ولتحقيق هذا الدور الجامع في الواقع، لا بدّ من توافر بيئةٍ ثقافيةٍ ومؤسساتيةٍ داعمة، تقوم على العدالة في تمثيل الفنون المحلية، وتكفل حرية التعبير والإبداع لجميع المكوّنات دون استثناء.
إنّ بناء هويةٍ وطنيةٍ جامعةٍ عبر الفن يتطلّب رؤيةً رسميةً تعترف بأنّ الجمال لا يُعرف بلغةٍ واحدة، بل بكلّ اللغات التي تنبض على هذه الأرض. وبهذا الفهم، يتحوّل الفن العراقي من مجرّد انعكاسٍ للتنوّع إلى أداةٍ فعّالةٍ في إنتاج الوحدة، ومن مظهرٍ ثقافي إلى قيمةٍ وطنيةٍ جامعة.
فالموسيقى والمسرح والسينما والتشكيل والشعر، كلّها لغاتٌ يفهمها الجميع رغم اختلاف الانتماءات. والعراق ليس فقط مكوّناتٍ متجاورة، بل حضارةٌ تمتدّ إلى آلاف السنين.
الثقافة تُعيد الناس إلى الجذور المشتركة: سومر وبابل وآشور، بيت الحكمة والمقام العراقي والمقاهي القديمة.
إنّ الفن والثقافة هما الذاكرة المشتركة واللغة التي تُعيد تعريف "العراقي" بمعناه الإنساني الشامل، لا الطائفي الضيّق.
ومنذ أن تشكّلت أرض الرافدين مهدًا للحضارات، كانت تنوّعاتها القومية والدينية والمذهبية والثقافية جوهراً لخصوبة التجربة العراقية، لا مجرّد فسيفساء بشرية. فالعراق لم يكن يوماً لوناً واحداً، بل لوحةً رسمتها قرونٌ من التفاعل والتجارة والهجرات والاحتكاك.
لكنّ هذا الفن لم يكن دائمًا بمنأى عن الجرح. فحين تتراجع القيم المدنية ويتقدّم خطاب التعصّب والمصالح الضيقة، تضعف الروابط التي تحفظ النسيج الوطني. لذلك، يصبح واجب النخبة الثقافية، والمؤسسات التعليمية، والإعلام الحرّ، أن تُعيد ترميم هذا الفنّ، وتُعيد إلى الوعي الجمعي العراقي قدرته على الإصغاء المتبادل لا الاتهام المتبادل.
إنّ بناء السِّلم الأهلي لا يبدأ في القصور ولا في القاعات السياسية، بل في المدرسة، في الحارة، في الأغنية الشعبية التي تُغنّي للجار قبل الدار. ويبدأ في احترام المختلف لا بوصفه خصماً، بل شريكاً في المصير والذاكرة. فالمكوّنات العراقية ليست جُزراً منفصلة، بل أنهاراً تصبّ في دجلة والفرات، كلٌّ منها يحمل طميه الخاص ليغذّي خصوبة الوطن الواحد.
في النهاية، فإنّ فنّ المكوّنات العراقية مشروعٌ أخلاقيٌّ وجماليٌّ بقدر ما هو وطنيّ: أن نرى في التنوّع جمالًا، وفي التعدّد ثراءً، وفي الآخر مرآةً للذات. ومن هنا يمكن للعراق أن يستعيد صوته الحقيقي: صوت الصداقة، والسَّلام، والكرامة الإنسانية.
إنّ فنّ العيش المشترك في العراق ليس شعاراً حديثاً، بل إرثٌ اجتماعيٌّ عميق، يُمارَس في الأسواق، وفي الأعراس، وفي المضايف والمقاهي التي جمعت الكردي والتركماني والعربي والآشوري والكلداني والسرياني، والمسيحي والمسلم والإيزيدي والصابئي، على مائدةٍ واحدةٍ ونغمةِ عودٍ واحد. هذا التعايش هو ما يمكن أن نسمّيه: فنّ المكوّنات العراقية.
***
جورج منصور






