قضايا
مصطفى غَلمَان: الفكر الذي لا يـُروَّض
 
			جورج أورويل: "السلطة ليست وسيلة، إنها غاية. ليس الغرض من القمع حماية النظام، بل القمع ذاته".
أفلاطون: "أسوأ أنواع الجهل أن يظن الجاهل أنه يعرف." (ولهذا يسهل على المستبدين توجيه الجاهلين لأنهم لا يشكّون).
لا يمكن النظر للاستبداد كنظام سياسي فحسب، بل هو أيضا بنية إدراكية تُعيد تشكيل الوعي الجماعي بحيث يبدو القمعُ حمايةً والجهلُ راحةً والخضوعُ فضيلةً. فالطغاة لا يخشون السلاح بقدر ما يخافون الوعي المتعلّم، لأن المعرفة، كما قال ميشيل فوكو، "تنتج السلطة كما تقاومها في الآن ذاته". أي إنها تكشف أن السلطة ليست قدراً مفروضاً، بل نتاج علاقات اجتماعية قابلة للمساءلة والتغيير.
إن الأنظمة الاستبدادية تقوم بالأساس على معادلة دقيقة، أن تظل السلطة وحدها مالكة للمعرفة، وأن يظل الشعب متلقّيًا لها بوصفها "حقيقة مطلقة". فالاستبداد لا ينهار بالعنف، بل بالتساؤل؛ لذلك يسعى إلى هندسة الجهل باعتباره ضمانةً للاستقرار. وفي هذا السياق، يتحوّل التعليم من وسيلةٍ للتحرّر إلى جهازٍ لإنتاج الطاعة. وتغدو المدرسة، كما لاحظ فوكو في المراقبة والمعاقبة، مؤسسةً لترويض الأجساد والعقول، حيث يُقاس النجاح بمدى الامتثال لا بقدرة النقد.
الأنظمة السلطوية تعرف أن المعرفة هي "سلطة رمزية" كما وصفها بيير بورديو، وأن من يملك تعريف الأشياء يملك السيطرة عليها. ولهذا، تُخضِع الخطاب التعليمي والإعلامي والثقافي لرقابة شاملة، تجعل المواطن يرى في الاستبداد شرطًا للاستقرار، وفي الجهل حمايةً من الفوضى. وهكذا يتحوّل الخضوع من فعل قسري إلى قناعة اجتماعية داخلية.
إن التعليم في جوهره فعل مقاومة. إنه، كما يصفه باولو فريري في تربية المقهورين، "حوار بين الإنسان والعالم"، لا تلقين للمعلومات بل بناء للوعي النقدي. غير أن الطغاة يدركون أن العقل المتعلم يسأل، وأن السؤال هو أول تمردٍ ضد الصمت. ولذلك، يحرصون على إضعاف المدرسة وتحويلها إلى جهاز لإنتاج الشبه معرفة، إلى فضاءٍ "يُعلّم الناس ما ينبغي أن يعتقدوه لا كيف يفكرون".
فالأمة الموفورة بالعلم والصحة والكرامة يصعب حكمها بالخداع، لأنها تملك أدوات التمييز بين السلطة والمشروعية، وبين الدولة والهيمنة. ويدرك المواطن أن الدولة وُجدت لخدمته، لا لإخضاعه، تنهار "الميتافيزيقا السياسية" التي تجعل الحاكم فوق القانون.
وعلى هذا الإساس يمكن القول، أن الخوف هو رأسمال الطغيان. حيث النظام المستبد لا يحكم بالقوة وحدها، بل بإنتاج ثقافةٍ نفسية تجعل الناس يخافون من التغيير أكثر مما يخافون من الظلم. وهنا نستحضر تحليل حنّة أرندت في أسس التوتاليتارية حين ربطت بين "الخوف الجماعي" و"تفكك المعنى"، معتبرة أن الأنظمة الشمولية لا تُبقي الناس تحت السيطرة عبر الإكراه المادي، بل عبر تجريدهم من القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب.
في هذا السياق، يغدو الإعلام أداةً لإنتاج القلق، لا للمعرفة؛ والتعليم وسيلةً لتطبيع العجز، لا لتوليد الفعل. فكلما تضخّم الخوف، تقلّ الحاجة إلى القمع المباشر، لأن الناس يصبحون حراسًا لأنفسهم. وهذا ما يسميه إريك فروم في الخوف من الحرية “الهروب من الحرية”، أي استبطان الخوف بوصفه آليةً دفاعية ضد مسؤولية الوعي.
ولا تكتفي الأنظمة المستبدة بالتحكم في مؤسسات الدولة، بل تسعى إلى السيطرة على المعنى ذاته. يقول أنطونيو غرامشي في مفهومية "الهيمنة الثقافية": "إذ لا يكفي أن تملك الدولة أدوات القمع، بل يجب أن تُقنع الناس بشرعية خضوعهم".
تُحوِّل السلطة رموز الدين، والتاريخ، والوطنية إلى أدوات لتبرير القهر، فيغدو الاستبداد مغطى بخطاب مقدّس يجعل مقاومته نوعًا من "الخيانة". إنها لا تُخضع الأجساد فحسب، بل تحتلّ المخيلة واللغة والذاكرة. إذ حين تحتكر السلطة المعنى، تفقد الأمة قدرتها على الحلم، ويغدو التفكير جريمة. لكن الشعوب التي تستعيد لغتها تستعيد حريتها، لأن اللغة ليست وسيلة للتعبير فقط، بل أداة لبناء الوعي الجماعي. فالكلمة الحرة هي أول خيطٍ يُفكك نسيج الطغيان.
وكما أن الاستبداد يعيش على النسيان. حيث ينسى الناس ما حدث، فيُعاد إنتاجه باسم الخلاص. يُعيد التعليم النقدي ربط الذاكرة بالمستقبل، ويُذكّر الإنسان بأنه فاعل في التاريخ لا مجرد مفعول به. ومن ثمة نفهم لماذا يخاف الطغاة من الجامعات والمفكرين والمثقفين، لأنهم يحتكرون قدرة اللغة على تسمية الأشياء بأسمائها، أي على فضح الوهم. فحين تتعلم الشعوب أن تطرح السؤال، تُهزم السلطة في ميدانها الأعمق: ميدان الشرعية المعنوية. فكل استبدادٍ يبدأ بسجن الفكرة، وكل تحرّرٍ يبدأ بإطلاق السؤال.
إن معركة الوعي ليست سياسية فقط، بل أنطولوجية في جوهرها. إنها معركة الإنسان لاستعادة ذاته من آلة الخوف. وحين يصبح التفكير فعلًا جماعيًا، تتحول المجتمعات من موضوعٍ للسلطة إلى ذاتٍ فاعلة. ويصدق قول فوكو: "حيث توجد سلطة، توجد مقاومة" والمقاومة الكبرى هي مقاومة الجهل والخضوع الرمزي. لذلك، فالأمم التي تستثمر في التعليم والثقافة لا تصنع اقتصادًا قويًا فقط، بل تُشيّد مناعة فكرية ضد الاستبداد. فالمعرفة ليست مجرد وسيلة للنهوض، بل ضمانة أخلاقية ضد العودة إلى الظلام.
أعتقد أنه حين يفكر الإنسان بحرية، يفقد الطغاة قدرتهم على إخافته. تكون المعرفة كلحظة الوعي بالظلم ورفض الصمت، فالتعليم الحق مثلا، لا يُنتج موظفين مطيعين، بل مواطنين ناقدين، والثقافة الحية لا تُنتج الترف الفكري، بل الإرادة الحرة.
إن الطغاة يخافون من الشعوب المتعلمة لأنهم يدركون أن الوعي يزعزع الأسطورة التي قامت عليها سلطتهم، ويعيد توزيع القوة بين الدولة والمجتمع. فالثقافة هي الثورة التي لا تُعلن، والمعرفة هي السلاح الذي لا يُصادر، والفكر هو آخر حصون الحرية. وحين يستيقظ العقل الجمعي، لا يبقى للاستبداد سوى أن يختبئ من ضوء الحقيقة.
***
د. مصطفى غَلمَان






