قضايا
محمد سيف: بين الأفكار ونمط التفكير.. سِجالُ السبب والأثر

تتصدّر عملية (مراجعة الأفكار) قائمة الممارسات الدورية التي يحرص عليها ذَوُو المستويات السامقة من الوعي، أولئك الذين أُوتوا حظا كبيرا من هوَس الأسئلة العنيدة التي لا تهدأ، فهذه الفئة تدرك تماما أنّه لا توجد فكرة - مهما تضافرت دلائلها - متعاليةً على النقض أو النقد، وهذه طبيعة صحيّة للمعرفة؛ بحكم صفة التراكم المبني على عوامل لا تنفكّ تتغير وتتأثر زمانا ومكانا، فـ "أيُّ علم لا يخلق بذور تجاوزه فهو ليس علما!"(1) بحسب تعبير الدكتورة نور الهدى باديس.
على أنه كلما كانت تلك الأفكار رئيسةً تتفرّع عنها حزمة كبيرة من الأفكار الفرعية المنضوية تحت مظلتها، أو كان تقادم اعتناقها سنين طُوال حتى باتت جزءا من هُوية صاحبها، أو كانت ذات مسحة مقدسة يحظر الاقتراب منها ولو بشبه اعتراض، أو كانت مشوبة بدفقة مكثفة من المشاعر، فهُنا تتزايد الحاجة إلى أولوية مراجعتها أكثر من أترابها.
ما سبق هو توطئة لما أريد أن ألفت النظر إليه، وما يأتي ليس إبطالا لِما ابتغيتُ البناء عليه، بل هو تأكيد للمهم وإشارة إلى أنه ثمّة ما هو أهم! فلا غَرْوَ أنّ عملية المراجعة الدورية إذْ تطال الأفكار بأطيافها كافّة، من الضرورة بمكان، إلا أنّ هناك مُتعلَّقا أهم من الأفكار مهما كانت قوية، ينبغي أن تنسحب عليه عملية المراجعة كذلك، وهو نمط التفكير (Mindset)!
إنّ نمط التفكير هو الإطار المحدِّد والمِشْجَب الذي تُعلَّق عليه الأدوات الفاحصة التي نعاير بها أفكارنا، ونستدلّ بها على صحيحها من سقيمها، وسمينها من هزيلها، وإن شئت فقل إنّ نمط التفكير هو المائز الذي به نقف على ماهيّة ما بحوزتنا من أفكار على اختلاف صيغها آراءً أو انطباعات أو معتقداتٍ أو حقائق أو ميولا أو ظنونا…إلخ
ولك أنْ تتخيّل الكارثة الفكرية التي يقع الواحد منّا فيها إذا ما كان نمط تفكيره مشوَّها، فأفكاره - لا ريب - ستكون من سِنْخها، يعتريها التشويه لا محالة، والخطورة تكمن في أننا نظن أننا نُحْسن صنعا حين نقلّب الأفكار فحصا وتمحيصا، ونخلُص من ذلك إلى الظنّ بأنها أفكار جيدة أو سيئة، في نتيجةٍ مشوَّهة، فلا ندري أننا لا ندري! تماما كمرتدٍ نظارة بعدسات حمراء، فهو صادق حين يقول: إن الجبل الذي أراه أمامي أحمر قانٍ، لكنه لا يدري أنّ هذه النتيجة مغلوطة بسبب الوسيلة التي توصّل من خلالها إليها!
على أنّني لا أنْبَري مُدّعيًا بأن هناك نمطَ تفكيرٍ غير مشوّه بالمرّة أو حتى أننا يمكن أن نصل إلى درجة نقية من التشويه، فذلك غير مطروح - على الأقل في تقديري الشخصي - وذلك بحكم الطبيعة التكوينية لأدمغتنا، ولكن أوضّح ضرورة الانتباه إلى إعادة النظر في علاقتنا بنمط تفكيرنا من ناحية، وكذلك إفراغ الجهد في تقويم أنماط تفكيرنا على الدوام من ناحية أخرى؛ حتى ينعكس أثر ذلك على ما نتبنّاه من أفكار فيما بعد، والتي تُدَوْزِنُ حياتنا بدورها! ولكن ما أحدَثَ خرابا فهو راجع لنمط التفكير في المقام الأول وليس للفكرة المتبنّاة بحدّ ذاتها.
ولمحمد عابد الجابري لفتة مهمة، وهي وإن كانت واردة في سياق التحليل الناظر لاتجاه معين، إلا أنها تتأهّل أنْ تكون ملاحظة عامة في بحثنا حول تموضع نمط التفكير، إذْ يقول: "ليس هذا وحسب ، بل إنّ السيرافي يرفض أن تكون هناك طريقة واحدة لاختبار المعاني والأفكار حتى يمكن أن يُقال إنّ المنطق كالميزان يُعرف به الصواب من الخطأ؛ ذلك لأنه: "ليس كل مافي الدنيا يوزَن، بل فيها ما يُوزن، وفيها ما يُكال، وفيها ما يُذْرَع، وفيها ما يُمسح، وفيها ما يُحْزر، وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه على ذلك أيضا في المعقولات المقررة" واضح أنّ السيرافي هنا يرفض العقل الكوني، وهو رفض يعكس الاصطدام بين نظامين معرفيين يختلف كلٌ منهما عن الآخر، وإذن المسألة هنا ليست مسألة اختلاف وجهات النظر، بل إنّ المسألة أعمق من ذلك كثيرا، إنها مسألة ما يؤسس النظر ذاته عند كل من السيرافي ومتَّى"(2) فالجابري هُنا يشير إلى الحلقة الحاكمة السابقة على حلقة الأفكار اللاحقة، وهي المنظومة المؤسِسة إيّاها، وثمّة بَوْن شاسع فيما بينهما، فالأفكار نسل نمط التفكير، وواردٌ جدا أن تكون الأفكار جيدة بما هي تتفق ونمط التفكير الذي أنتجها؛ ولذلك لا يمكن الانتباه لِخَطَلِها؛ لأنّه حين تُراجَع لا يظهر عليها سوى أمارات الرُّجحان، وهكذا فلنقل في الأفكار المرفوضة، ليس لعلة فيها، بل لعلة حاصلة في نمط التفكير الذي رفضها، والسبب كما يتجلّى راجع لنمط التفكير نفسه الذي أنتج خِلفَةً شَوْهاء!
وقد أطلقتُ على محدِّدات نمط التفكير وصف (المغربِلات) في كتابي: مَن اختطف عقلك؟! حيث ذكرت "من الطبيعي جدا أن يكون لكل منّا أدواته التشريحية التي يغربل بها الأفكار، ومع ذلك فلا تتوقع مني أنْ أسرد عليك قائمة من تلك الأدوات، وإنّما غاية ما أصبو إليه في هذا الموضع هو أنْ تدرك ضرورة أن تُولي العناية الكبرى بغربلة مغربِلات الفكرة - بشكل دوري - أكثر من غربلة الأفكار نفسها! إذْ إنّ أيّ عطل يصيب تلك المغربِلات من شأنه أنْ يؤدي بك إلى نتائج مشوّهة، ففي كثير من الأحيان نكون ماهرين في كيفية توظيف تلك المغربِلات، وهذا وحده لا يكفي إن لم تكن تلك المغربِلات صالحة للاستعمال العقلي أساسا".(3)
على أنّه يمكن أن تكون إحدى الأفكار الكبيرة بمثابة مُعايِر من مُعايِرات نمط التفكير، فتكون هذه الفكرة مرشَّحا نختبر بها الأخريات من الأفكار الصغرى، وأشير إلى هذه الدقيقة المهمة في كتابي مَنْ اختطفَ عقلك؟!: "وعليه؛ ففي كثير من الأحيان لا تكمن المشكلة في أدلة فكرة ما، وإنما في فكرة كبرى تمسك بعنان رقعة كبيرة من أفكارك وتوجّه بوصلتها!" (4)
ومما يُؤسَف له أنك واجدٌ عينات من المجتمع يتمحور نمط تفكيرها الذي تُعاير به الأفكار الواردة إليها، حول معايير هزيلة كمعيار الأغلبية، أو القاسم المشترك بين الأديان، أو الحاجة أو ما ينص عليه كتاب محدد أو أساطير الحضارات أو النفعية أو العاطفة الجمعية أو العنصرية لعِرق أو مذهب أو ما يفتي به رجل دين ما أو حتى مجرّد الإحساس بالارتياح أو الاحتمال بسبب ماضٍ مماثل، إلى قائمة لا تنتهي من المعايير التي لربما لا نكترث لها لكنها تسيّر نظرتنا في تقبّل الأفكار من عدمه بطريقة ما.
لَمْلَمَةً لِما بيَّناه، فإنّ تصوّراتنا تنهض سياقا عاما تنتظم فيه مفردات حياتنا بناسها وأحداثها وأشيائها، فلا نتعاطى معها إلا من خلال منظورها، وتتغوّل خطورتها حين تكون متقادمة أو معجونة بمشاعر مكثفة من الحزن أو الخوف وغيره، حيث تجنَّد اللوزة الدماغية (Amygdala) والحصين (Hippocampus) بالدماغ، ومع خطورة التصورات المسبقة من حيث جعل الحاضر اجترارا للماضي بما هو منتَج مكرَّر لتلك التصورات، فالعصب الحقيقي ليس في التصورات والمفاهيم والآراء التي نعتنقها، بل في نمط التفكير الذي أنتجها وقنّن كيفية اختبارها، فمَن نمطُه قائم على نظرية المعرفة ليس كمن يعتمد موروثه حَكَما مسلّطا على رقاب الأفكار.
إننا - حقا - بحاجة ماسة لغربلة دورية لأفكارنا، خاصة المسلّمة منها، لكننا أحوج ما نكون لإعادة بناء نمط تفكيرنا ليتبنّاه أحد أهم مراكز التحكم بالقرارات بالدماغ (Prefrontal Cortex) القشرة الجبهية الأمامية، ونتدرب على (Metacognition) وهو التفكير في التفكير نفسه بما يشبه المراقِب!
وما إنْ نعيد صياغة نمط التفكير فإنّ التصورات الرديئة التي كانت بحوزة أدمغتنا تنزوي تلقائيا، كما لا تجد التصوّرات المستقبلية غير المتناسقة مع نسختنا المحدَّثة من نمط التفكير الجدّي، أي منفذ للولوج، والتي كان أشباهها يُستقبل بالأحضان فيما مضى، ويصول في أروقة حياتنا ويجول!
***
محمد سيف
.....................
الهوامش:
الدقيقة 15:58 من حوار مع الدكتورة:
https://www.youtube.com/watch?v=YnVeSJTa3qc
هي أستاذة البلاغة في جامعة تونس، وقد تشرفتُ بالدراسة على يديها إبّان درجة الماجستير في جامعة تونس، وهي مؤلفة عدة كتب، من بينها كتاب مهم في بابه: بلاغة الوفرة وبلاغة الندرة.
تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص 257، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة 12، 2014
مَنْ اختطف عقلك؟١، محمد سيف، ص74 ، مؤسسة بيت الغشام، عُمان، الطبعة الأولى، 2019
مَنْ اختطف عقلك؟١، محمد سيف، ص57 ، مؤسسة بيت الغشام، عُمان، الطبعة الأولى، 2019