قضايا
يونس الديدي: الصدمة الأولى.. أنت غائب عن حياتك معظم الوقت

عن اقتصاد الانتباه وسرقة الحاضر
1. حين يصبح الوعي مادةً للاقتصاد
نحن لا نحيا كما نظن. نفتح أعيننا كل صباح، لكننا لا نستيقظ فعلاً؛ نتحرّك، نعمل، نتفاعل، لكن وعينا يظلّ غائباً في مكانٍ آخر — معلّقاً بين ماضٍ ينهشنا بالذكريات، ومستقبلٍ يُغرينا بالأوهام. الحياة تمضي، نعم، لكنها تمضي من دوننا.
لقد دخلنا زمناً لم يعد يُقاس فيه الوجود بالحضور، بل بكمية الانتباه المسروقة. زمنٌ تسرق فيه الشركات الكبرى أكثر ما نملك ندرةً: وعينا. تجعل من لحظاتنا القصيرة سلعةً في مزادٍ رقميّ، تُباع لمن يدفع أكثر.
كل تمريرةٍ على الشاشة هي عملية مقايضةٍ غير معلنة بين لحظةٍ من حياتنا وقطعةٍ من خوارزميةٍ لا نعرف وجهها.
إننا نعيش، كما يقول الفيلسوف الألماني بيونغ تشول هان، داخل «مجتمع الإرهاق»؛
مجتمعٍ يُغري الإنسان بأن يكون متصلاً دوماً، متفاعلاً دوماً، منتجاً دوماً — حتى يصبح منهكاً، لا من العمل فقط، بل من الوجود ذاته.
الصدمة الكبرى ليست أن التكنولوجيا غيّرت العالم، بل أنها غيّرت وعينا بالعالم. صرنا نعيش في حضورٍ مزيف، وعيٍ مشظّى، حيث كل شيء يطالب بانتباهنا، ولا شيء يمنحنا أنفسنا.
في هذا المقال، نحاول أن نفتح أعيننا على تلك الحقيقة الموجعة:
أننا غائبون عن حياتنا معظم الوقت، وأن أثمن ما نحتاج إلى استعادته ليس وقتنا، بل قدرتنا على أن نحيا بوعيٍّ داخل اللحظة
لم يعد النفط ولا الذهب ولا المعلومات وحدها ما يحرّك اقتصاد العصر، بل تلك الطاقة الخفية التي تُوجّه وعينا: إلى أين ننظر؟ فيم نفكر؟ ماذا نتابع؟ ومن نصغي إليه؟
يصف الاقتصادي الأمريكي هربرت سايمون (Herbert A. Simon) منذ سبعينيات القرن الماضي هذا التحوّل بقوله: «وفرة المعلومات تُنتج فقراً في الانتباه». واليوم نعيش ذروة نبوءته.
شركات التكنولوجيا العملاقة من “ميتا” إلى “تيك توك”، لم تعد تبيع منتجاتٍ، بل تشتري وعينا نفسه. تبيع المعلنين كل ثانية من حضورنا الذهني، وتحوّل انتباهنا إلى بياناتٍ قابلة للقياس والمضاربة.
هكذا ظهر ما يسميه المفكر الألماني بيونغ تشول هان (Byung-Chul Han) في كتابه «مجتمع الإرهاق» (The Burnout Society) بـ”الاقتصاد العصبي”: حيث يصبح الذهن ميدان الإنتاج، والتعب النفسي أحد أشكال الاستغلال.
فالمنصات لا تطلب منك مالاً، بل وقتاً، وحين تمنحها وقتك، تمنحها شيئاً أثمن: ذاتك.
نحن لا ندرك أن “المنصة المجانية” ليست مجانية حقاً؛ إنها تستهلكنا في كل تمريرة، كل إشعار، كل لحظة انتظار صغيرة نحاول فيها الهروب من الصمت. والنتيجة؟ أننا نحيا حياتنا غائبين عنها، نعيش في تيارٍ دائم من التشتت، بينما يُعاد تشكيل وعينا ببطءٍ وفق مصالح من لا نعرفهم.
2. بين الماضي والمستقبل: المسرح الوهمي لسرقة اللحظة
سرقة الانتباه لا تحدث فقط على مستوى الخوارزميات؛ إنها تحدث في داخلنا أيضاً.
نحن أسرى وهم الزمنين: الماضي الذي نُعيد تمثيله في صورٍ وذكرياتٍ مُجمّلة، والمستقبل الذي نلهث وراءه كفكرة خلاص مؤجل.
الماضي يسرقنا حين نغرق في الحنين. والمستقبل يسرقنا حين نؤجل الحياة حتى تتحقق شروطها. وبينهما، يختفي “الآن” ، تلك اللحظة الوحيدة التي يمكن أن تُعاش فعلاً.
تُشير أبحاث علم النفس المعاصر إلى أن أكثر من 46% من الوقت الذي نقضيه في اليقظة، يكون فيه الذهن شارداً بين الماضي والمستقبل (Killingsworth & Gilbert, Science, 2010).
أي أننا فعلياً نغيب عن حياتنا نصف الوقت، حتى ونحن نتحرك ونتحدث وننجز.
ولعل أخطر ما في اقتصاد الانتباه أنه لا يسرق وقتنا فحسب، بل ينزع منا ملكية تجربتنا الحاضرة.
إنه يدفعنا لأن نحيا من أجل التوثيق، لا من أجل المعايشة؛ من أجل المشاركة، لا من أجل الفهم.
نلتقط اللحظة بالكاميرا، لكننا لا نراها بالعين. نشارك الفرح، لكننا لا نحسّه إلا بعد أن يُعلّق عليه الآخرون.
وهكذا يتحول الحاضر — أغلى ما نملك — إلى معبرٍ سريعٍ نحو لا شيء.
3. استعادة الحضور: من الاقتصاد إلى التأمل
في مواجهة هذا الطوفان، لا تكفي المقاومة التقنية، بل يلزم تحوّل في الوعي.
يقول الباحث الأمريكي تريستان هاريس (Tristan Harris)، مؤسس “مركز التقنية الإنسانية”، إن “معركة المستقبل هي معركة من يملك انتباه الإنسان”.
وحين نُدرك ذلك، تصبح كل لحظة انتباهٍ نختارها بحرية، فعلاً من أفعال التحرّر.
استعادة الانتباه تبدأ بإعادة توزيع طاقتنا الذهنية على ما يستحق.
أن نعيد الاعتبار للصمت، للمحادثات البطيئة، للقراءة العميقة، للمشي بلا هدفٍ في شارعٍ مفتوح على المعنى.
أن نمنح العالم حضوراً بلا وسائط.
أن نرى الوجوه قبل الصور، والأصوات قبل المقاطع، والنصوص قبل الإشعارات.
إنّ “الانتباه” في جوهره ليس مجرد تركيزٍ ذهني، بل شكلٌ من أشكال الوعي الوجودي.
هو أن تقول للحظة: “أنا هنا.”
أن تستعيد حقك في أن تكون كائناً حاضراً، لا رقماً في نظام استهلاكٍ ذهني جماعي.
الخلاصة: احتفاءٌ بالوجود البسيط
الصدمة الأولى إذن ليست في التكنولوجيا ذاتها، بل في تواطئنا الصامت مع غيابنا.
لقد سلّمنا أرواحنا لمنصاتٍ تقيس نبضنا، لكن لا تشعر به.
غير أن الإنسان، منذ وُجد، امتلك ما لا يمكن أن تشتريه أي خوارزمية: قدرته على الوعي، وعلى التأمل، وعلى اختيار أن يعيش الآن.
ربما لا نقدر على كبح موجة العالم، لكننا نستطيع أن نقف بثباتٍ على شاطئه.
أن نغلق الهاتف ونفتح النافذة.
أن نصغي إلى صوت الحياة وهي تمرّ ببطءٍ كما يجب أن تمرّ.
وحين نفعل ذلك، حين نستعيد وعينا من اقتصاد الانتباه، نكتشف أن أجمل ما في الحياة لم يكن أبداً في “المستقبل”، بل في تلك اللحظة الصغيرة، الصافية، التي انتبهنا فيها لأننا أحياء
***
يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية