قضايا
تركي لحسن: الإصلاح الثوري

سألني صديق في معرض نقاشنا حول تأثير البيئة على الأخلاق: كيف يتم التغيير؟ وها أنا أحاول الإجابة على هذا السؤال المرعب، لأن رهاب التغيير يتملكنا كلما فكرنا أو حاولنا تجاوز الوضع القائم.
كثيرا ما يتبادر إلى أذهاننا حين سماع مثل هذا السؤال ثنائية الفرد والمجتمع، أو الإصلاح والثورة، بمعنى، من المسؤول عن التغيير؟ أهم الأفراد أم البُنى والمؤسسات؟ ثم كيف يتم التغيير؟ أيكون عن طريق إصلاح أفكار ومعتقدات الأفراد، أم عن طريق التغيير الجذري، أي الثورة؟
أعتقد أن هذه الثنائيات هي قوالب فكرية مضللة. التغيير لا يحدث من خلال إصلاح الأفراد فقط، ولا هو محض أوامر فوقية تمليها البنى أو تتنزّل من المؤسسات. التغيير هو عملية ديناميكية تفاعلية بين الفاعلين والأنساق، بين الفرد والمجتمع، بين المواطن ومؤسسات الدولة. ثم أن هذا التغيير لا يستوجب بالضرورة أن تكون البداية من الوحدات الصغرى، أي الأفراد، من خلال البرامج الإصلاحية التي تشمل كل المجالات المجتمعية. أو أن نجاحه (التغيير) مرهون بحتمية ثورية هدفها التغيير الجذري والقطيعة الشاملة.
فأول ما يجب أن نتجاوزه هو معضلة الثنائية هاته التي تشتت جهود التغيير في صراعات فكرية وحروب كلامية لا طائل منها ولا فائدة تجنى من ورائها سوى الانشغال عن التغيير الحقيقي. كما علينا أن نتيقن من أن التغيير هو الأفكار التي استوعبها الواقع فأحدثت ديناميكية زعزعت الوضع القائم وغيرت معالمه. فكثيرة هي الأفكار القيمة التي لا تجد لها صدى في قلوب الناس وعقولهم، فتسقط كما تسقط الثمرة الناضجة فوق الأوساخ المتراكمة حول الشجرة فيعافها الناس، بل قد تثير اشمئزازهم بدل شهيتهم.
لطالما كانت جدلية الفرد والمجتمع، أو الفاعل والنسق، محّل تجاذبات فكرية بين علماء الاجتماع. فقد رجّح الكُلآّنيون Holistes)) أسبقية المجتمع على الفرد، وأقرّوا بأن هذا الأخير ليس سوى قارئ مطيع لتعاليم البنى والأنساق، أو ما أسماه دوركايهم "الضمير الجمعي". أما الفردانيون Individualistes) ) فقد حاججوا بأولوية الفرد الذي سُمي في عرفهم "الفاعل "Acteur، وأكدّوا على قدرته على تغيير الواقع. ثم ظهرت نظريات توفيقية حاول روادها إيجاد حلّ لهذه المعضلة والوقوف موقف الوسط بين الفرد والمجتمع.
من هنا نقول أن التغيير ليس منوطا بالفرد وحده، ولا هو قوة سحرية يمارسها المجتمع على الأفراد دون إرادة منهم، بقدر ما هو عملية تفاعلية معقدة يساهم فيها الأفراد، بكل تـأكيد، لكنه (التغيير) قد لا يحدث على الرغم من سعي الأفراد إليه، كما أنه قد يحدث دون رغبة منهم.
يجادل المحافظون في أن التغيير لن يتأتى إلا من خلال إصلاح ما فسد من أفكار ومعتقدات وقيم، فلا يصلح حال المجتمع إلا بصلاح أفراده. أما الراديكاليون فيعتقدون أن التغيير لن يحدث إلا من خلال الثورة التي تقضي على الوضع القائم ورموزه. أما التوفيقيون فيدّعون أن هناك فترات يحتاج فيها المجتمع إلى إصلاح، ولن يحدث التغيير، في فترات أخرى، إلا من خلال الثورة.
لم يتغير حال المجتمعات الأوروبية من شكلها التقليدي الزراعي إلى مجتمعات صناعية حديثة لو لا الاكتشافات العلمية والثورة الفكرية التي ساهم فيها الفلاسفة والمفكرين، ولو لا الإصلاحات الدينية التي حررت العقل الأوروبي من هيمنة الكنيسة. هذه النقلة التي غيرت وجه المجتمع الأوروبي بدءا من الثورة الكوبرنيكية إلى غاية الثورة الفرنسية كانت، في اعتقادي "إصلاحات ثورية"، أي لم تكن إصلاحات ناعمة تتعاطف مع الماضي أو تخشى سلطة الحاضر، بل كانت إصلاحات جريئة حطمّت الأوهام كما كان الحال مع كوبرنيكوس وفرنسيس بيكون، وتحدّت سلطة الكنيسة كما حدث مع مارتن لوثر.
فشلت الإصلاحات في المجتمعات العربية لأنها تخلّت عن طابعها الثوري، وأخفقت الثورات في هذه المجتمعات لأنها تخلّت عن شقها الإصلاحي. الإصلاح الناعم الذي لا يزعزع المعتقدات الراسخة ولا يقضّ مضجع المستفيدين من الوضع القائم ولا يحرك مشاعر أولئك المصابين بفوبيا التغيير، لا يعدو كونه جعجعة بلا طحين. أما الثورات الشعبية الصلبة التي تأتي على الأخضر واليابس، والتي لا يدعمها الإصلاح، فهي مجرد صرخات للمقهورين والمظلومين سرعان ما تخمد نارها كالبركين بعد أن تدمر كل ما اعترض طريقها.
الإصلاح الثوري، في اعتقادي، هو الوسيلة المثلى للتغيير، فلن ينجح إصلاح دون تفكيك أو نفي أو تدمير، فقد سكّ عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شومبيتر مصطلح "الهدم الخلاق" " destruction créatrice" ليشرح الكيفية التي يتم من خلالها التغيير الإيجابي الذي لا يبني إلا بعد أن يهدم. وحتى عملية الإصلاح التي تهدف إلى تهذيب وإصلاح ما فسد لن تنجح ما دامت الأفكار والمعتقدات والسلوكات الفاسدة موجودة وفاعلة. لن تنجح عمليات التغيير ما لم نهدم البنى والأنساق، الأفكار والمعتقدات، الأفعال والسلوك، التي ساهمت في انتاج الفساد. الدواء الفعال لم ينجح في علاج الداء إلا بعدما قضى على مسبباته.
أخفقت المجتمعات العربية في الإصلاحات كما في الثورات منذ النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر، وإن كان العامل الخارجي أحد الأسباب التي عطلّت هذه النهضة، فإن العوامل الداخلية هي التي مازالت إلى حدّ الساعة تقف كحاجز أمام كل محاولات التغيير. وأهم هذه العوامل في اعتقادي هو الاحتماء بالماضي أو ميكانيزم الرجوع إلى الأصول، كما وصفه محمد عابد الجابري، هذه الألية الدفاعية هي من تُبطل مفعول الإصلاح، وتجعل عملية الهدم تبدو وكأنها من المحرمات. كذلك من الأسباب التي تُعطل محاولات التغيير في مجتمعاتنا العربية هي حتمية الخيار بين الفتنة أو الاستبداد، كما قال محمد جابر الأنصاري، والتي تجعل كذلك من يطالبون بتحطيم وهدم ركائز الاستبداد يبدون وكأنهم عملاء وخونة ومؤججين للفتن.
الإصلاح الثوري هو منهج في التغيير المستدام يحمي المجتمعات من الوقوع في فخ الجمود والتكلّس. هو ألية للانتقال السلس والمستمر من حالات الانغلاق والتقوقع الناتجة عن تقديس الماضي ورموزه وفوبيا التغيير التي تزكيها السلطة المستفيدة من الوضع القائم.
***
د. تركي لحسن