قضايا

محمد سيـف: التعميم.. لذة الدماغ أم غُصة الحكم على الآخر؟!

مَن منّا لا يتعامل مع مواقف الحياة اليومية بقوالب تعميمية جاهزة؟ بشخوصها ومواضيعها، من عامل المقهى إلى مناقشة موضوع سياسي شائك؟ لا أبعدُ النجعة إنْ زعمت أنّ الجميع يفعل ذلك، في إشارة إلى أسئلة شقيّة تخدش يقينيات التعميم المبثوثة في وعينا الجمعي: هل يمكن أن نتدبّر أمور معاشنا بدون تعميم؟ وهل التعميم لغة الجهّال فعلا؟ وهل يكمن خلف ستار السمعة السيئة للتعميم قيمة حقيقية مهضومة؟ وما الدور الحقيقي للدماغ في عملية التعميم؟ ولماذا نمارس التعميم اختيارا وكُرْها؟ وهل ثمة طريق معتدل لممارسة التعميم بدون التمرّغ في حضيض السوقية والابتذال؟ مع تحفّظي على مفهوم الاعتدال من حيث نسبيّتُه.

دعونا بدايةً نرسم حدّ مفهوم التعميم الذي نحن بصدد بحثه، إذْ نعرّف التعميم بأنه الأحكام والانطباعات العامة المُتبنّاة عن الآخرين أو الأشياء من مفاهيم مجرّدة وغيرها، نتيجة موقف أو أكثر سواء من تجربتنا الشخصية أو تجارب الآخرين، وفي ذلك أمثلة طافحة، كأنْ يعمّم المرءُ صفة البخل على أهل منطقة ما، أو الكسل على أحد الشعوب، أو لُؤمِ الطباع على عِرق أو قبيلة، أو الطيش على فئة عمرية، أو الذكاء على شريحة محددة، أو العجرفة على أصحاب مهنة أو قطاع وظيفي، أو التعقيد على فروع حقل معرفي كامل أو النصب على جميع أشكال تعامل تجاري محدد أو عظمة فرصة معرفية على جميع حالاتها…إلخ، وذلك بعد التعرّض لموقف شخصي واحد أو عدة مواقف، أو نَمَتْ إلى السمع بضع تجارب لصديق أو جماعة، آل بهم الأمر للخروج بتعميم ينسحب على جميع أفراد موضوع التعميم، متجاوزا الحكمَ العام وصولا للحكم الفردي، اسْترواحا على تلك التجربة اليتيمة أو حُفنة من التجارب المتشابهة، لتطبيقها على الحالات المماثلة كافة.

على أنّ التعميم كما ينطبق على المجموع، فهو ينطبق أيضا على الفرد، حين نقوم بتعميم حكم عام عليه بناء على موقف أو عدة مواقف معه، مختزلين كيانه وشخصيته في تلك المواقف، ضاربين بعُرض الحائط شريط حياته الممتدّ! ومتجاهلين عوامل الظرفية التي ظهرت تلك المواقف في سياقها.

إنه حين يتعثر أحدهم بآخر من دولة ما وقد عشّش انطباع عام في ذهنه بأن مواطني تلك الدولة ذوو صَلَف وتكبّر، تجده ينطلق من هذا الحكم العام في تعامله معه، فينطبع في أسلوبه اللفظي وغير اللفظي ما يمارسه عادة مع من يعرف فيهم سمة الكِبْر على وجه اليقين، وبما أنّ القاعدة الفيزيائية تقول: لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة معاكسة له في الاتجاه، فمن الوارد جدا أن يُخرج ذلك الأسلوبُ الفَظّ أسوأ ما في شخصية مواطن تلك الدولة؛ ليس لأنه كان متكبرا ابتداءً، وإنما حدث في سياق ردة الفعل، ناهيك عمّا يُصطلح عليه في علم النفس الاجتماعي بـ (Pygmalion Effect) وهذا التأثير النفسي يعني أن توقعّاتنا عن الآخرين يؤثر في سلوكياتهم.(1)

وعلى المنوال ذاته، تأمّل جميع التطبيقات اليومية للأحكام العامة، التعميمات، الانطباعات العامة، سمّها ما شئت، فإنك واجدٌ مغبّتها العصيّة على الحصر، وعواقبها في التفاعل البشري التي تأخذ المعيَّن بجريرة غيره، وتعميم الموقف مع فرد مُنْتمٍ إلى مجموعة ليكون قاعدة تشمل جميع أفرادها، سواء أكان الموقف المتسبّب في التعميم تجربة شخصية، أو من تجارب الآخرين، مع الانتباه إلى أنّ تجارب الآخرين في تعميم حكم عام على مجموعة من الناس أو تصوّر شيء من مفردات الحياة لا تحيلُ نتائجهم قانونا ثابتا مهما تضافرت، عِ(2) أنّ تجربتك لا تعني بالضرورة نسخةً من تجاربهم، وانسياقُك إليها يعني أن تجعل حياتك بوقا لتجارب الآخرين! فالأفلاج لا تنفكّ تلعن الأنهار، ولكنّ ذلك لا يعني البتة صدق مقولة الأفلاج! فما بالك بتجربتك الشخصية إزاء مجموعة إنسانية ما، والتي لا تتأهّل أن تكون عريضةً كفاية لتسع أفراد تلك المجموعة قاطبة.

ومن حقنا ونحن نُعرّي الجانب المُكْفَهِرّ من التعميم أن نَنْبَري متسائلين: لماذا نمارس التعميم أصلا؟ ولا يمكن للإجابة - على الأقل من منظوري الشخصي - أن تكون بمنأى عن الدماغ بما هو مركز التحكم البشري، هذا العضو الذي تلتقي فيه جميع خيوط الممارسات البشرية أسودها وأبيضها وألوانها كافة! سواء لوجود استعداد داخلي دماغي للميل للتعميم أكثر من الغير أم لا، حيث أظهرت دراسة علمية (3) أنّ لدينا بشكل عام ميلا للتعميم تلقائيا وبدون وعي ومنذ سنٍ مبكرة! على أنّ الدماغ - بناء على دراسة علمية أخرى (4) - يقوم بالتعميم بناء على آلية عصبية تُدعى (Predictive Coding) أي: الترميز التنبّؤي، حيث تقوم هذه الآلية بترشيح المعطيات الجديدة من خلال مرشّح التوقّعات السابقة؛ بُغيةَ تسريع الاستجابة وتوفير الطاقة، ومن هنا نسِم الدماغ عادةً بالكسل، ونصف التعميم باستراحة الدماغ!

وأنا إذْ أجرّ قلمي في موضوع التعميم، لَيَكبُر على نفسي أن أُغْفِل اللفتة الدقيقة التي أشار إليها مؤسس علم النفس التحليلي كارل يونغ، باستنكاره أن يكون الفرد وظيفة للإحصاءات، وهي وإن كانت في سياق نقد الأوساط العلمية التي تبني معارفها على المتوسط البياني - رغم ضرورته - لاغيةً خصائص الفرد الواحد، إلا أنها تعكس تمظهرا عميقا من تمظهرات التعميم، في ارتداداته الوخيمة، ومما قاله في سِفْره القيّم (الفرد والحشد) ): "تعتبر النفس الفردية بسبب فرديتها استثناءً للقاعدة الإحصائية؛ لذلك تُسلب من إحدى خصائصها الرئيسة عندما تخضع لسيطرة تأثير التساوي مع البقية في عملية التقويم الإحصائي."(5) وفي موضع آخر: "إنّ أيّ نظرية تستند إلى الخبرة هي بالضرورة إحصائية، وهذا يعني أنها تصوغ متوسطا مثاليا يلغي جميع الاستثناءات على طرفي المقياس، وتستبدل بها متوسطا مجردا".(6)  فالإنسان الإحصائي - كما يراه يونغ -  ليس سوى مسخٍ لا وجود واقعي له، وما هو إلا تعميم لمتوسط حسابي غير واقعي على جميع الأفراد الواقعيين!

عموما، إذا تسالَمنا على أنه ليس من المنطق في شيء أن نرضى بالارتهان لميل الدماغ، ونمارس التعميم على الآخرين منفلتًا عن كل الحدود ومعتمدا على موقف أو موقفين، كما أنه في المقابل من السذاجة أن نقاوم التعميم تماما بما هو في أحد أبعاده دروس مستفادة، تزودنا بالانتباه والحذر ومسحة من فوبيا الارتياب، ولو كان من بضعة مواقف، فإنّ لُبّ موضوع التعميم سيرتكز على السؤال المحوري الآتي: كيف يمكن إمساك العصا من المنتصف في إعمال التعميم؟!

لعلي أقترح أنْ نستصحب مؤدَّى التعميم في المواقف المحتملة، شريطة أمرين: أوّلهما أن يكون الحكم المستخرج من المواقف المماثلة السابقة موضوعية قدر الإمكان، وأنا حين أقول: قدر الإمكان، فإني أعني أنه يستحيل علينا أن نكون موضوعيين تماما، فأدمغتنا مُنحازة بالضرورة! ولكن نسعى بجدّية إلى أن نكون متيقّظين لأية دوافع غير موضوعية تضغط على أحكامنا ناحية اتجاه معيّن، وثانيهما: أن نجعل التعميم في دكّة الاحتياط، وخانة الخبرة الاحتمالية، وخليةَ معطيات نائمة، ثم نترك الآخر يقرر - من خلال مراقبتنا لتعامله - أيُصدّق الحكم التعميمي في جماعته أم يستحق أن يكون استثناءً منه، وبذلك لم نلغِ التعميم بما هو معلومة واقية، ولم نُعملْه بما هو حُكم مجحف.

مع العلم أنه لا يمكن التبرؤ بالكليّة من إكراهات هذا الحكم العام الذي يتسرّب إلينا بحُكم تركيبة أدمغتنا سواء بالانحياز، أو كما أسلفتُ من أنّ أدمغتنا تميل - هذا إذا لطّفنا التعبير عوضا عن: تحتّم علينا! - للتعميم، فإن كل ما نحاول فعله هو محاولة منح القشرة الجبهية الأمامية في الدماغ (Prefrontal Cortex) الفرصة المناسبة لإيقاف العملية اللاواعية التلقائية أو المتسرّعة للتعميم، بما هي - أي القشرة الجبهية الأمامية - على صدارة مناطق الدماغ المسؤولة عن اتخاذ القرارات وتمحيص المعطيات.

إنّ التعميم عُقدة متوارية، فهو منتج للإطار العام لعمل أدمغتنا، والمفارقة أنّ التعاطي الناجع معه يحدث عبر أدمغتنا كذلك! لنحظى بغُلّته النافعة بعيدا عن أشواكه المعتدية!

***

محمـــد سيـــف

........................

الهوامش:

(1) لمزيد من الاطلاع على الظاهرة النفسية (Pygmalion Effect) يُرجى زيارة رابط الدراسة العلمية:

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0361476X18300729?utm_source=chatgpt.com

(2) عِ: هو فعل الأمر من الفعل وَعى، أي أدرِكْ وافهمْ.

(3) رابط الدراسة العلمية:

https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC4402100/?utm_source=chatgpt.com

(4) رابط الدراسة العلمية:

https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC10810825/?utm_source=chatgpt.com

(5) كارل يونغ، الفرد والحشد، ص86، ترجمة: إسماعيل زين الدين، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2023.

(6) المصدر نفسه، ص30

في المثقف اليوم