قضايا

مصطفى غلمان: السيادة التكنولوجية كأداة جيوسياسية.. صراع القيم والمصالح

يأتي مفهوم السيادة التكنولوجية (Technological Sovereignty) كأحد أهم المفاهيم الاستراتيجية في الفكر الغربي الحديث، ليفرض نفسه بقوة في العقدين الأخيرين، خصوصاً مع تصاعد هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى، واشتعال التنافس الجيوسياسي بين القوى العالمية المهيمنة مثل الولايات المتحدة، الصين، وروسيا.

وتعني السيادة التكنولوجية، من ضمن ما تعنيه، قدرة الدول أو التكتلات (مثل الاتحاد الأوروبي) والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EEU)ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، على امتلاك وتطوير واستخدام التكنولوجيا المتقدمة بشكل مستقل وآمن، دون تبعية مفرطة لقوى أجنبية أو شركات خارجية. وهي امتداد لمفهوم السيادة التقليدي، لكن في مجال البنية الرقمية والمعرفة التقنية.

وينحو الفكر السياسي الغربي، إلى اعتبار أن السيادة ترتبط عادة بالتحكم في القرار الوطني. ومع التحولات الرقمية، أصبح التحكم في البيانات، الشبكات، الذكاء الاصطناعي، وأمن الفضاء السيبراني جزءاً من معادلة القوة والسيادة. علاوة على ارتباطها أيضا بمفهوم "الاستقلال الاستراتيجي" (Strategic Autonomy) لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والصين.

ولمعرفة مدى التقائية النظم الجامعة لبراديجم سياسة تدبير فواعل السيادة والقرار المستقل، لا بد من وجود أبعاد وامتدادات تضبط السيادة التكنولوجية، خصوصا فيما يتعلق بارتباطاتها الصميمة، بالبُعد الأمني الحاضن لتدابير حماية البنية التحتية الرقمية والاتصالات من الاختراقات أو النفوذ الخارجي.

بالإضافة إلى البُعد الاقتصادي، الذي يمر عبر ضمان تنافسية الصناعات الوطنية وعدم ارتهانها لاحتكارات التكنولوجيا العالمية. كما الحال بالنسبة للبُعد القانوني والقيمي الذي فرض القوانين والمعايير الأخلاقية الغربية (مثل حماية الخصوصية في اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR).)، ثم البُعد الجيوسياسي، الذي يوفر جانبا هاما وأساسيا في مسألة تعزيز مكانة الدول الغربية كقوى قادرة على وضع المعايير العالمية للتكنولوجيا.

وبغض النظر عن النقاشات الفكرية التي يثيرها مفكرو العصر، حول مدى فعالية الاتجاهات السيادية والحمائية المعمول بها في هذا المضمار، فإن من أهم التقييمات الحاصلة في المجال، حدوث طفرات في تقييم أنظمة التفوق واستتباعاتها في مناظم الحماية وتأثيراتها في السوق وتوسع تكنولوجيات المنافسة، وهو ما استأثرت بمواضعته الاتجاهات الليبيرالية، التي ترى في السوق العالمية للتكنولوجيا، محدودية شائكة وملتبسة في القدرة على توفير أفضل الحلول، في تأكيد ضرورة تنظيم المنافسة وتداولاتها.

فيما يرى الاتجاه السيادي/الحمائي، التأكيد على ضرورة امتلاك القدرات المحلية في الرقاقات الإلكترونية، الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، وحتى شبكات 5G، لتفادي التبعية. دون أن نتجاهل النقديون الذين يركزون على مخاطر تركيز القوة في يد الشركات العملاقة، ويدعو إلى إعادة التوازن بين القطاع العام والخاص.

وفي هذا الإطار يستفرد الاتحاد الأوروبي، بوضعية قيادية حساسة، من جانب كونه أطلق برامج مثل Gaia-X للحوسبة السحابية الأوروبية، كما ويدعم تطوير صناعة الرقائق عبر مبادرة European Chips Act

ويمكن التذكير هنا، بمبادرة كل من ألمانيا وفرنسا، اللتان تطرحان السيادة التكنولوجية كجزء من "السيادة الرقمية" لحماية الاقتصاد والسياسة من التبعية للولايات المتحدة أو الصين، بخلاف الولايات المتحدة التي رغم هيمنتها التكنولوجيا العالية، فإنها تختار وبشكل متشدد، خصوصا خلال ولاية ترامب الأولى والثانية، "السيادة" في سياق حماية سلاسل التوريد (خصوصاً أشباه الموصلات) من النفوذ الصيني.

تقوم السيادة التكنولوجية في الفكر الغربي الحديث على عديد منطلقات وأسس بنائية متينة، تقوم استرتيجيتها بالتركيز على الاستقلالية دون الانغلاق، واحترام مبادئ السوق الحر، لكن مع فرض تنظيمات ل(حماية الخصوصية والبيانات (GDPR نموذجاً. علاوة على موازنة العلاقة بين الدولة والشركات التكنولوجية العملاقة، دون مصادرة دور القطاع الخاص. ويثير مفكرو الغرب في كتاباتهم هذه الموازنة، كما هو الحال بالنسبة ليورغن هابرماس في نظرياته حول "الفضاء العمومي" إشكالية النجاعة والإيجابية في السيادة الرقمية والديمقراطية. وكذا أندرياس شوير السياسي الألماني في البرلمان الأوروبي.، الذي يدافع بشراسة عن فكرة "السيادة الرقمية الأوروبية"، خاصة في مواجهة عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين والصينيين.

وفي مقابل هذه المدافعات الفكرية والأيديولوجية المتشاكلة، تنظر التجربة الغربية إلى مسألة تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية (في حالة أوروبا) أو الصينية، أمرا لا محيد عنه، بل مصيرا موحدا لجهود تبدو في حالتها العامة محايثة لتعزيز تنافسية الصناعات الأوروبية، وحماية "القيم الغربية" في مجال الحقوق الرقمية والديمقراطية.

أما الحالة الصينية، فهي مدارة أخرى، تقوم فيها السيادة التكنولوجية المستمدة من فكر "الاستقلال الذاتي" الذي يتجذر في التجربة الصينية منذ الثورة، ميثاقا استراتيجيا لتكنولوجيا تجعل من الانتصار للقيمة أمنا قوميا ونهضة حضارية بالغة الأهمية.

وقد وضعت الدولة الصينية بهذا الخصوص، استراتيجيات طويلة المدى مثل "صنع في الصين 2025" و"الذكاء الاصطناعي 2030".، وذلك بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي وتقليل التبعية للغرب. والسيطرة الكاملة على البنية الرقمية والبيانات داخل الصين (شبكة إنترنت ذات سيادة). ثم استخدام التكنولوجيا كأداة للنفوذ الجيوسياسي (مثلاً مبادرة "الحزام والطريق الرقمي").

وتنشغل التجربة الصينية المتفردة، التي أضحت معجزة القرن الحديث، مثار انشغال العلماء ورواد التكنولوجيات السيبرانية المتسارعة، حيث تُقدَّم التكنولوجيا كأداة لبناء "اشتراكية بخصائص صينية" وتعزيز سلطة الحزب. بل إنها تُفضل "السيادة الرقمية" على الانفتاح، مع فرض رقابة شديدة على الإنترنت.

إذا كانت السيادة التكنولوجية هي قدرة الدولة على التحكم في بنيتها التحتية الرقمية، وحماية بياناتها، وضمان استقلالها في الفضاء السيبراني. في عصر العولمة الرقمية، فإن من إواليات هذا الاستحقاق، أن نتفاعل المفهوم الاشكالي لفهم التوازن بين القوة الوطنية والاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية. إذ إن بعض الدراسات والأبحاث، وأذكر من بينها هنا مثالا لا حصرا، كتاب فريد ونوعي للمفكر الصيني وانغ هوي " نهضة الصين الحضارية"، حيث يثير اتجاه الصين في انبعاث تكنولوجي متنوع واستراتيجي. والمفكر الروسي ايغور ىشمانوف، الذي يطارح الحالة التكنولوجية الروسية، انطلاقا من موقعها التاريخي والسياسي، بل إنه يدافع عن ما أسماه ب "السيادة الرقمية الروسية"، ب "بناء بدائل محلية لمختلف الخدمات الغربية". كل المرجعيات تلك، ترى أن فقدان السيادة الرقمية يؤدي إلى تعرض الدولة للاختراقات المعلوماتية، التجسس الاقتصادي، والتأثير على الرأي العام.

وعلى هذا الأساس، فإن استحضار الاستعمار الرقمي، بإزاء إشكالية السيادة التكنولوجية، تبدو وكأنها تتجاوز المفهوم التقليدي للاستعمار، حيث تعتمد على التحكم في المعلومات والأطر الرقمية، ما يفرض على الدول النامية تبعية تكنولوجية. تظهر الأمثلة في الاعتماد على شبكات التواصل الأجنبية، الخدمات السحابية الدولية، والبرمجيات المستوردة، ما يقيد قدرة الدولة على تنظيم محتوى المعلومات، حماية الخصوصية، وصيانة القيم الثقافية المحلية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

في المثقف اليوم