قضايا

حاتم حميد محسن: السوفسطائيون وفن الخطابة في اليونان القديمة

كان السوفسطائيون في اليونان القديمة معلمين محترفينن ومثقفين. تعاليمهم أكدت على التحدث امام الجمهور وعلى السلوك الاخلاقي. ومع ان تعاليم السوفسطائين تطرقت الى مختلف الموضوعات لكن تأكيدهم كان على الخطاب العام والسلوك الاخلاقي في الحياة. كلمة "سوفسطائي" sophist مشتقة من كلمة سوفيا وتعني الحكمة او التعلّم. منذ زمن افلاطون (348 ق.م – 428) كانت كلمة سوفسطائي في الأصل تعني الحكيم "sage" او الخبير . وفي الاوقات المبكرة اثناء زمن هوميروس (بين القرنين الثامن والتاسع ق.م)، كانت كلمة سوفسطائي تُستعمل لتصف شخصا خبيرا في مهنته او فنه. لكن في القرن الخامس قبل الميلاد اتخذت السوفسطائية معنى جديدا. انها بدأت تشير الى حكمة عامة خصيصا تلك المتعلقة بالشؤون الانسانية كالسياسة والاخلاق.

القرن الخامس قبل الميلاد كان يمثل العصر الذهبي لأثينا ولعصر بريكلس وهي الفترة التي ازدهرت بها اثينا من حيث القوة السياسية والنمو الاقتصادي والانجازات الفكرية. في هذه الفترة ازداد الطلب على التعليم العالي الى ما وراء المواضيع التقليدية والأبجدية والرياضيات والموسيقى والتدريب البدني.

الأثنيون بدأوا التحقق في قضايا الطبيعة والقيم التقليدية والاخلاق واساليب الحياة والسياسة. اصبح السوفسطائيون مصرّين على المساهمة في تلك التحقيقات في تحدّي لطرق التفكير التقليدية. كانت مهنة السوفسطائيين فردية. انها ليست مدرسة في الفلسفة يؤمن اعضاءها بعقائد مشتركة. بل ان كل سوفسطائي له معتقداته الخاصة به واسلوبه في عمل الاشياء.

بروتاغوراس: أبرز سوفسطائي في اليونان القديمة

بروتاغوراس كان اقدم المعاصرين لسقراط واُعتبر واحدا من أبرز الممثلين لما سمي بالحركة السوفسطائية. كان اول فيلسوف في الغرب يدعو للذاتية، مجادلا ان تفسير أي تجربة او أي حدث مهما كان هو نسبي للفرد. بروتاغوراس هو صاحب القول الشهير: الانسان مقياس لكل الاشياء. بمعنى ان كل شيء هو نسبي خاضع لتفسير الفرد. هو كان اول من علّم الفلسفة النسبية في اليونان من خلال موقعه كسوفسطائي وكان من بين منْ يتقاضون أعلى الاجور في تعليم شباب الطبقة العليا. ولكي نفهم بشكل أفضل الفلسفة النسبية، دعونا نتصور رجلا يأتي من جو بارد في الخارج ليدخل غرفة دافئة بينما هناك شخص آخر موجود سلفا في نفس الغرفة ويشعر انها باردة.

طبقا لبروتاغوراس، كلا التفسيرين لدرجة الحرارة في الغرفة صحيحان في مثل هذا الموقف ومقبولان. وبالتالي، طبقا لبروتوغاروس، كلمة "صحيح" و "خطأ" هما وصفتان يستخدمهما الناس طبقا لتجاربهم وتفسيراتهم. وكذلك ينطبق نفس الشيء عندما نجد هناك مجتمعا معينا يعتقد في وجود الالهة بينما مجتمع اخر لايؤمن بذلك.

افلاطون هاجم بروتاغوراس والنسبية قائلا لابد هناك من وجود حقيقة نهائية. اذا كان معنى "صحيح" و "خطأ" فقط مسألة رأي عندئذ ستصبح القوانين والعادات الاجتماعية بلا معنى. كسوفسطائي، علّم بوتوغاروس الناس خصيصا الشباب افضل مسائل الثقافة وكيف يمكن التعبير بشكل صحيح عن افكارهم ويتصرفون طبقا لها. الكلمة الانجليزية "معقّد" sophisticated هي في الحقيقة مشتقة من السوفسطائي.

في ايام بروتوغاروس، كانت اليونان وبالذات اثينا تميل للمقاضاة لدرجة كانت المعرفة بفن الخطاب العام ذات قيمة عظيمة كوسيلة للدفاع عن المرء في المحكمة او تقديم شهادة ضد شخص آخر.

طالما لا وجود هناك لمحامين محترفين في اليونان القديمة، اضطر الناس في قضايا المحكمة للاستعانة بكتّاب محترفين بالكلام  لإعطاء كلام بليغ ومقنع في قاعة المحكمة.

طبقا للكتّاب القدماء، جعل بروتوغاروس رزقه الاساسي من تدريب الشباب الاثرياء على فن الخطابة لإستخدامه في قاعة المحكمة.

جادل بروتوغاراس بانه اذا عُرضت عليه دعوتان متضادتان  احداهما ضعيفة، هو لديه القدرة لإنتاج جدال مقنع بما يكفي لجعلها تبدو اقوى من الاخرى.

السوفسطائيون كأساتذة في كليات الحقوق

منح السوفسطائيون أهمية كبيرة للخطابة والقدرة على الاقناع والفوز في الجدال. كان هذا حتى لو تناقضت اسبابا وحججا معينة مع كل من الحقائق والقواعد الاخلاقية. وبصرف النظر عن الحالة، المتحدث العام الجيد لديه فرصة افضل لربح الدعوة، والسوفسطائيون كانوا افضل المعلمين في الخطابة. كان ايضا الطلب عليهم كبير.

اثناء زمن سقراط وافلاطون، علّم أحد السوفسطائيين البارزين واسمه جورجياس الاثنيين كيفية ربح الجدال عبر الاعتماد على الخطابة الجيدة والتلاعب بالقانون لصالح الشخص. افلاطون في احدى حواراته السقراطية - حوار جورجياس -، جعل جورجياس يعترف انه كان مهتما فقط في تعليم الطلاب ربح الجدال وان هدفه لم يكن الحصول على الحقيقة وانما النصر فقط. في الحوار، يكشف سقراط ان جورجياس يعلّم طلابه لإعطاء كلام حول السياسة. سقراط يرى انه لكي يعطي مثل هذا الكلام، يجب على المرء ان يفهم ايضا موضوع السياسة. السياسة حسب سقراط، فن انتاج العدالة. اذا كان جورجياس يعلّم الناس اعطاء كلام سياسي، هو ذاته يجب ان يفهم في البدء السياسة والعدالة.

عندما يعطي الطالب كلاما رائعا ويربح الجدال بدون اعطاء عدالة، عندئذ يُعتبر فعله غير عادل لأن الطالب سيستعمل مهارات الخطابة كوسيلة لغايات غير أخلاقية.

نوموس وفيزس

كان السوفسطائيون أول من أدخل الفرق بين نوموس Nomos (قوانين المجتمع) و فيزيس Physis (النظام الطبيعي). فمثلا، العدالة والعار مبادئ طبيعية لكنها تتجسد بشكل مختلف لدى مختلف المجتمعات. ما هو عار في مجتمع ربما هو مقبول في مجتمع آخر. كذلك، ما هو عادل في مجتمع ربما يُعتبر غير عادل في مجتمع آخر. لذلك، فان قانون المجتمع له أهميته رغم ان مصدره هو المبادئ العالمية الطبيعية لكل الناس. من جهة اخرى طلاب جورجياس رفضوا فكرة ان القانون ينبثق من الطبيعة كما اعتقد بروتوغاراس. هم جادلوا بان نوموس هي في تضاد مع فيزس. طلاب بروتوغاراس ادّعوا ان القانون الطبيعي الحقيقي يرتكز على القوة او الفكرة التي تصنع الصواب. من جهة اخرى، كاليكلس callicles ذهب أبعد من ذلك . هو كتب ان قانون المجتمع زائف لأنه يجبر الأقوى على التسامح مع الأضعف. مع ذلك، ليكوفرون – أحد طلاب جورجياس ادّعى ان عكس ذلك هو الصحيح، أي، ان كل الناس هم في الحقيقة متساوون في الطبيعة، وان القانون بالنهاية هو الذي يؤسس هرميات وأقسام.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم