قضايا

مراد غريبي: استكشاف الثقافة في ظل رهانات العولمة (2-2)

أحدثت العولمةُ تحولاتٍ عميقة في طرق تفاعل الثقافات وتطورها وتحديد هويتها. تشير الدراسات الفلسفية المعاصرة، إلى مطارحات جديدة حول المستجدات والرهانات المرتبطة بالتنوع الثقافي في عالم معولم. ضمن هذا الموضوع، أسعى في هذا المقال إلى مقاربة التطورات من خلال تقديم قراءة نقدية تستشرف مستقبل الثقافة في ظل العولمة، إذ نبدأ كيف أن التقاء الثقافات وتفاعلها لا ينحصر في مجرد اندماج سطحي، بل ينطوي على ضرورات واسهامات مستمرة، من أجل إعادة إنتاج للقيم والعادات والمعايير الثقافية بطريقة ديناميكية.

فالعولمة لم تعد مجرد نظام اقتصادي أو ثورة تقنية؛ وإنما هي بالأساس ظاهرة ثقافية عميقة تظهر في التداخل غير المسبوق بين الشعوب والمجتمعات والأفراد. حيث بات موضوع الثقافة في سياق العولمة من الموضوعات الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الأكاديمية والفلسفية، إذ تتوالد إشكاليات جوهرية حول مستقبل التعايش والتسامح والاحترام والهويات الثقافية المحلية، وآفاق الانفتاح على قيم الآخر، ودور الوسائط الرقمية في صياغة أنماط التفاعل الثقافي، إلى جانب مسؤولية السياسات العامة في تعزيز الحوار الثقافي وحماية الخصوصيات.

بناءا على مراجعة أحدث الدراسات الفلسفية حول العولمة الثقافية، أستكمل في هذا الجزء من البحث، تعارضات هذا المسار بين توجه نحو الوحدة الثقافية بفعل انتشار النموذج الغربي وهيمنة وسائل الإعلام العالمية، وبين بروز رؤى تدعو إلى تعزيز التعددية الثقافية كمصدر إثراء وابتكار. كما أستعرض آليات جديدة تتشكل ضمن السياسات الثقافية لمواجهة تحديات العولمة، مثل دعم الصناعات الإبداعية المحلية، والتربية على الحوار بين الثقافات، ومأسسة حقوق الأقليات.

لا مناص أن اكتشاف الثقافة في سياق العولمة يتطلب مقاربة فلسفية نقدية تراعي تعقيد الظاهرة وطابعها المتغير وعدم قابليتها للانحصار في ثنائيات ضيقة، من قبيل الأصالة والمعاصرة أو المحلي والعالمي. سأحاول في هذا الجزء أن أعرض مقاربة كلية شاملة لمستقبل الثقافة في ظل العولمة،

الثقافة بين التنوع والتجانس:

تُبرز الدراسات الفلسفية المعاصرة وأهمها دراسة ماري كريستين ويتلي، "العولمة والثقافات المحلية: تعايش معقد" [1]، التوترات المعقدة التي تفرضها العولمة على المشهد الثقافي العالمي. فالعولمة من جهة تتيح فرصًا غير مسبوقة للتلاقي بين الثقافات المختلفة، وتُسرع من وتيرة تبادل الأفكار والممارسات، مما يساهم في إثراء الأطر الثقافية عبر خلق صور ثقافية هجينة جديدة، ولكن من جهة أخرى تفرز مخاطر حقيقية على التنوع الثقافي، إذ قد تؤدي إلى إضعاف وتهميش خصوصيات الثقافات المحلية، بل وتحويلها إلى صور نمطية أو حتى استيعابها في ثقافة موحدة قائمة على نموذج غربي مهيمن مركزي.

التعايش بين الثقافات:

يطلق مفهوم التعايش على ذلك التفاعل بين عدة ثقافات في بيئة إجتماعية واحدة أو مجتمع واحد، والذي يطُلق عليه أحياناً التعددية الثقافية، يعتمد على فكرة أن الثقافات المختلفة يمكن أن تعيش معاً مع الحفاظ على خصوصياتها. ويتطلب هذا إدارة دقيقة للاختلافات والتوترات التي قد تنشأ، لكن مخرجات العولمة ضمن الرؤية الحداثة الغربية ذات الثقافة الواحدة المطلقة شكلت تحديات عظمى أمام التعايش الثقافي، نذكر من بينها:

1.الصراعات على المصالح: في بعض الأحيان قد تتعارض قيم وممارسات بعض الثقافات مع قيم وممارسات مجموعات أخرى، على سبيل المثال: يمكن للاختلافات في القيم فيما يتصل بحقوق المرأة أو الممارسات الدينية أن تؤدي إلى التوترات.

2.التمييز وعدم المساواة: حتى في المجتمعات التي تدعي التعددية الثقافية، قد تتعرض مجموعات من الناس للتمييز بسبب ثقافتها أو عرقها أو أصلها كما نشهد ذلك في عدة دول. يحصل تهميش للأقليات، سواء في سوق العمل، أو في التعليم، أو في التفاعلات الاجتماعية اليومية.

3.التثاقف والاستيعاب: في بعض الحالات، قد يتم الضغط على الثقافات الأقلية للاندماج في المعايير السائدة من أجل قبولها. ويمكن النظر إلى هذه العملية باعتبارها شكلا من أشكال الاستيعاب أو إفقاد الهوية الثقافية.

رغم كل ذلك هناك بعد إيجابي مهم يؤتي ثمار التعايش الثقافي:

الإثراء الجماعي: يمكن للثقافات المختلفة أن تتبادل وتتقاسم المعرفة والعادات والفلسفات والممارسات التي تثري المجتمع ككل عبر منهج "الاعتراف والتعارف"[2].

الشبكات الاجتماعية والتضامن: يسمح التعايش المتناغم بإنشاء شبكات تضامن بين المجتمعات المختلفة، والتي يمكن أن تدعم بعضها البعض في جهودها لمكافحة عدم المساواة أو الظلم.

التسامح والاحترام المتبادل:

بحسب تعريف المفكر ماجد الغرباوي، "التسـامح قيمة حضــارية معرفية مطلقة وقد تصــدق نســبيته في الجانب الســلوكي. فلا يجامل نســـــــــــبية الحقيقة وتعدد الطرق إليها. ولا يؤمن بوجودها خارج خيال الإنســان وتختلف باختلاف قدرته على تصــورها ورســم ملامحها. التســــــامح الحقيقي يعتمد العقل فهم الحقيقة وطرق الوصول إليها، ويرفض الاســتســلام لأي معرفة لا تخضــع لمنهجه. فيســتبعد اللامعقول والخرافة والاوهام وكل ما لا يتعقله. التســــــامح ليس ردة فعل إنما موقف من الحياة والعالم"[3]. ويتضمن التسامح الاعتراف بالتنوع، مع قبول حقيقة أن الأفراد والمجموعات قد يكون لديهم قيم أو معتقدات أو ممارسات تختلف عن قيمنا أو معتقداتنا أو ممارساتنا، ولا يعني بالضرورة احتضان هذه الاختلافات، بل يعني القبول باحترام متبادل بيننا وبين الآخر المختلف.

و في إطار الثقافة، يتضمن هذا الاعتراف بأن كل الثقافات تتمتع بصلاحيتها وميزة التعايش الخاصة بها، حتى ولو كانت ممارساتها غريبة أو معارضة لقيمنا الخاصة.

الاحترام كثقافة:

إن الاحترام يتجاوز التسامح لأنه لا يتضمن فقط قبول الاختلافات، بل أيضاً تقديرها. إن احترام ثقافة ما، يعني الاعتراف بتاريخها وقيمها وممارساتها باعتبارها شرعية وتستحق التكريم. ويتضمن هذا أيضاً أمرين:

1/ احترام معرفي يستهدف التعارف الدائم،

2/ احترام حقوق الأفراد من الثقافات المختلفة في ممارسة ثقافتهم بحرية دون إكراه أو تمييز.

التوتر بين التسامح والاحترام:

على الرغم أنه ينُظر إلى التسامح في كثير من الأحيان باعتباره شرطا أًساسيا للتعايش السلمي، فإن التقدم الحقيقي يأتي من خلال الاحترام المتبادل. حيث التسامح دون احترام قد يؤدي إلى علاقات سطحية وهشة، في حين أن الاحترام يعزز بيئة أكثر تعاوناً وشمولاً وانفتاحاً.

كون مركب التسامح الحقيقي النابع من الاحترام معرفي وليس تكتيكي او شكلي كما يسميه المفكر الغرباوي، يدفعنا نحو إلى ما بين الثقافة والهوية الثقافية، وهذه الأخيرة تشكل نمط أو نهج إدراك الأفراد لأنفسهم وتفاعلهم في المجتمع.

كما لا نغفل على أن الهوية الثقافية تتأثر بالعوامل التاريخية والاجتماعية والأسرية التي تختزن حمولات متنوعة ومتعددة الأبعاد، ويمكن للهوية الثقافية أن تتطور من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى.

في ظل عالم معولم ومتنوع بشكل مطرد، صار التنوع والشمول مبادئ أساسية لضمان قدرة جميع الثقافات ليس فقط على الوجود، بل على الازدهار في مجتمعات عديدة.

و بالتالي التعايش بين الثقافات المتعددة يعتمد على قدرة المجتمعات على إدارة الاختلافات مع الحفاظ على الوحدة. ورغم ذلك، فإن هذا التعايش ليس متيسرا وبسيطا كما يتصور البعض: كونه يستدعي جهودا متواصلة للتغلب على الصراعات المحتملة وسياسات عدم المساواة والتمييز ومواجهة خطابات التطييف والعنصرية والتسقيط.

لذلك التسامح والاحترام هما جناحان أساسيان في أي مجتمع حتى تستطيع الثقافات ليس التعايش فقط بل وإثراء بعضها البعض والتعاون والتآلف والتقدم معا. وبعيدا عن التسامح (الذي قد يكون سلبيا)، فإن الاحترام النشط للاختلافات الثقافية هو الذي يسمح لنا ببناء مجتمع أكثر عدالة وانسجاماً، لأن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على الاستمتاع بالاختلافات مع تعزيز الشعور المشترك بالانتماء لوطن أو مجتمع أو أمة أو الإنسانية.

باختصار، يعتمد تطور المجتمع الحديث إلى حد كبير على قدرتنا على التوفيق بين الحفاظ على هويتنا الثقافية والانفتاح على الآخرين، في إطار من الاحترام والتسامح الحقيقي.

ج. بروتكول التجانس الثقافي

لا يمكننا فهم العولمة إلا من خلال تسليط الضوء على نظرية تعرف بالتجانس الثقافي، والتي تعتبر من الأساسيات فهم تأثير العولمة بما تحمله من هيمنة ثقافية، خاصة عبر ما يعرف بـ"الإمبريالية الثقافية". حيث يرى باحثون أن انتشار وسائل الإعلام العالمية، خاصة الغربية الأمريكية منها ووكلائها عبر القارات الخمس، وما يروج له من نماذج الاستهلاك الرأسمالي، يدفع نحو صهر الفوارق بين الثقافات في إطار واحد، مرجعيته المركزية هي الغرب بداية ونهاية سواء في القيم أو أنماط الحياة أو المنتجات والخدمات، ففي الدراسات الحديثة[4]، وسائل الإعلام العالمية، والسياحة، والاقتصاد التابعة للشركات متعددة الجنسيات تساهم بشكل كبير في دفع الثقافات نحو نمط واحد. هذه الظاهرة، التي تسمى بـ"تجانس الثقافة"، تمثل مهددا خطيرا على الهوية الثقافية للشعوب التي قد تجد نفسها في مواجهة عمليات تهميش لمظاهرها الفريدة، خصوصًا الثقافات التي ليست لديها القدرة على مقاومة التيارات العالمية أو التي تعاني من ضعف اقتصادي وسياسي.

كما أن انتشار اللغة الانجليزية والثقافة الغربية، من خلال الهيمنة الاقتصادية والسياسية، يشكل أحد أبرز مظاهر هذا التجانس، الأمر الذي يؤدي إلى تصغير حجم التنوع إثر تعزيز الثقافة الرأسمالية وعالمية الاستهلاك.

في مقابل التجانس العولمي، برزت أطروحات "التغاير الثقافي"[5] التي ترى أن العولمة توفر إمكانات لتلاقح الثقافات وإثرائها بطرق غير مسبوقة، فبدلاً من فقدان الخصوصية، هناك مجتمعات تنتج هويات وتقاليد جديدة تعكس التفاعل الخلاق بين المحلي والعالمي.

ولعل أبرز مؤشرات ذلك الانتشار العالمي لأنماط الطعام، والموضة، والموسيقى، مع المحافظة على لمسات محلية تضمن بقاء الطابع الخاص لكل ثقافة. وتبرز هنا نظرية "المرونة الثقافية[6]" (Cultural Resilience) والتي تدل على قدرة المجتمعات المحلية على امتصاص التأثيرات الخارجية دون خسارة الهوية الأصلية، بل بلورة هوية ديناميكية متجددة.

د. الثقافات بين التهجين والمقاومة:

مهما يكن، لا يُمكن اختزال العولمة في مجرد عملية تجانس أو محو، إذ تشير دراسة فلسفية معاصرة [7] إلى أن المجتمعات المحلية غالبًا ما تتفاعل مع هذه التغيرات بطرق مبتكرة، مما يؤدي إلى تكوين أشكال جديدة من الهجنة الثقافية[8] التي تجمع بين العوامل المحلية والتأثيرات الخارجية.

وظيفة هذه العملية تتمثل في إعادة صياغة الهوية بنمط ديناميكي، يسمح للحفاظ على جذور الثقافة المحلية، بينما يُوظف عناصر العولمة لخلق تركيبات جديدة تثري الحياة الثقافية.

على أساس ذلك، برز مفهوم "المرونة الثقافية" الذي يؤكد قدرة الثقافات على التجاوب مع المتغيرات دون أن تفقد ذواتها.

2. المقاربات الفلسفية الجديدة: "الهوية، التعددية الثقافية، والتداخل الثقافي"

عرفت الدراسات الفلسفية الحديثة مرتكزات نظرية عديدة، تستهدف فهم التغيرات التي تُحدثها العولمة في معالم الثقافة والهوية. هذه الأطر النظرية تساعد في تفسير :

كيف يمكن للمجتمعات والأفراد التفاعل بطريقة تؤمن احترام التنوع دون الانزلاق إلى صراعات أو فقدان ذات؟

أ. المنظور ما بعد الحداثي (Post-modernism)

يركز التيار ما بعد الحداثي على تفكيك الهويات الثابتة، إذ يعتبر أن العولمة تؤدي إلى تشظي وتفتت الهويات الثقافية المحلية، مع بروز تأثيرات تجعل الفرد يعيش داخل شبكات معقدة من الانتماءات المتعددة والمتداخلة. هذا التيار يسلط الضوء على العجز في استنبات مرجعية واحدة حصرية لكل فرد، مما يؤدي إلى صراعات داخلية قد تكون مرتبطة بالهوية بشتى تمثلاتها (العرقية، الدينية..إلخ) والجنسية والانتماءات الثقافية.

المواطنة العالمية: Cosmo-Citizen

يدعو تيار المواطنة العالمية إلى تبني هوية عالمية تفوق الحدود الوطنية والقومية، تُركز على الإنسان بوصفه كائنًا مشتركًا يتشارك في ثقافة إنسانية عامة. هذا التوجه يروّج لفكرة تجاوز الانقسامات الثقافية عبر التواصل والحوار بين الشعوب، مع التأكيد على قيم العدالة والاحترام المتبادل[9].

إلا أن الفلاسفة ينبهون إلى المخاطر المترتبة على سياسة التوحيد هذه، والتي قد تُفقد المجتمعات المحلية خصوصيتها الثقافية وتؤدي إلى ما يُعرف بـ"الاستعمار الثقافي "[10]

ج. التعددية الثقافية والتثاقف

في المقابل، تُعتبر التعددية الثقافية إطارًا فلسفيًا يُقر بشرعية التعايش بين ثقافات متعددة داخل مجتمعات واحدة، مع التشديد على حق كل مجموعة في التعبير عن هويتها الخاصة. كما يُعزز التثاقف هذه الفكرة من خلال دعوة إلى تفاعل حيوي ومثمر بين الثقافات، حيث لا تتنافس الهويات بل تتعارف وتتبادل وتتكامل[11]. هذه الرؤية الجديدة تحاول بناء جسر للتفاهم والحوار، وتُشجع على التعاون الاجتماعي والثقافي، مع توفير شروط للسلام الاجتماعي والتضامن.

3. الإعلام، التطور الرقمي والهوية الثقافية:

تشكل التحولات الرقمية والتقنية دافعاً أساسيًا في صياغة وتطوير الثقافة في عصر العولمة. حيث تعرف وسائل الإعلام الحديثة، خاصة الرقمية منها، بوصفها أدوات قوية من شأنها احداث تغييرات جذرية في كيفية بناء وتكامل الهويات الثقافية.

أ. صناعة الهوية العابرة للثقافات

في ظل تسونامي الرقميات، لم تعد الهوية تُحدد فقط من خلال الانتماءات الجغرافية أو الوطنية أو الدينية وما هنالك، بل صارت تتشكل عبر وتيرة تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي، والمنتديات الرقمية، والمنصات المفتوحة على التنوع الثقافي العالمي. إذ تسمح هذه الأدوات الرقمية للأفراد أن يختاروا ويتنقلوا بين هويات ثقافية متعددة، مكونين بذلك هويات "متعددة الثقافات" أو "عابرة للثقافات".

هذه الصناعة الجديدة للهوية تُبرز مرونة الإنسان في الزمن الحاضر وقدرته على التكيف مع الواقع المتغير، غير أنه يثير أيضًا تساؤلات حول عمق الترابط أو الثبات في الهوية الفردية والمجتمعية.

ب. مخاطر الفضاء الرقمي الثقافي

رغم الفوائد الهائلة التي توفرها التكنولوجيا الرقمية للقاء بين الثقافات[12]، إلا أن هناك مخاطر واضحة تتمثل في تحويل الثقافة إلى سلعة تُستهلك بغرابة أو بشكل سطحي، مما قد يؤدي إلى فقدان المعنى الحقيقي للقيم والممارسات الثقافية. تكمن المشكلة في أن بعض النقاط الهامة، كالخصوصية، والحقوق الثقافية، والحفاظ على التنوع الغني للمعرفة الفطرية، قد تُهمل في فضاء الإنترنت المفتوح، مما يعرّضها للاندثار ..

ج. دور التشريعات والمناهج التعليمية:

تؤكد الدراسات الحديثة على أن التوازن بين الاستخدام الإيجابي للتكنولوجيا الرقمية كمُعزز للحوار الثقافي وحماية التنوع والتقاليد، وأخطار التجزئة الثقافية رقميًا، يتطلب تنسيقًا سياسيًا فعالاً. فالمسؤولية تقع على كاهل الحكومات والمنظمات الدولية لتطوير أطر تشريعية وسياسات تعليمية تشجع الحوار المفتوح وتدعم الإنتاج الثقافي المحلي.[13]

4. تعزيز التنوع الثقافي

في مواجهة تحديات التجانس الثقافي التي تصاحب ظاهرة العولمة، برزت العديد من الاستراتيجيات والمبادرات[14] التي تهدف إلى صون ثراء وتعدد الثقافات في العالم المعاصر، وذلك من خلال مقاربات فلسفية وسياسية تعترف بأهمية التنوع كقيمة جوهرية للإنسانية.

أ. الحوار الثقافي والحكم الشامل

أكدت العديد من الدراسات الفلسفية الحديثة[15] على ضرورة إقامة حوار مستمر يقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر كشرط أساسي للحفاظ على السلم الاجتماعي واستدامة التعايش في المجتمعات متعددة الثقافات. كما تبرز أهمية تعزيز نظم حكم شاملة تستوعب مكونات المجتمع المختلفة وتمنحها حقوقًا متساوية في الممارسة الثقافية[16].

هذا النوع من الحوار ليس مجرّد تبادل للآراء، بل هو عملية ديناميكية تؤدي إلى تأطير فهم مشترك وإلى استحداث نماذج جديدة للتفاعل الاجتماعي تستند إلى تقبل التنوع وتثمينه.

ب. الفعالية المجتمعية والسياسات العامة

على المستوى العملي، تلعب النشاطات الثقافية المجتمعية دورًا حيويًا في الحفاظ على الهوية الثقافية، من خلال دعم الصناعات التقليدية والفنون المحلية، وتشجيع تعلم اللغات الأم، وتعزيز انتقال المعرفة والتقاليد بين الأجيال.

إضافة إلى ذلك، تعتبر السياسات العامة الثقافية أداة محورية في دعم التنوع الثقافي، حيث تعمل على توفير الدعم المالي والتنظيمي للمشاريع الثقافية المحلية وتشجيع التبادل الثقافي الدولي، مما يخلق بيئة داعمة لاستمرارية الثقافات المتنوعة.

ج. التكيف النقدي

تشير الفلسفة المعاصرة إلى ضرورة تبني المجتمعات موقفًا نقديًا إزاء العولمة، يقوم على التكيف مع المتغيرات العالمية بطريقة تحفظ الجوهر الثقافي وتمنع الانصهار الثقافي الكامل. وهذا يعني تطوير قدرة الأفراد والجماعات على امتصاص المؤثرات الخارجية بوعي وتحليلها واختيار ما يتناسب مع قيمهم الثقافية.

هذا التكيف النقدي يُعد طريقًا لتحصين الذاكرة الثقافية وفي نفس الوقت لاستثمار فرص النمو الثقافي المستند إلى الحوار والتفاعل العالمي.

العولمة، بعيدًا عن كونها مسارًا خطيًا، كونها ساحة تشهد توترات وتفاعلات وابتكارات غير مسبوقة في مجال الثقافة. تؤكد الفلسفة المعاصرة [17]على ضرورة الموازنة بين الحفاظ على التنوع الثقافي والانفتاح على التأثيرات الخارجية، معتبرة التعددية الثقافية والتداخل الثقافي بوصفهما مسالك متقدمة لمستقبل الثقافة في عالم معولم.

5. معوقات قبول الثقافات المتنوعة وتكاملها:

إن قبول الثقافات المتنوعة ودمجها في المجتمع ينطوي على العديد من التحديات والعقبات، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي. وقد تنشأ هذه العقبات من الأحكام المسبقة، أو سوء الفهم، أو السياسات الاجتماعية غير الملائمة، أو حتى المصالح الاقتصادية. وفيما يلي لمحة عامة عن العوائق الرئيسية أمام قبول الثقافات المتنوعة وتكاملها:

التحيزات والصور النمطية:

إن الصور النمطية هي عبارة عن تعميمات مبسطة، وخاطئة في كثير من الأحيان، تنُُسب إلى مجموعة ثقافية معينة. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي المفاهيم الخاطئة حول ثقافات معينة (مثل التصورات السلبية للمهاجرين، أو المعتقدات حول الممارسات الدينية أو الاجتماعية) إلى التمييز ومقاومة التكامل. كما أن الصور النمطية تغذي الخوف من الآخرين ويمكن أن تخلق حواجز غير مرئية بين المجتمعات.

مثال عن ذلك: قد تتفاقم الصور النمطية السلبية المرتبطة بمجتمعات معينة، مثل المهاجرين أو اللاجئين، بسبب وسائل الإعلام أو الخطاب السياسي. ويمكن أن يؤدي هذا إلى أشكال من العزلة الاجتماعية والنبذ، وخاصة في السياقات التي ينُُظر فيها إلى الأقليات على أنها تشكل تهديداً للثقافة السائدة وهذا لا نجده فقط في الدول النامية بل حتى في دول مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من السياسات العامة الصارمة والتشريعات المتطورة.

حيث كراهية الأجانب في العديد من المجتمعات هي الخوف أو العداء تجاه الأجانب أو الأشخاص الذين ينُظر إليهم على أنهم من بلدان أخرى. أما العنصرية، من ناحية أخرى، فهي شكل أعمق من أشكال التمييز على أساس العرق أو الدين أو البلد أو المذهب أو اللون.

وتشكل هذه المواقف عقبات رئيسية أمام قبول الثقافات الجديدة، لأنها تخلق انقسامات اجتماعية وتمنع التعايش المتناغم بين المجموعات المختلفة.

على سبيل المثال: في العديد من المجتمعات، قد تتعرض الشعوب ذات الأصول الأجنبية للوصم بسبب مظهرها الجسدي، أو لغتها، أو عاداتها المختلفة، كما حصل مع العرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.ويمكن أن يؤدي هذا إلى الإقصاء الاجتماعي المنهجي، وخاصة في سوق العمل، وفي التعليم، وفي التفاعلات اليومية.

الاختلافات الثقافية وسوء الفهم:

إن إحدى العقبات الأكثر وضوحا أمام التكامل هي حاجز اللغة .قد يجد الأشخاص الذين يتحدثون لغة مختلفة عن لغة الأغلبية صعوبة في الاندماج الكامل في المجتمع، سواء في الحياة المهنية أو التعليمية أو الاجتماعية. ويمكن أن يؤدي هذا أيضاً إلى سوء الفهم والإحباط، سواء بالنسبة للأشخاص من ثقافات مختلفة أو بالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى الثقافة السائدة.

على سبيل المثال: قد يجد المهاجر الذي لا يتقن لغة البلد المضيف نفسه معزولاً، وغير قادر على المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعية، مما قد يحد من فرص عمله وقدرته على الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليم وما إلى ذلك.

من جهة أخرى، للثقافات قيم ومعايير اجتماعية مختلفة جداً، مما قد يؤدي إلى سوء الفهم .على سبيل المثال، يمكن أن تكون الاختلافات في تصورات الوقت، أو العمل، أو الأسرة، أو العلاقات الاجتماعية، مصادر للتوتر، وهذا الأمر ذو أهمية خاصة في السياقات التي تختلف فيها القيم التقليدية للثقافة السائدة عن قيم المجتمعات الوافدة حديثاً، وبالفعل هذا ما سمعته من لدن العديد من العرب المهاجرين إلى ألمانيا، حيث اصطدموا بسياق ثقافي مغاير رغم سياسات الادماج المتقدمة في ألمانيا بالنظر لدول أوروبية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا.

على سبيل المثال: في بعض الثقافات، قد تشغل المرأة أدواراً عائلية مختلفة تماماً عن الأدوار التي تشغلها في مجتمعات أخرى، مما قد يؤدي إلى سوء الفهم بشأن قضايا مثل المساواة بين الجنسين أو الأدوار داخل الأسرة، مما يخلق احتكاكاً بين المجموعات الثقافية.

التمييز الممنهج وعدم المساواة الاجتماعية:

يعد التفاوت الاقتصادي أحد العوائق الرئيسية أمام التكامل بين الثقافات في المجتمع الواحد، قد تواجه الأقليات الثقافية أو المهاجرون حواجز اقتصادية تحد من قدرتهم على الوصول إلى سوق العمل والتعليم والخدمات الأساسية مثل: الصحة والإسكان .وتؤدي هذه التفاوتات إلى تعزيز الإقصاء الاجتماعي وتعوق التكامل الثقافي.

على سبيل المثال: قد يواجه الأقليات العرقية أو المهاجرون صعوبات في الحصول على فرص عمل بسبب أصولهم أو مؤهلاتهم غير المعترف بها أو وضعهم المتعلق بالهجرة. ويمكن أن يؤدي هذا إلى خلق انقسام بين الفئات الاجتماعية، مما يدفع نحو تأجيج التوترات الثقافية وعدم المساواة في الثروة.

ويمكن أيضا أن يتم إضفاء الطابع المؤسسي على التمييز، أي أنه يصبح جزءا لا يتجزأ من القوانين أو السياسات أو الممارسات الاجتماعية، وبالتالي خلق نظام من الإقصاء لبعض المجموعات الثقافية، وقد يتجلى هذا من خلال التمييز في عمليات التوظيف، وفي الممارسات التعليمية، وفي إنفاذ القانون، وفي الوصول إلى الخدمات العامة.

مثال على ذلك: قد تتعرض الأقليات العرقية للتمييز في إجراءات التوظيف، حيث يؤثر التحيز العنصري على كيفية معالجة طلباتهم، على الرغم من حصولهم على نفس المؤهلات مثل المتقدمين الآخرين.

د. الخوف من التغيير ومقاومة التنوع:

لدى بعض المجتمعات أو المجموعات داخل المجتمعات وجهة نظر محافظة تجاه ثقافتها الخاصة وقد تنظر إلى وصول الثقافات الجديدة على أنه تهديد لتقاليدها أو أساليب حياتها. وقد تترجم هذه المقاومة للتغيير إلى رفض للقيم الثقافية الأجنبية والرغبة في الحفاظ على التجانس الاجتماعي.

على سبيل المثال: في المجتمعات التي تكون فيها التقاليد الدينية أو العائلية قوية بشكل خاص، قد ينُُظر إلى وجود ممارسات ثقافية أو دينية مختلفة على أنه يشكل تحدياً للنظام الاجتماعي القائم. وقد يؤدي هذا إلى خلق توتر بين المجموعات التي ترغب في الحفاظ على ثقافتها وأولئك الذين يصلون بممارسات ثقافية مميزة.

هنا تلعب الفعاليات الثقافية دورا أساسيا في تعزيز الهوية والتماسك الاجتماعي داخل المجتمعات، كونها توفر وسيلة للتعبير الجماعي الذي يقدر التاريخ المشترك والقيم والتقاليد والمعتقدات. حيث تعتبر الاحتفالات التي تمثل مراحل الحياة المهمة والمأكولات من الأمثلة الرئيسية، لأنها ترمز إلى لحظات الانتقال والتضامن والاحتفال، سوف أشير هنا إلى جوانب ثلاث:

الفعاليات الثقافية التي تعزز الهوية والمجتمع:

الأحداث الثقافية هي ممارسات أو أحداث جماعية تخلق شعوراً بالتضامن والمشاركة، في كثير من الأحيان تعكس التاريخ والقيم والتقاليد الخاصة بمجموعة ما، وتشارك بشكل فعال في بناء الهوية الجماعية.

هناك المهرجانات والمناسبات التقليدية[18]، مثل كرنفال ريو بالبرازيل، الذي يعد حدثاً مشهوراً عالمياً، وهو حدث ثقافي يجمع بين الرقص والموسيقى والأزياء والاستعراضات، يعكس الهوية البرازيلية، مع فرادة عنصر أفرو-برازيلي قوي، يعكس روح الفرح والوحدة.

الفلامنكو بإسبانيا، هذا النوع الموسيقي والرقصي، الذي نشأ في الأندلس، يجسد الهوية الإسبانية، وخاصة هوية الغجر، يتم ممارسته غالباً في الشوارع، وفي المهرجانات، وفي التجمعات المجتمعية. الريجي بجامايكا، موسيقى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ وهوية الشعب الجامايكي، وترمز إلى المقاومة والنضال من أجل العدالة الاجتماعية والفخر الثقافي. والعديد من الأحداث الثقافية التي تعكس الهويات الثقافية للشعوب عبر العالم.

هناك ممارسات صحية مثل أوراق كينتي بغانا في افريقيا هي ممارسة فنية تقليدية تعكس معتقدات وعادات وتاريخ شعب الأكانفي، حيث كل نمط في كينتي له معنى محدد، ويتم ارتداء ملابس كينتي خلال الأحداث الهامة.

فخار نافاجو بالولايات المتحدة الأمريكية، فخار خاص بشعب نافاجو وغيره من القبائل الأمريكية الأصلية ليس فناً فحسب، بل هو أيضاً وسيلة لنقل القصص الثقافية والروحية عبر الأجيال. هناك أيضا الاحتفالات التي تمثل طقوس رمزية خاصة بمراحل مهمة في حياة الأفراد والمجتمعات، مثل الميلاد والمراهقة والزواج والموت. إنها لحظات انتقالية تعمل على تعزيز الانتماء إلى المجتمع.

أمثلة:

حفل التسمية بغرب أفريقيا، أو ما يعرف عند المسلمين بالعقيقة، في العديد من الثقافات الأفريقية كذلك، تقام طقوس لتسمية الطفل. إن هذه المراسم مهمة لأنها ترمز إلى اندماج الطفل في المجتمع والعالم الروحي.

طقوس البدء بين الشعوب الأفريقية، في العديد من الثقافات الأفريقية، تقام طقوس البدء للإشارة إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، وقد تشمل هذه الطقوس مراسم الختان، أو اختبارات التحمل، أو التجارب الروحية.

حفلات الزفاف في الهند مع طقوس دينية ومهرجانات حيث تتجمع العائلات والمجتمع للاحتفال باتحاد شخصين. وتعتبر الاحتفالات (الخطوات السبع حول النار المقدسة)، كرمزية تدل على الالتزام العميق بالحياة المجتمعية. حفلات الزفاف الصينية التقليدية تتضمن طقوساً مثل تبادل الشاي بين العروس والعريس وعائلاتهم، مما يرمز إلى الاحترام والوحدة.

الموت والجنازات: كذلك فالجنازات المكسيكية Dia de los Muertos: في المكسيك، يوم الموتى هو احتفال بهيج حيث يقوم الأحياء بتكريم أسلافهم. يتم وضع القرابين على المذابح، بما في ذلك الصور، والزهور، والشموع، والأطعمة التي كان المتوفى يستمتع بها أثناء حياته. إنها فرصة للمجتمعات للالتقاء وتعزيز الروابط بين الأجيال.

الجنازات الإسلامية: تتبع الجنازات في الإسلام بروتوكولاً محدداً، بما في ذلك غسل الجثة، وصلاة الجنازة (صلاة الجنازة)، والدفن. وترمز هذه الطقوس إلى الانتقال إلى الحياة الآخرة وتعزيز الوحدة داخل المجتمع الإسلامي.

فن الطهو:

أصبح الطهو تعبير عن التاريخ والهوية الثقافية، لا يقتصر على الطعام فقط؛ إنها وسيلة أساسية للتعبير الثقافي. يحمل كل طبق أو وصفة أو مكون تاريخ شعب ما، وتأثيراته الجغرافية والاجتماعية والسياسية.

فالأطباق التقليدية كرموز للهوية:

-الكسكس طبق رمزي في بلدان المغرب العربي (الجزائر، المغرب، تونس)، هو رمز للضيافة والمرح. ويعد إعداده ومشاركته من الأفعال الثقافية العميقة، والتي ترتبط في كثير من الأحيان بالتجمعات العائلية أو المجتمعية والمناسبات الجماهيرية.

- البيتزا بإيطاليا: وخاصة البيتزا النابولية، هي مثال على كيفية تمثيل المطبخ الإقليمي في إيطاليا للتراث الثقافي العالمي. يعكس هذا الطبق التقليدي تاريخ نابولي وتطور تقنيات الطهي في إيطاليا.

- وجبات احتفالية:

عشاء عيد الشكر بالولايات المتحدة الأمريكية، تجمع هذه الوجبة التقليدية العائلات والأصدقاء حول أطباق مثل الديك الرومي والبطاطس المهروسة وفطيرة اليقطين. فهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ المستوطنين الأوائل وفكرة الامتنان.

وجبات عيد الميلاد بأوروبا وخارجها، مع أطباق خاصة بكل بلد مثل شواء عيد الميلاد في إنجلترا، أو الديك الرومي في أمريكا، هي أوقات تنتقل فيها الثقافة من خلال المطبخ والتقاليد الذواقة.

الخاتمة:

في النهاية، يقتضي اكتشاف الثقافة في ظل تحديات ورهانات العولمة تأملاً أخلاقيًا وعمليًا يُراعي تعقيد الظاهرة وتنوعها، حيث يصاحب الاعتراف بالآخر الحفاظ على الذات، ويجب أن يترافق النهج الإنساني العالمي مع احترام حقيقي للتعددية الفعلية للهويات.

هذا التميز في فهم العلاقة بين الثقافة والعولمة يفتح آفاقًا جديدة للبحث والتطوير في مجالات الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والسياسات الثقافية في عالمنا العربي والاسلامي، ويعيد توجيه الاهتمام إلى كيفية بناء عالم يتمتع بالتنوع والعدالة الثقافية في آنٍ واحد.

ولقد أثبت مسار التاريخ الإنساني أن الثقافة ليست مجرد إرث من العادات والفنون، بل هي التجسيد الحي لروح الأمة وهويتها وعمقها الحضاري. وفي زمن العولمة، حيث تتقارب المسافات وتتسارع التبادلات، وتشتد محاولات توحيد الأنماط وإذابة الخصوصيات، يصبح لزامًا على الثقافات العريقة أن تُظهر قدرتها على المقاومة الإيجابية والإلهام المتجدِّد.

وفي عمق هذا المشهد المتشابك والمعقد، تبرز الثقافة العربية-الإسلامية كأيقونة حضارية متفرِّدة، تمتد جذورها من مكة والمدينة ومسقط إلى بغداد ودمشق ومصر والأندلس والمغرب العربي، حاملةً رسائل العدل والتسامح والتلاقي الإنساني. فالعدل في منظورها قيمة كونية، تنسجم مع ما قاله الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): "الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، بما يلخّص فلسفة المساواة والاعتراف بإنسانية الآخر مهما اختلفت العقيدة أو اللسان.

أما التسامح، فقد عبّر عنه تراثها الفكري في صورة عملية وواقعية، وهو ما أشار إليه ابن رشد حين قال: "التفاهم بين الناس ضرورة عقلية وشرط للتمدّن، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له[19]". فالحوار عنده ليس ترفًا فكريًا، بل قاعدة لبناء مجتمع متماسك وحضارة مزدهرة.

وفي مقاربة فكرية معاصرة، يلخص مالك بن نبي هذه الرؤية بقوله: "لا تبنى الحضارة على القوة المادية وحدها، بل على الإرادة الأخلاقية التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يعيش مع الآخر"، مبيّنًا أن مقاومة العولمة الموحِّدة لا تقوم فقط على الحفاظ الميكانيكي للتقاليد، بل على وعي أخلاقي حيّ يبني الجسور ويمنع القطيعة.

ولعلّ ما قاله الجاحظ يحمل بُعدًا فلسفيًا يتقاطع مع هذا المعنى: "الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تساووا هلكوا". فالاختلاف هنا ليس تهديدًا، بل هو مصدر غنى وتجديد، وضمانة لاستمرار الإبداع الإنساني في مواجهة النمطية.

ومن منظور حضاري شامل، يرى الشاعر والفيلسوف محمد إقبال أن: "الأمم لا تعيش إلا بروحها، وروح الأمة في ثقافتها وقيمها ومبادئها". وهنا تكمن قوة الثقافة العربية-الإسلامية في زمن العولمة: أنها قادرة على صون روحها، وفي الوقت ذاته مدّ العالم بتيارات فكرية وأخلاقية تعزز العدالة والتنوع والتعايش.

وعليه، فإن هذه الثقافة، إذا تمسّكت بجذورها وتفاعلت بوعي مع العالم، ستظل مشعلًا مضيئًا يهدي في عتمة التحديات، وجسرًا بين الشرق والغرب، ومصدرًا لإلهام ثقافات أخرى بروح العدالة ونبل التسامح، مسهمةً بذلك في رسم ملامح عالم أكثر عدلًا وإنسانية وتعدّدًا.

***

مراد غريبي – كاتب وباحث

........................

[1] Mary Christine Wheatley, « Globalization and Local Cultures: A Complex Coexistence » (2024)

[2] يمكن العودة لمؤلفات جوديث بتلر واكسل هونيث الخاصة بالاعتراف وكذا نظرية التعارف للدكتور زكي الميلاد المفكر السعودي.

[3] التسامح ومنابع اللاتسامح، ماجد الغرباوي ص 14-15، ط3.

[4] Kraidy M. Hybridity, or the Cultural Logic of Globalization. Temple University Press. 2006. and Sklair L. Sociology of the Global System. Johns Hopkins University Press. 1995.

[5] Appadurai A. Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. Minneapolis: University of Minnesota Press. 1996. and Nederveen Pieterse J. Globalization and Culture: Global Mélange. Rowman & Littlefield. 2009.

[6] Robertson R. Globalization: Social Theory and Global Culture. Sage. 1992. And Hannerz U. Transnational Connections: Culture, People, Places. Routledge. 1996.

[7] Alejandro Rojas, « Philosophical Reflection on Cultural Identity Formation in the Era of Globalization » (2024)

[8] تشير إلى ظاهرة اندماج عناصر من ثقافتين أو أكثر لتشكيل أنماط جديدة من التعبير الثقافي، سواء في اللغة أو الفنون أو الممارسات الاجتماعية أو القيم. وغالبًا ما تنتج عن الاتصال المستمر بين الشعوب، سواء بفعل الهجرة، أو التبادل التجاري، أو العولمة، أو وسائل الإعلام.

[9] م.س (7)

[10] Ecology & Society :volume 30, issue 01, Article 33(Confronting colonial history: toward healing, just, and equitable Indigenous conservation futures).

[11] Elwira Gross-Gołacka et Anna Martyniuk, « Globalisation and the Challenges of Managing Cultural Diversity » (2024)

[12] O’Brien M, Patel R. Digital diasporas: The role of media in migrant cultural expression. Cult Geogr. 2019;26(3):341–59.

[13] Eriksson M, Lindberg I. Education and cultural preservation in Scandinavia. Scand J Educ Res. 2024;58(1):77–93.

[14] Martinez S, Garcia R. UNESCO’s role in cultural heritage preservation. Int J Cult Heritage. 2023;18(2):156–72.

[15] Ogharanduku, V. I., & Tinuoye, A. T. (2020). Impacts of Culture and Cultural Differences on Conflict Prevention and Peacebuilding in Multicultural Societies. In Handbook of Research on the Impact of Culture in Conflict Prevention and

Peacebuilding (pp. 177-198). IGI Global.

[16] Si Shi & Zhuo Yang, « Philosophical Analysis of Cultural Diversity and Globalization » (2025)

[17] Alejandro Rojas, « Philosophical Reflection on Cultural Identity Formation in the Era of Globalization » (2024(

[18] International Journal of Frontiers in Sociology, 2023, 5(1 .(6

[19] فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لإبن رشد.

 

في المثقف اليوم