قضايا

الحسين بوخرطة: الدولة والطفولة والمستقبل

مفهوم الشخص أو المواطن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذات الواعية بفكرها، القادرة على تحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والمعرفية داخل حدود وطنها. وتحقيق هذا الوعي والانتماء لا يتحقق تلقائياً، بل هو ثمرة منظومة مؤسساتية تتولى الدولة رعايتها مباشرة، سواء نشأت هذه الدولة بإرادة شعبية أو تأسست بفعل ظروف تاريخية عززت مشروعيتها السياسية.

ومهما كانت ظروف النشأة، فإن بقاء الوطن وسيادته مرهونان بقدرة أفراده على بناء هوية جماعية أصيلة، وتطويرها بما يمنحها قابلية التغيير والتجدد والمنافسة في إنتاج القيم. وعندما تمتلك الدولة مؤسساتها وسلطتها، يصبح لزاماً عليها أن تتحول إلى وعاء ترابي ومؤسساتي يحتضن الجميع ويؤهلهم باستمرار. هذا النموذج التنظيمي وقفتُ على تجسيده بوضوح في التجربة الفرنسية منذ عقود.

لا يمكن بناء أمة قوية دون أسرة متماسكة ومدرسة فاعلة. فالأسرة هي "المؤسسة الأولى في المجتمع"، ودورها في التنشئة لا يقل أهمية عن دور الدولة، بل هو شريك حاسم في صياغة المستقبل، حتى في الدول غير الديمقراطية. وإذا كانت جهود الدولة المغربية في مجال البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية تستحق التقدير، فإن الخلل الواضح يظل في الفضاء العام، حيث يغيب التناغم بين كفاءة الدولة وكفاءة الأسرة والمدرسة.

فالطمأنينة في الشارع العام، وحسن الجوار في الأحياء الحضرية والقروية، يعتمدان بشكل أساسي على جودة أداء هاتين المؤسستين. لكن الفوضى والعنف المنتشرين بين الأطفال، وضعف أو انعدام رعايتهم، يضعفان الانتماء الترابي، ويهددان النسيج الاجتماعي. نرى أطفالاً يطارد بعضهم بعضاً بعنف، أو يتعرضون للإهانة والاعتداء، ويعبثون بممتلكات الغير، فيما تنتشر الحيوانات الضالة بلا رقيب.

هذه الأوضاع تكشف غياب الإرادة الحقيقية لتعزيز المصلحة المشتركة، وفي ظل تراجع الأدوار التربوية للأسرة والمدرسة، تضيع قيم التضامن، وتتفشى الفردانية والنزاعات. النخب تنعزل في أحياء محروسة، والطبقة الوسطى تطمح للحاق بها، بينما تُترك الأحياء الشعبية للفوضى. أما المثقفون الذين يرفضون الانعزال، فيجدون أنفسهم مضطرين لإغلاق أبوابهم اتقاءً للأضرار.

إن العناية بالأسرة والمدرسة والشارع العام مسؤولية سيادية للدولة. وقد برهنت تجربة تدبير جائحة "كوفيد-19" على قدرة المغرب في فترات قصيرة على فرض النظام وضبط الفضاء العام بفعالية، كما حدث مع تعميم الالتزام بحزام السلامة المرورية. الأمثلة عديدة وتثبت أن الدولة قادرة على قيادة التغيير بحكمة إذا توافرت الإرادة.

في هذا الإطار، يمكن للمغرب أن يستفيد من التجارب الغربية الناجحة، خصوصاً التجربة الفرنسية، التي أثبتت أن الانضباط في الشارع ليس صدفة، بل نتيجة منظومة متكاملة من القوانين، والرقابة، والخدمات الاجتماعية، والتربية المجتمعية، تجعل من النادر رؤية طفل أو حيوان تائه في الفضاء العام.

فرنسا تعتمد الصرامة القانونية في حماية القاصرين، وتجرّم إهمالهم بعقوبات قد تصل إلى السجن وسحب الحضانة، مع شبكة متكاملة من العقوبات والآليات الرادعة. كما تمنع القوانين التخلي عن الحيوانات أو الإساءة إليها، وتفرض تسجيلها برقاقات إلكترونية تربطها بمالكها.

الشرطة البلدية متواجدة ميدانياً، وتتدخل فوراً عند ملاحظة أي طفل أو حيوان ضال، فيما تتولى خدمات الإنقاذ الاجتماعية (*ASE*) حماية الأطفال المهددين، وتتولى الشرطة البيئية والفرق البيطرية إيواء الحيوانات. إضافةً إلى ذلك، يُسجَّل كل طفل في النظامين التعليمي والصحي، مما يسهل التعرف عليه، وتُلزم الحيوانات الأليفة بوسائل تعريف دائمة.

منذ السنوات الأولى، يتعلم الأطفال في المدرسة والأسرة مخاطر التجوال وحدهم، وطرق طلب المساعدة. المجتمع نفسه متيقظ: أي مواطن يلاحظ حالة طارئة يبادر بالاتصال بالسلطات عبر أرقام مخصصة لذلك. لكل بلدية اتفاقات مع مراكز إيواء وجمعيات متخصصة، سواء للأطفال أو للحيوانات.

لقد ترسخ في الوعي الفرنسي، بفضل حضور الدولة القوي، أن ترك طفل أو حيوان بلا رعاية ليس فقط مخالفة للقانون، بل وصمة عار اجتماعية. وتدعمه حملات إعلامية وتوعوية وغرامات رادعة.

وخلاصة القول: المغرب يمتلك طاقات ونخباً قادرة على قيادة المجتمع المدني نحو انطلاقة جديدة. ويبقى على الدولة أن تحسم خيارها في ضبط المجتمع بما يخدم الوطن والمواطن، كما فعلت في محطات سابقة، لأن المستقبل يُصنع اليوم، في الشارع قبل المؤسسات.

***

الحسين بوخرطة

في المثقف اليوم