قضايا
كريم الوائلي: التنوير في مواجهة البطش

المثقف العراقي وتجربة المناهج التعليمية
يختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما، بين من يمارس الفعل في الواقـع " السياسي " وبين من يتعالى عليه " المثقف "، وهذا يعني أن السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك إلى الآتي، وما ينبغي أن يكون، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الأحيان نحو ميكانيكية تبريرية، في حين يميل المثقف إلى نزعة ترقى إلى المثالية التي تهدف إلى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة، بمعنى الانتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده، إلى المتغير الذي ينشـــده المثقف؛ لأن الثابت " المعروف " يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه، أما المتغيــر " المجهول " فإنه يحدث خلخلة في الواقع، وتغيُرًا يخشاه السياسي ويفر منه.
ويبلغ التعارض الضدي أقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية "ألف ليلة وليلة"؛ إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار، واطلعت على الفنون، فضلًا عن امتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء، واستخدم البطش ببشاعة فائقة، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائمًا بين السياسي والمثقف، بل إنه اشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة، وكأنه يشير ضمنًا إلى تعارض ثقافي ذكوري وأنثوي.
وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة، وتمكنت من إعادته إلى حالته الطبيعية، فإن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنًا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه " كليــلة ودمنة "، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف " بيدبا ودبشليــم "؛ إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلًا رمزيًّا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع إلى القول صراحة " إن الملوك أحوج إلى الكتُاب من الكتُاب إلى الملوك " وكما قال ابن المقفع : "إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال! "
إن المنهج ليس تأليف كتاب، إنما هو يشبه عمل الرسالة والنبوة مع فارق المثل، طريقة وآليات وتدريب وأدوات. إن الدولة لا تتدخل ما دام السطح الذي تطالعه لا يتعارض مع التوجهات العامة؛ لكنها مهما بلغت تبقى تجهل البنى العميقة التي ارتكزت عليها طبيعة النصوص.
في تعاملي مع تأليف كتب المطالعة من الصف الأول المتوسط إلى السادس الثانوي، كنت أدرك جيدًا النصوص التي يتم اختيارها من الماضي أو من الآخر، لها سياقاتها التاريخية والاجتماعية والمعرفية، ولذلك فإن الجزء الحقيقي هو الذي يختفي تحت الماء من جبل الثلج، وما تراه هو الجانب المرئي!
وليس من المبالغة اذا قلنا إن لكل نص ظاهرًا وباطنًا، الدولة لا ترى إلا الظاهر وربما السطحي، أما المؤلف المثقف صاحب الرؤية يمتلك أنساقًا عميقة لبنيات تحتية وثيرة؛ إنها المسكوت عنه. ولو عدنا إلى التراث لأدركنا أن هناك الكثير ممن كتبوا، وجعلوا المسكوت عنه يبحر بين السطور وإلا، لو أدرك الآخرون طبيعة المسكوت عنه لنحروا من قاله نحرا!
اشترك معي ـــ أساسًا ـــ في التأليف شخصان انتقلا إلى رحمة الله ـــ زاهد في حياته بروح الصوفـي الدمث –" تركي الراوي" وآخر مثقف مستقبلي قتلته أياد خبيثة بعد أن اختطفته، " علي عبد الحسين مخيف " تمامًا مثل الحلاج والسهروردي.
كنا نضع نصب أعيننا أن تكون كتب المطالعة تشكل رؤية التلميذ؛ بحيث يكون قادرًا على تذوق النصوص وتأملها، وأن تفتح أمامه آفاقًا معرفية عديدة، كان لابد أن يطلع على جوانب ثرية من التراث، وبخاصة في الجوانب التنويرية، هذا فضلا ً عن نصوص قرآنية وأحاديث نبوية.
ففي تعاملنا مع النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة اعتمدنا منهجًا يقوم على شرح هذه النصوص، وتفسيرها وتحليلها، في الصفوف الأولى والثانية والثالثة المتوسطة، ولكننا في الصفوف الرابعة والخامسة والسادسة الإعدادية اعتمدنا طريقة أخرى؛ بحيث نزود الطالب بتأملات التراثيين للقرآن الكريم، ولذلك اخترنا الرماني والباقلاني والشريف المرتضى يتعاملون مع النصوص القرآنية، وهم من مدارس فكرية مختلفة.
وكان جل اهتمامنا أن يطلع التلميذ على جرعات مختلفة ومتنوعة من الأدب والفكر والثقافة، وجعلنا الأولوية للأدب والفكر والثقافة العراقية، ثم تليها الثقافة العربية والعالمية ولقد زودنا التلميذ بنصوص عربية مختلفة ونصوص أجنبية من الأدب الإنكليزي والروسي والفرنسي وحتى الصيني!
وتنوعت النصوص بين شعرية ونثرية ومعرفية يمتح جزءًا منها من التراث، وكلها يهدف إلى الارتقاء بالذائقة الأدبية والمعرفية، واستجلاء جوانب جديدة ذات طوابع تنويرية.
وكنت أدرك تمامًا أن الثقافة العراقية المعاصرة تتميز بالتنوع والتعدد والتباين، وكنت أدرك أيضًا أن هذه الثقافة ليست كتلة مصمتة ومعلقة في الفراغ، وإنما هي عجينة لدنة قابلة للتشكيل والتحوير والتغيير، فهي تماما ً كالواقع لا تعرف الثبات والاستقرار، بل هي في صيرورة دائمة.
***
د. كريم الوائلي