قضايا
أكرم عثمان: الإنسانية.. اللؤلؤة النفسية وبوصلة الضمير الأخلاقي والوظيفي

في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتزاحم فيه المصالح وتتدافع، وتتبدل فيه منظومة القيم، تبقى الإنسانية عنواناً عريضاً لا يخفت وهجه، ولا تتساقط أوراقه، ولا تذبل ثماره، لأنها منبثقة من ضمير حي يقظ، وصاحب مواقف عظيمة.
ليست الإنسانية مجرد شعارات ترفع، أو عاطفة عابرة ما تلبث أن تنطفئ شمعتها، بل هي منظومة متكاملة تنبض في القلب، وتستنير بالعقل، وتترسخ في الوعي، وتوجه البصيرة نحو الخير والرحمة والعدل.
الإنسانية الحقيقية تنبع من قلب حي نابض، يحسن الشعور بما حوله، ويتفاعل مع آلام الناس وأحلامهم وآمالهم. قلب لا يعتاد القسوة، ولا يبرر اللامبالاة أو التبلد الذي يسيطر على كثير من الناس تجاه من حولهم من بشر يستحقون الالتفات والحضور. بل هو قلب ينبض بإحساس عميق، يترجم إلى رحمة وتعاطف، ودعم وسخاء في العطاء، دون انتظار مقابل أو ثمن لقاء خدمة أو إعانة أو جهد يبذل.
أما الفكر الإنساني، فهو فكر متوقد واع، لا يعيش على هامش الأحداث، بل يتأمل ويتفاعل ويدرك أن لكل فعل صدى، ولكل موقف أثر. إنه فكر يعي أن الإنسان لا يقاس بما يملك، بل بما يقدم ويبذل، وبما يتركه من أثر في نفوس من حوله.
ثم تأتي البصيرة النافذة، التي تمنح صاحبها رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة، وتتخطى مظاهر الأشياء. بصيرة ترى ما لا تراه العيون، وتقرأ ما بين السطور، وتتأمل في المآلات لا المظاهر. فالبصير هو من يزن الأمور بميزان الحكمة، ويدرك أن لكل قرار مسؤولية، ولكل كلمة وقعًا، ولكل موقف قيمة.
ويتوج ذلك بالعقل الراجح، الذي يتحلى برجاحة فكر، وحسن تقدير، وبعد نظر. عقل لا تسيره الأهواء، ولا تستعبده المصالح الآنية، بل يزن الأمور بميزان المبدأ، وينطلق من قيم ثابتة تضع رضا الله، وسعادة الناس، واستقرار النفس فوق كل اعتبار.
الإنسان الحق لا يرى في الفوز مجرد تفوق فردي أو مكسب شخصي، بل يفهم أن النجاح الحقيقي هو ذاك الذي يثمر جماعياً، وينعكس على من حوله طمأنينة وراحة واستقراراً. هو من يجعل من محيطه بيئة أكثر أمانًا، وعدلاً، وإنسانية.
الإنسانية ليست كلمات منمقة، ولا خطَباً براقة، بل هي سلوك يومي بسيط يبدأ بابتسامة صادقة، ويتجسد في يدٍ تمتد للعون، وقلب يتسع للناس، وعقل يُنصف الآخر، ويحتوي الاختلاف، ويمنح من حوله فرصة لحياة كريمة.
كن إنساناً يرى في من حوله بشراً لا أرقاماً، وأرواحاً لا أدوات، ورفاقاً في درب الحياة لا منافسين على غنيمة.
كن من أولئك الذين تتجلى فيهم الإنسانية فعلاً لا قولاً، حضورًا لا شعاراً، تأثيراً لا استعراضاً
فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من المتحدثين عن الإنسانية، بل يحتاج إلى مزيد من الذين يعيشونها واقعاً ملموساً، تترجم فيه معانيها ومفرداتها وجملها.
فالأمثلة تتوالى وتتكاثر في بيئة العمل، فهذا المدير الذي يقدر موظفيه ويحترمهم، يمنحهم إجازات طارئة دون تردد أو تلكؤ، لا سيما حين يمر أحدهم بظرف إنساني طارئ، كالمشكلات الأسرية، أو الضائقة المالية، أو الحوادث، أو مرض أو وفاة أحد أفراد الأسرة. يبادر بالدعم والمساندة دون مماطلة أو ضغط، واضعاً إنسانيته فوق القوانين الجامدة التي يصر البعض على جعلها عنواناً للنجاح المهني. ولا ننسى زميل العمل الذي يمد يد العون لإنجاز مهمة ثقيلة دون أن يطلب منه ذلك؛ يلاحظ تأخر زميله في إنهاء تقرير ما، فيعرض عليه المساعدة تطوعاً وعوناً، دون أن ينتظر شكراً أو مكافأة.
ورب العمل الذي يراعي الظروف المالية لبعض موظفيه، يبادر بتقديم سلفة دون من أو تفضل، أو يؤجل اقتطاع مبلغ معين من الراتب، أو حتى يساعد في تسديد أقساط دراسية أو جامعية لأبنائهم. وكذلك حسن الترحيب بالعاملين الجدد ومساعدتهم على الاندماج والانسجام، بدلاً من معاملتهم بجفاء أو تنافسية؛ حيث يتم استقبالهم بود، وتوجيههم، ومرافقتهم، حتى يشعروا بالأمان والانتماء.
وفي الحياة اليومية، مواقف تنضح بالإنسانية والأخلاق، كأن تساعد عجوزاً في عبور الشارع أو في حمل أغراضه، دون انتظار مقابل أو حتى شكر، بدافع المسؤولية تجاه الآخر فقط. أو تفتح باب الحوار مع شخص يعاني من التوتر، أو العزلة، أو الإحباط؛ مجرد الجلوس معه والإنصات لمشكلاته قد يكون طوق نجاة ويداً تمتد في الوقت المناسب. أو تتبرع بالدم، أو تشارك في حملات خيرية، دون انتظار عائد مادي أو معنوي. أو تتنازل عن مكانك في طابور طويل لإنسان مرهق أو لامرأة حامل، في موقف بسيط، لكنه يجسد رُقيّاً إنسانياً عظيماً. أو تترك طعاماً أو ماء للقطط والكلاب في الحي، أو تساعد في علاج حيوان جريح.
في الختام: إنسانيتك هي الأثر الذي تتركه، والقيمة التي تعيش بها، والدرب الذي تسلكه، والرسالة التي تنقلها. فبقدر ما تمنح من إنسانيتك، تدب الحياة فيك، وتحيي بها من حولك، ويجزى لك بالعطاء والخير والبركة: نجاحاً، وألفة، ومحبة، وسعادة غامرة تضفيها على حياتك وحياة غيرك.
أولئك الذين غيرت فيهم وأضفت لهم معاني كانت قد فقدت من حياتهم، وبلغ بهم السيل الزبى إحباطاً وضعفاً وقلة حيلة، فكنت منقذاً ورباناً لسفينتهم التي كادت أن تغرق، لولا تدخلك. رفعت شراعها، ليستمر إبحارها، وتعلو ناصيتها، وتسير نحو أهدافها ومراميها ومبتغاها. فالإنسانية ليست حكراً على العطاء المادي،
بل تكمن في كل تصرّف يتضمّن احتراماً للآخر، وتقديراً لمعاناته، وسعياً لمساعدته، ولو بكلمة طيبة.
***
بقلم: د. أكرم عثمان
7-8-2025