قضايا

سجاد مصطفى: الغباء الفكري لدى كبار المفكرين

المقدمة: يمثل الفكر الإنساني الميدان الأكثر تعقيداً لتشكيل الوعي الجمعي وتوجيه مسارات الحضارة. وعلى الرغم من تقديس الإنسان للمفكرين، وتكريسهم رموزاً للعبقرية، فإن هذا التمجيد لا يخلو من مآخذ جوهرية تحتم إعادة النظر في أدوارهم الحقيقية. فالمفهوم التقليدي للعبقرية الذي يختزل النجاح الفكري إلى الشهرة والعدد الكبير من المؤلفات يُغفل وجود حالات صارخة من الغباء الفكري، يختبئ خلفها لباس العبقرية، ويغذي منظومة فكرية متكلسة تفتقر إلى الحيوية النقدية. في سياقنا هذا، ليس الغباء الفكري حالة انعدام للمعرفة فقط، بل هو أعمق من ذلك: هو حالة منهجية تعبر عن تجمد الفكر، ورفض الانفتاح على البدائل، والانغلاق داخل حقول معرفية مسقوفة بمنظومات ميتافيزيقية أو إيديولوجية جامدة. وهذا النوع من الغباء أخطر لأنه يحمل تأثيراً مدمرًا على الفكر المجتمعي ويقود إلى أزمات معرفية مستعصية على الحل. وكما قال المفكر العراقي فريدون عبيدي في كتابه فلسفة الوعي والتمرد في العراق.

في العراق، كان الفلاسفة هم الشهود على تحولات الوعي، ولم يكونوا أبداً أسارى لصور جاهزة، بل متمردين على كل الثوابت. فهذا التمرد والجرأة هي الضمانة الحقيقية لحيوية الفكر، وليس مجرد الألقاب أو شهرة المؤلفات.

الغباء الفكري: التعريف والخصائص

الغباء الفكري ليس مجرد خطأ أو ضعف معرفي، بل هو اضطراب منهجي في بنية الفكر، يقود إلى:

التكرار المفرط لنفس البديهيات دون اختبارها أو مراجعتها. التمسك الأيديولوجي بالأفكار مهما دلت التجارب على عكسها. الغفلة النقدية تجاه الذات وتجاه الإطار المعرفي السائد. التحصن بالمصطلحات والعبارات المعقدة كستار يخفي فقر الأفكار. بهذا المعنى، يصبح الغباء الفكري نوعاً من الجمود المعرفي الذي يمنع التطور، ويحول الفكر إلى مجرد استنساخ ميت لشكلاته القديمة. وقد أكدت انا إحدى مداخلات

إنّ الفكر لا يُقاس بعدد الكلمات أو ضجيج الأقلام، بل بمدى جرأته على مواجهة ذاته ونقدها بلا هوادة.

التحليل النقدي لمظاهر الغباء الفكري عند كبار المفكرين

1. التكرار الاستعادي

تتعرض غالبية التيارات الفكرية العظيمة لخطر الوقوع في فخ التكرار، حيث يعيد المفكرون إنتاج أفكار سبق طرحها بطرق مختلفة ظاهرياً، لكنها في الجوهر نفس الأفكار. وهذا لا يعكس فقط نقصاً في القدرة على الابتكار، بل يحول الفكر إلى دائرة مفرغة من دون إنتاج جديد. كمثال، نجد في بعض المدارس الفلسفية المعاصرة إصراراً على إعادة إنتاج أفكار ماركس أو فوكو دون تطوير أو نقد حقيقي، مما يجعلها سجينة الماضي.

2. التناقضات البنيوية

لا يمكن إغفال التناقضات التي تنتاب نظريات كبرى، وغالباً ما يتم تجاهلها أو تبريرها بتفسيرات غامضة. هذه التناقضات تكشف عن هشاشة البنى المفاهيمية، وتضعف مصداقية المفكر أمام من يبحث عن وضوح المنهج والمنطق. كما أشار الفيلسوف العراقي محمد رشيد النجفي في تحليله لنظريات العصر الحديث

الحقيقة ليست ثمرة تعليب فكري جاهز، بل هي زلزال يزلزل الأطر الضيقة، فاحذر من تلك العبقرية التي لا تزلزل شيئاً.

3. الأيديولوجية والتبعية الثقافية

يميل بعض المفكرين إلى استلاب فكرهم لصالح إيديولوجيات مهيمنة أو تيارات ثقافية سائدة، مما يحول أفكارهم إلى أدوات تخدم سلطات أو مصالح، بدلاً من أن تكون أدوات نقد وتحليل حر. وهذه الظاهرة ليست محصورة بزمن أو مكان، بل هي خطيئة تتكرر في كل العصور، حيث يصبح الفكر أسيراً للهيمنة الثقافية، وينهار دوره الحر والناقد.

4. الانغلاق النقدي

غياب النقد الذاتي يعد من أخطر مظاهر الغباء الفكري. كثير من المفكرين يرفضون مراجعة أفكارهم أو الاعتراف بأخطائهم، ما يولّد تحصناً فكرياً ضد كل تطور أو تغيير، ويكرس الجمود الفكري الذي يقتل الحيوية. وفي هذا الصدد قال سجاد مصطفى حمود

المفكر الحقيقي هو الذي يضيء الطريق في الظلمات، لا الذي يكتفي بتثبيت الظلمات تحت أقدامنا.

الغباء الفكري كمخاطر معرفية واجتماعية

إن الغباء الفكري ليس مجرد عيب شخصي، بل هو تهديد معرفي يطال المجتمع بأسره. فهو يفرز أجيالاً من المتلقين العاجزين عن التفكير المستقل، ويعزز ثقافة الطاعة والجمود، ويقوض قدرات المجتمعات على التجديد والمواجهة. حين تنتشر عبقرية مزيفة تتحكم في الخطاب العام، تصبح المجتمعات سجينة رؤى جامدة تعيق التقدم وتقتل الحيوية الفكرية. هذه الحالة تؤدي إلى عزلة فكرية تجعل الإنسان محكوماً بأطر ثقافية ميتة، بلا قدرة على استيعاب الجديد أو استشراف المستقبل.

شروط الخروج من الغباء الفكري

التمكين النقدي: ضرورة تبني منهجية نقدية صارمة تبدأ بالنقد الذاتي ثم تتوسع إلى نقد الأطر المعرفية السائدة. التشكيك المنهجي: تبني موقف فلسفي يستند إلى التشكيك وعدم القبول بالمسلّمات دون اختبار دقيق.

الابتكار الفكري: العمل على خلق مفاهيم وأدوات تحليل جديدة تتجاوز الأساليب التقليدية.

الوعي بالتحيزات: الاعتراف بالتحيزات الثقافية والسياسية التي تؤثر في الفكر والجهود لتحريره منها.

الخاتمة

إن مفهوم العبقرية يجب أن يتجاوز الألقاب والأساطير، ليصبح مرآة لصدق الفكر وعمق النقد، وجرأة التجديد. أما الغباء الفكري، فلا يقتصر على ضعف الفرد، بل هو مرض يهدد سيرورة المعرفة الإنسانية جمعاء. إن مواجهة هذا المرض المعرفي تتطلب نقلاً نوعياً في ممارسات الفكر، بحيث يتحول من إعادة إنتاج سلطة وأيديولوجيا، إلى قوة حرة تولّد المستقبل. من هنا تأتي مسؤولية المفكر الحقيقي الذي لا يرضى بالبريق الزائف، بل يصرّ على كشف حقيقة الفكر مهما كانت مريرة، ساعياً نحو عقول حرة، ووعي متحرر. وأخيراً، أتساءل: هل نمتلك الجرأة لنكون مفكرين متمردين على أنفسنا، أم سنظل أسرى لعبقرية مزيفة تسجننا داخل جدرانها؟

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

.......................

هامش توثيقي

1. فريدون عبيدي، فلسفة الوعي والتمرد في العراق، دار الفكر العربي، بغداد، 1998، ص. 45-49

2. محمد رشيد النجفي، خطابات الفكر الحر في العراق الحديث، مطبعة النهضة، النجف، 2005، ص. 112-117.

 

في المثقف اليوم