قضايا
أكرم جلال: الحُبُّ أجنحةُ العُروج مِنَ المَقامات الإنسيّة نحو الأنوار الأحديَّة

ما هو الإنسان؟ ما حقيقته؟ من أين وإلى أين؟ أسئلة لا يُجيبُ عنها الذين هَجَروا يقظة الوعي وَغَطّوا في نَوْمَة الجّهل على فراش الإيمان الزائف؛ أسئلة لا يُجاب عنها إلا بأحْرُفٍ مِن نورِ الأرواح المُحبّة، والأنفس المُطمئنة التي هربت من ظلمات المظاهر والقشور نحو نور الجوهر وحقيقة المعنى، ومن لَعِق الألسن إلى صفاء القلوب التي صَدَقَت فبَلَغَت الحقيقة وتربَّعت على عرش اليقين؛ أسئلة لا يُجاب عنها بلقلقة المترفين بل بصلاة العاشقين.
خَلَقَ اللهُ تعالى الإنسانَ لحكمة بالغة وأصلٍ مكنون لا يفقهه إلا العارفون؛ لم يخْلقْهُ اللهُ ليكون رقمًا في سجلات الحياة الدنيا، بل جوهر ذو معنى، ومحور تطوف حوله وتسجد له باقي المخلوقات؛ وأمانة يجب أن تؤدّى، هو سرّ الله الأعظم، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.
شاءَ اللهُ تعالى أنْ ينفخَ في هذا الطّين مِنْ روحِهِ ليغرز فيه بذرة الإنسان وليثمر نورًا وبصيرة وَلِيَجِدَ طَريقَهُ واضحًا جليًا نحو مراتب القرب الإلهي. خَلَقهُ لا أن يتمتّع ويأكل كما تأكل الأنعام، بل أن يكون مرآة لأسماء الله وصفاته؛ أنْ يكونَ له قلبٌ سليم لا يسكنه إلا الله تعالى، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾.
ولأجل أنْ يَعملَ العامِلون وَيَفيقَ النائمون، شاء الله تعالى أن يبعث الأنبياء والمرسلين، وينزل الكتب السماوية، ويجعل للبشريّة شريعة ومنهجًا توقظ فيهم نور الوعي الإنساني؛ أنزل القرآن ليرتوي منه العطاشى، وجعل الأنبياء والأوصياء أبوابًا يلجأ إليها المتحيرون ويطرقها القاصدون.
ولأجل أن تطوى مراتب التكامل الإيماني وَيَصِلَ المؤمنُ إلى مقامات القرب وَيَستشعر الذوبان في المبدأ الأول، وَيَعيش نَعيم فيوضات الحضور الأزلي بالمستوى الذي يذوب فيه حتى كأنه لا يرى في الوجود شيئًا سوى الله تعالى، عَلَيه أولًا أن يطوي مراتب التكامل الإنساني، لكي يُبيض صفحة القلب ويُطهّر النّفس من كل دَرَن، فما القلب إلا ذلك الاحساس الذي تحرّكه وتقوده إنسانيّة الإنسان.
والجنّة التي أعدّها الله تعالى لا تفتح أبوابها إلا لمن بلغ أعلى مقامات التكامل الإنساني، فالإنسانُ وحدَهُ مَنْ لَدَيه القُدرة على استشعار الألم، وهنا لا أقصد بالألم العضوي، فذلك ما تستشعره البهائم كذلك، وإنّما أَلَم الفَقْد الإلهي؛ حينما يكون قد خرج عن جادّة الحق.
إنَّ الرسالات السماويّة جاءت للتزكية والتطهير من الرّواسب الحيوانية، وأنَّ الإنسانَ لا يكون إنسانًا حتى يَطْمِسَ النَّفس عن علائق الأنا، وَيَرفَعَ الحُجُب عن عَين القلب، وَيَفتح بَصائر الصدق، ويسّير على صراط السلام، ويُحلّق بجناحي العفو والإيثار.
لا يكون الإنسانُ إنسانًا، حتى يرفع شعلة الحُب، ويكون مَظْهَرًا لأسماءِ اللهِ ومُزهِرًا لصفاته؛ فمن أحبّ عن وعي وصدق فقد عَرَف، ومن عَرَف بَلَغ، ومن بَلَغ صدَّق ومن صدَّق عَمِلَ بمعرفة واخلاص، وَمَن عَمَل نَجا.
هكذا هو الدين، إنَّه الحبّ، فَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ: يَا زِيَادُ وَيْحَكَ وهَلِ اَلدِّينُ إِلاَّ اَلْحُبُّ؟ أَ لاَ تَرَى إِلَى قَوْلِ اَللَّهِ: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» أَ ولاَ تَرَوْنَ قَوْلَ اَللَّهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» وقَالَ: يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وقَالَ: اَلدِّينُ هُوَ اَلْحُبُّ، واَلْحُبُّ هُوَ اَلدِّينُ.
إنَّ الأوامر السماوية لا تدعوك لأن تُشهر سيفك لتنتصر على عدوّك إلا بعد أن تطوي مشوار انتصارك على نفسك الأمارة. فجهاد النَفس هو المسير الأطول، والصراع الأعظم الذي لا يتوقف حتى يوقظ فيك شعلة الحبّ. فالحبّ ليس انفعالاً عابرًا أو نزوة سرعان ما تخبو، بل مقامٌ روحيّ، يبدأ ولا ينتهي.
إنَّ الحبَّ عندما يضرب أطنابه ويخيّم على النّفس يعيد هيكلة الإنسان من الأساس، ليكون حينها مظهرًا لأسم الله "الودود"، فلا يرى الغضب إلا ضعف والكره والبغض إلا صفات مَرَضيّة تحتاج إلى علاج، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾.
إنَّ مَنْ لَبِسَ رِداء الحُبّ صار طبيبًا لا حاكمًا، يُحزنه ويبكيه أن يرى عدوه في ضلال، يشهر سيفه في وجهه. أهلُ الحُبّ قَد ذاقوا طَعْمَ الجنان وَعاشوا نعيمها قبل أن يموتوا.
بالحُبّ والسلام يَبلُغُ المؤمنُ أعلى المَراتب الإنسانية فَيَكون حينها مُستحقًا لَقَب الإنسان، فَلا تَليق بالإنسانِ إلّا الجِنان، فَقَد طَوَى المَراتب، وَتَسَلّق في سلّم التكامل، وَعَرَج من الطين نحو الأنوار الأحديّة.
***
بقلم: د. أكرم جلال