قضايا
يونس الديدي: كل شيء صحيح.. جزئيًا

نميل إلى الاعتقاد بأن العقل كيان محايد، يُصدر أحكامه بمعزل عن تأثيرات المحيط. لكن واقع الحال أن العقل ليس إلا مرآة مصقولة بما تراكم عليه من عادات المجتمع، وتقاليده، ونُظمه غير المرئية.
هذا القول لا يعني غياب الحقيقة، بل تشظيها. فالصحيح، في أغلب الأحيان، ليس مطلقًا، بل نتاج زاوية نظر، موقع جغرافي، عبور تاريخي، أو حتى انفعال عابر. لكن حين يتحول هذا “الصحيح” إلى معيار معرفي أو أخلاقي عام، تُطمس النسبية خلف ستار من الوثوق.
العقل، حين يعتقد أنه عقل
منذ سقراط، ونحن نؤمن أن العقل قادر على الوصول إلى الحقيقة من خلال الاستدلال. لكن سقراط نفسه لم يترك لنا أجوبة، بل أسئلة، وأكثرها مراوغة كانت: “هل تعرف أنك لا تعرف؟”
نظن أن العقل محايد، لكن في الحقيقة هو مثقل بالبنية الثقافية والاجتماعية التي تشكله. خذ مثلًا مراهقًا نشأ في حيٍّ محافظ ببلدةٍ صغيرة، حيث يُنظر إلى الصمت في النقاشات العائلية كعلامة على الاحترام والنضج، والتدخل في شؤون الآخرين كنوع من الوقاحة. هذا الشاب يتعلم أن الامتناع عن الكلام حكمة، وأن الفرد لا ينبغي أن “يتطفل” برأيه في القضايا العامة.
على الطرف الآخر، مراهق آخر نشأ في بيئة مدنية ذات طابع منفتح حيث يُشجّع الأطفال على إبداء الرأي، ويُعتبر التعبير الصريح عن الذات جزءًا من التكوين الشخصي السليم. بالنسبة لهذا الشاب، الصمت علامة ضعف، والحياد موقف غير أخلاقي.
الاثنان يستخدمان العقل، والاثنان يظنان أنهما يتصرفان بمنطق. لكنّ كل واحد منهما يعمل داخل منظومة معرفية (episteme) مختلفة، وفق تعبير ميشيل فوكو.
ما يبدو “حكمة” هنا هو “جبن” هناك. وما يُعد “جرأة” هناك هو “وقاحة” هنا. الحقيقة ليست فقط فيما يُقال، بل في الشروط غير المرئية التي تحدد كيف يُقال، ومتى، ولماذا
العقل لا يعمل في فراغ، بل في سياق. وبهذا المعنى، كل عقل يخلق منطقه، وعالمه، ومصطلحاته، وأوهامه. ما نعتبره برهانًا في ثقافة معينة، قد يبدو خرافة في أخرى. وليس هذا تق relativism أخلاقي، بل توصيف دقيق لحالة المعرفة.
المثال الساحر: الشمس التي لا تحترق
تخيل نفسك في مجتمع متخيل يُدعى “أرثوس”، حيث سكانه يعيشون تحت قبة زجاجية ضخمة تحميهم من حرارة الشمس. داخل القبة، الجو معتدل دومًا. أطفال أرثوس لا يعرفون شيئًا عن الحر. الشمس عندهم كرة مضيئة جميلة، رمزية للحكمة، لا تُؤذي ولا تُحرق. في مناهجهم الدراسية، يقرأون عن “أسطورة الشعوب القديمة” التي اعتقدت أن الشمس حارقة. يضحكون على هذه الحكايات كما نضحك نحن على أسطورة الأرض المسطحة.
الآن، لو زار أحد سكان أرثوس منطقتنا، وشعر لأول مرة بحرارة الشمس، هل سيُكذّب حواسه أم يُعيد التفكير في منظومته كلها؟
من ناحيته، هو لم يكن “جاهلًا”، بل كان صادقًا ضمن عالمه المعرفي. “الشمس غير حارّة”، كان ذلك “صحيحًا”… جزئيًا.
الاستدلال بين التجزئة والانحياز
نحن لا نستدل من فراغ. كل استدلال مبني على مسلمات، وغالبًا لا نُراجع تلك المسلمات. في السياسة مثلًا، قد نرى رأيًا يبدو عقلانيًا، لكنه مبني على افتراضات غير مفحوصة. عندما يقول أحدهم “نحتاج المزيد من الأمن”، يبدو ذلك منطقيًا. لكن ماذا لو كانت فكرة “الأمن” نفسها مبنية على خوفٍ مزروع ثقافيًا من الآخر؟ من المهاجر؟ من الفقير؟
هنا يطرح العرفان سؤالًا معقدًا: هل نحن نستخدم العقل لنفكر، أم لنبرر؟ الباحث الأميركي جوناثان هايدت يشبه العقل بفارس على ظهر فيل: الفارس يظن أنه يقود، لكن الفيل (أي العاطفة والانحياز الثقافي) هو من يحدد الطريق، والفارس يبرر فقط.
من المعرفة إلى “اللايقين المنتج”
نحن لا نحتاج إلى يقين أكثر، بل إلى “لايقين منتج”، لايقين يسمح لنا بفهم أن ما نراه صحيحًا ليس بالضرورة خاطئًا عند الآخر، لكنه ليس “الصحيح المطلق” أيضًا.
خذ مثالًا من تاريخ العلوم: لفترة طويلة، كانت قوانين نيوتن هي “الحقيقة”. ثم جاء أينشتاين، فانهارت جزئيًا، ولم تُلغَ. نيوتن لا يزال يعمل في أنظمة معينة، لكنه “صحيح” جزئيًا. حتى العلم، بكل دقته، يعترف بأن الحقيقة متغيرة، مؤقتة، ومحكومة بشروط السياق.
هل يمكن أن نتحدث عبر الثقافات؟
هنا نصل إلى السؤال الحرج: إذا كان كل شيء صحيحًا جزئيًا، فهل يمكن أن نتواصل حقًا؟ أم أن كل ثقافة محكومة بمنطقها؟
الجواب المقلق والمُلهم في آن: نعم، يمكن، ولكن ليس عبر فرض الحقيقة، بل عبر فضيلة الاستماع. الاستماع لا بوصفه إجراءً أخلاقيًا، بل معرفةً في حد ذاته. أن تستمع يعني أن تعلّق حُكمك، أن تترك هامشًا للدهشة، أن تعترف بأنك ربما كنت مخطئًا… أو جزئيًا على الأقل.
الصحافة الجيدة تعرف هذا. هي لا تقدم يقينًا، بل “إضاءةً” تسمح للقارئ أن يرى زوايا أخرى. لهذا السبب، يظل الصحفي النزيه أقرب إلى الفيلسوف منه إلى المبلغ.
في النهاية، حين يخبرك أحدهم أن الشمس ليست حارّة، لا تسخر فورًا. اسأله: “من أي قبة أتيت؟” فقد يكون كلامه صحيحًا… جزئيًا..
***
بقلم: ذ. يونس الديدي - كاتب مغربي