قضايا
عبد السلام فاروق: سلامة موسى والهوية الفرعونية

بين حرية الفكر وأسر البيولوجيا
لو أن النيل توقف عن جريانه يوما، متكئا على أمجاد ضفتيه الفرعونيتين، لصار بركة آسنة تذكر بالماضي ولا تنتج حياة. هذا بالضبط ما يحدث حين تحول الهوية نفسها إلى مسلحة بالدم و"السحنة" و"السلالة"، بدل أن تكون نهرا يجمع روافد التاريخ، ويواري في أعماقه أسرار التحول. كتاب سلامة موسى عن "مصر اصل الحضارة" يضعنا أمام مرآة مكسورة لزمن مضى، تتقطع فيها صورة مصر إلى شظايا بيولوجية، وكأن حضارة بنت الأهرام بالعقل والروح، يمكن اختزالها في حمض الفوليك.
لم يكن سلامة موسى - ذلك المفكر الكبير - مجرد كاتب، بل كان ابنا شرعيا لعصره؛ عصرِ الهوس بالعلموية (Scientism) كبديل عن الدين، وبالعرق كبديل عن الثقافة. هنا، تخطر مفارقة: كيف لرائد تنويري أن يقع في فخ التبسيط البيولوجي، مقرا بأن جينات المصريين تحمل سر تفوق أجدادهم؟! الجواب يكمن في أن النزعة الفرعونية - التي انبثقت مع فك رموز حجر رشيد - لم تكن سوى رد فعل هش لصدمة الاستعمار الغربي. فـ"الغرب" الذي استعبد الجسد المصري بالاحتلال، استعبد العقل المصري أيضا بمعرفته المزيفة عن الشرق. فجاءت دعوة موسى للعودة إلى الفرعونية - عبر بوابة الدم - كصرخة لاستعادة الكرامة، لكنها - للأسف - استعارت أدوات الخصم العرقية ذاتها.
البيولوجيا كأيديولوجيا
ما أخطر أن تتحول الهوية من سؤال ثقافي متنوع إلى إجابة جينية مغلقة! حين يتحدث سلامة موسى عن "السحنة المصرية "، فإنه - دون قصد - يقيد مصر في إطار أنثروبولوجي ضيق، يشبه ذلك الذي رسمه علماء الاستعمار لـ"تقسيم" البشر إلى أعراق متراتبة . لكن أليس العبقرية المصرية - من ابن سينا إلى طه حسين - هي التي أثبتت أن الحضارة تبنى بالانفتاح، لا بالانغلاق؟! ألم تكن مصر دائمًا بوتقة انصهار للآشوري والنوبي والفارسي والعربي، حتى صار "الدم المصري"- لو جاز التعبير - كالنيل: خليط من كل الأنهار، لكنه نهر واحد؟!
حرية الفكر وعبادة التراث:
ليس المطلوب هنا محاكمة سلامة موسى- فكل عقل ابن زمنه - بل محاكمة الفكرة ذاتها: هل يصح أن نتعامل مع التراث كمعطى “بيولوجي" يورث، أم كـ "مصدر ثقافي" يفتح للنقاش؟ دعوة سلامة موسى -رغم نبل مقصدها - تقع في فخ التقديس، وكأن الهوية إرث ننقله في الجينات، لا مشروع نصنعه بالإرادة. هنا، يبرز سؤال جمال حمدان الذي طالما أرقه: هل مصر جغرافيا أم تاريخ أم مشروع؟! إذا كانت الإجابة "كل ذلك"، فلماذا نختزلها في "سلالة" ؟!
نحو هوية نيلية
قد نغفر لسلامة موسى تعلقه بـ"الفرعونية البيولوجية"، فربما كان ذلك ضرورة تاريخية لمواجهة شعب مهان. لكننا- اليوم-أمام تحد أكبر: أن نصنع هوية تستوعب الفرعوني دون عقدة التفوق، والعربي دون عقدة النقص، والإفريقي دون عقدة الحدود. هوية تكون كالنيل: تصب فيها كل الروافد، لكنها تظل نهرًا واحدًا يجرِي نحو المستقبل، لا نحو الماضي.
سيناريوهات المستقبل
1. الجذور التاريخية كـ «ألغام»: لماذا تعود الفرعونية البيولوجية اليوم؟
لا ينفصل هوس سلامة موسى بالهوية الفرعونية عن سياق جيوسياسي معقد: مصر أوائل القرن العشرين كانت جسدا مقسما بين احتلال بريطاني يسحق كرامتها، ونخبة وطنية تبحث عن سردية تعيد لها الفخر المفقود. لكن الخطر هنا ليس في الفكرة ذاتها، بل في تحويلها إلى أيديولوجيا قابلة للاستنساخ. فاليوم، نرى إحياء جديدًا لخطابات التفوق العرقي تحت مسميات مثل «أصالة الدم» أو «الحفاظ على النقاء الجيني» ، وكأن التاريخ يعيد نفسه بوجه معصفر بالتكنولوجيا! السؤال الاستراتيجي: هل تريد مصر أن تكون أمة مستقلة بهوِيتها، أم سجنا كبيرا لـ«مومياوات فكرية»؟
2. المعضلة الجيوسياسية: الهوية بين التميز والانعزال
مصر- بحكم موقعها -جسر بين قارات ثلاث، وحضارتها نتاج لتفاعل الأفارقة والآسيويين والأوروبيين. لكن النزعة الفرعونية البيولوجية - كما قدمها موسى - تحول هذا الموقع المفتوح إلى قلعة منغلقة، تحاصر نفسها بأسوار الماضي. هل يعقل أن تنافس مصر- التي كانت ولا تزال محور العالم -بمفردات انعزالية ؟! الإجابة تكمن في مفارقة: قوة مصر الإستراتيجية تأتي من قدرتها على استيعاب التناقضات، لا إنكارها.
3. البيولوجيا كـ«سلاح استعماري»: استدراج الضحية لتكرار جريمة الجلاد
الغرب - الذي اخترع «العنصرية العلمية» لتبرير استعماره - نجح في تصدير أدواته الفكرية إلى النخب المحلية، فصار المصري يحارب الاستعمار بعقدة التفوق نفسها التي زرعها فيه المستعمر! هنا يبرز السؤال المحوري: كيف لنا أن نصوغ هوية وطنية لا تستورد عقد التفوق/ الاضطهاد من الغرب، بل تستلهم خصوصية مسارها الحضاري؟
4. سيناريوهات المستقبل: الهوية بين «التطهير العرقي» و«التنقية الثقافية»
لو افترضنا أن مصر تبنت رؤية موسى البيولوجية بشكل رسمي، فما السيناريوهات الممكنة؟
- السيناريو الكارثي: انقسام مجتمعي بين من يصنفون «أصحاب دم فرعوني» وآخرين «دخيلين»، مع تصاعد خطاب الكراهية.
- السيناريو الانعزالي: تقوقع ثقافي يفصم مصر عن محيطها العربي والإفريقي، وفقدان تدريجي لدورها الإقليمي.
- السيناريو التوافقي: تبني هوية مركبة تعترف بالفرعونية كـ«طبقة» من طبقات التاريخ، دون إنكار العروبة أو الأفريقانية.
5. البديل الاستراتيجي: الهوية كـ« مشروع ديناميكي» لا كـ « نسب جامد»
الدرس الأهم من تجربة سلامة موسى هو أن الهوية - إذا تحولت إلى مسلحة - تقتل ذاتها. البديل يكمن في رؤية ثلاثية الأبعاد:
- البعد الأفقي: الاعتراف بتعددية الروافد المكونة للشخصية المصرية (فرعونية، عربية، إفريقية، متوسطية).
- البعد الرأسي: الربط الواعي بين الطبقات التاريخية دون تقديس أي منها.
-البعد المستقبلي: تحويل الهوية إلى أداة لصناعة مشروع وطني يستوعب التحديات العالمية (كالتغيرات المناخية، والثورة التكنولوجية).
الخاتمة الإستراتيجية: النيل لا يبحث عن منبعه، بل عن مصبه .. مصر التي تستمد شرعيتها من «نقاء الدم» ستكون دائمًا أضعف من مصر التي تستمد قوتها من « نقاء المشروع ». الفرق هنا جوهري: الأولى تحفر قبرها بالحنين إلى الماضي، والثانية تبني جسورها نحو المستقبل.
***
عبد السلام فاروق