قضايا

حيدر عبد السادة: تواصل الثقافات…

لا يمكن الإقرار بوجود صورةٍ مُنفردةٍ من الثقافة، ويكاد أن يكون الحديث عن ثقافة منعزلة عن ثقافات الدول الأخرى مستحيلاً، على اعتبار أن الثقافة تكمن في التفاعل الإيجابي والتواصل الخلاق مع المحيط الداخلي والخارجي بآنٍ واحد، فهي تدخل نفق الانحلال والاندثار إذا ما قررت بقائها بمعزلٍ عن باقي الثقافات…
وللتفاعلِ والتواصل صور كثيرة، هاملين أكبرها، والمتمثلة بالتواصل الاجتماعي، لما انتجه من نتائج مدمرة للمجتمع، كونه قد تصدّر بيدِ مجموعة من المراهقين والمنفلتين أدباً وأخلاقاً وفكرا…
أما الصورة الأولى من صور التواصل بين الثقافات، فدائماً ما نقرأ ونسمع بأهمية التبادل التجاري في توشيج أواصر الحوار بين الثقافات، وقد يعود ذلك إلى أن البضائع لا تنفكُ عن ثقافة البلد المُنشأ لها، فالأمم المُستهلكة قد تشتري البضاعة وثقافة مُنتِجها معاً، مما يعني أن حُسن الثقافة ومدى تطورها وازدهارها يعكس بصورة ضرورية جودة البضائع وتفردها عن غيرها، والعكس صحيح تماماً…
أما الصورة الأخرى، فهي وإن كانت ذات مقدمات سلبية، إلا أن الشواهد التاريخية تشهد بثمرتها، وتتمثل بخلق استجابات ناجحة لمجمل التحديات المتأتية عن طريق الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، فالتاريخ يشهد أن من وراء الاحتلال الفرنسي لمصر سنة ١٧٩٨، سبباً رئيساً لنشوءِ ما يُعرف بالنهضة العربية، والتي كانت مصر منبتها الرئيس، ولم تكاد أن تحقق النهضة ما حققته، وإن لم يكن بحجم الطموح، لو لا الرحلات الاستكشافية التي أمر بها (محمد علي) إلى فرنسا، فعاد المُستكشفون وهم يحملون بوادر الثقافة الفرنسية، ورفاعة رافع الطهطاوي على رأسهم، فكتب على إثر ذلك كتابه الشهير (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز)… ولما تقدم شاهدٌ آخر على أهمية تحقيق الاستجابة الناجحة للتحدي الراهن، والمتمثل في احتلال فرنسا للجزائر سنة (١٨٣٠)، والذي من ثمراته أن الفكر المغاربي إلى اليوم يُنتج عقولاً سابقة على كثيرٍ من عقول وأفكار دول المنطقة، ويعود ذلك إلى أثر الثقافة الفرنسية التي نجح الجزائريون والمغاربة في فكِ شفراتها عن طريق تمكنهم من اتقان اللغة الفرنسية، أدى ذلك إلى اتساع دائرة التلقي عن الفكر الغربي بشكلٍ مباشر، دون وساطات المترجمين…
هذا الأمر يقودنا إلى صورة أخرى، تتمثل في أثر اللغة في كشف ثقافة البلد الناطقين بها، فلا زال العراق، أكثر الدول العربية، يحتفي بحرف الضاد، ويتباهى بالإرث اللغوي لكبار النحويين وعلماء اللغة، غافلين عن كون اللغة المحلية اليوم، لا ترقى لان تكون سبباً في ايجاد الحلول لمجمل المشكلات التي يعاني منها الواقع، بقدر ما تحاول أن تصفه بمجموعة من المفردات المتلونة والاستهلاكية التي تستخدم اليوم في مختلف انواع الشعر والأدبيات الصبيانية…
أما فيما يتعلق بموقف واقعنا العراقي من جميع ما تقدم، فهو يفتقر إلى عملية تصدير الثقافة، لكونه يفتقر بالأساس الى عمليات تصدير البضائع المحلية، وكلنا نعلم بان العراق في ذيل الدول الصناعية…
ومن جهةٍ أخرى، نجده من أكثر الشعوب إهمالاً لصناعة الاستجابات الناجحة للتحديات التي طرحها الاحتلال الأمريكي، فلا نفع سوى الخراب والتدمير، في احتلال دولة ما لدولة اخرى، إلا باقتباس الدولة التي وقع عليها فعل الاحتلال من ثقافات الدولة التي قامت بالاحتلال… وخير طريقٍ إلى ذلك يكمن في السيطرة على اللغة الانگليزية، والتي عن طريقها يجدر بنا الدخول الى انواع الثقافات المتاحة في الغرب، فضلاً عن المباحث العلمية الهائلة والمواكبة للتطور الكوني…
وبالأخير نقول:
يتفق الجميع على ان المفتقر للغة الانگليزية، في المجتمعات العربية تحديداً، لا يمكنه مقاومة التغيرات الاجتماعية والبيئية المحيطة، وبالتالي فهو اعمى يسير في مجتمع لا يعيش به سوى من له القدرة على النظر… وبصورةٍ أخرى، ان الافتقار الى اللغة الانگليزية ينتج عنه مجتمع لا يملك ادنى مسالك التطور، خصوصاً ونحن نعيش في عصر العولمة والثورات الفكرية الكبرى.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

 

في المثقف اليوم