قضايا

ثامر عباس: الجدليات السوسيولوجية.. تركيبية لا تفاضلية

حين تمكن الفيلسوف الألماني (كارل ماركس) من إعادة موضعة المنهج (الجدلي) المؤمثل، وذلك بجعله يقف على قدمية بعد أن كان قائما "على رأسه. كان قد حقق نقله ثورية في عالم الفكر وقوانين المنطق، ليس لأنه (فضّل) الواقع على الفكرة على عكس ما كان ينظّر له أستاذه ومثاله (هيجل) في طروحاته، التي مضمونها أن الفكرة هي التي تقود الوقع وهي التي تتحكم بسيروراته وتحدد مساراته فحسب. وإنما أعاد صياغة العلاقة القائمة ما بين الأول والثانية بصورة جذرية، بحيث أنها لا تقوم على أساس (الأسبقية) في الوجود و(أفضلية) التأثير في الوعي، والتي كان من شأنها الإفضاء الى الفصل التعسفي بين كلا المعطيين الجدليين، بقدر ما تتمأسس على نمط من البنى (التركيبية - التفاعلية) التي من خصائصها استدعاء عناصر كل من الواقع والفكرة معا"، في حال تحديد طبيعة ظاهرة من الظواهر أو تعيين واقعة من الوقائع، ومن ثم بيان السيرورات التي ستتفاعل وستتمفصل في أتونها خلال ديناميات التطور. 

وفي إطار البحوث والدراسات التي تهتم بهذا الشأن من المواضيع السوسيولوجية، فقد ذهبت آراء الكتاب والباحثين مذاهب شتى بخصوص تحديد العامل / العنصر المسؤول عن صيرورة أو تشكيل ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والإنسانية، لاسيما على صعيد الأولوية أو الأفضلية التي يتمتع بها هذا العامل أو ذاك مقارنة ببقية العوامل الأخرى. والحال، انه قلما أصاب هؤلاء وأولئك في تشخيص العامل / العنصر الذي هو بمثابة المحور الذي ترتكز عليه الظاهرة والمعنية وتدور في فلكه، ذلك لأنه – ببساطة - لا وجود لمثل هكذا عامل يستطيع - لوحده - تفعيل ديناميات الظاهرة المقصودة أو توجيه مسارها. وإنما يتوجب على كل باحث مراعاة حقيقة سوسيولوجية غاية في الأهمية مفادها؛ ان أية ظاهرة اجتماعية / إنسانية هي حصيلة تضافر عوامل عديدة ومتنوعة، سمتها الأساسية التفاعل البنيوي والتخادم الوظيفي. قد نلاحظ - في إطار السيرورة الإجمالية - أن هذا العامل / العنصر يتقدم على نظرائه في سياق تاريخي معين، إلاّ انه في سياق آخر يتخلى عن مركزه المتصدر لعامل / عنصر ثان كان يشغل مراتب ثانوية في تلك السيرورة، وهكذا دواليك. ولكن في المحصلة النهائية تبقى الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية مدينة بصيرورتها لجميع العوامل، حتى ولو كان دورها ثانوي وإسهامها نسبي.

وفي خضم هذه التباينات في الرؤى والتصورات التي يبدو أنها لم ولن تحسم، طالما كان الهاجس (الإيديولوجي) هو من يقود مواقف الكتاب والباحثين مثلما يؤطر توجهاتهم ويحدد خياراتهم، فقد تم تجاهل حقيقة سوسيولوجية أخرى تتعلق بالكيفية التي تتفاعل بموجبها عناصر الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية، ومن ثم تتشكل ملامحها وتتبلور طبيعتها. فعلى خلفية سيادة الإيديولوجيات الليبرالية والراديكالية والطوباوية، تناسى القوم ان طبيعة وحراك الواقع الاجتماعي يختلفان جذريا" عن ماهية وتطور النماذج الفكرية التي يحملها هذا الكاتب / الباحث أو ذاك، الأمر الذي يتطلب تجريد الظاهرة المراد دراستها من كل ما ينسب إليها من تصورات ومسبقات لا تمت إليها بصلة، أو تفسير دورها ووظيفتها بما لا يتناسب وطبيعة الخلفيات والمرجعيات التي استوجبت حضورها في الوعي ووجودها في الواقع.

ولعل من أهم الأمور التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار حين نعتزم دراسة الظاهرة دراسة علمية وموضوعية، هي البدء بحقيقة أن الجدليات السوسيولوجية التي تتفاعل مكوناتها على أرض الواقع، لا تجري وفقا "لمخطط جرى إعداده مسبقا"، أو بناء على تسلسل تم ترتيبه من قبل، بحيث لن يكون هناك ما يحرجنا عندما نلجأ (للمفاضلة) بين هذا المكون أو ذاك، هذا العامل أو ذاك. كأن نفترض ان العامل (السياسي) هو ما يحدد طبيعة الظاهرة المعنية ويسبغ عليها قيمه، أو أن نرشح العامل (الاقتصادي) كفاعل أساسي في كينونة تلك الظاهرة وما يتمخض عنها من معطيات، أو أن نختار العامل (الديني) كمؤشر لمعرفة خصائصها النوعية وأنماط تداعياتها الاجتماعية والثقافية، الخ.

وبضوء ما كشفت عنه البراديغماتيات والمنهجيات المعاصرة، بصدد تكوين الظواهر الاجتماعية والإنسانية وبيان ديناميات اشتغالها وأنماط تفاعلها وسياقات تمفصلها، فقد تبين أن القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها تلك الظواهر، والتي يجب مراعاتها دائما"مع كل خطوة نخطوها في مسار البحث أو الدراسة ؛ وهي أنها تقوم على مبدأ (التركيب) التفاعلي ليس فقط بين (العوامل) المسؤولة عن صيرورة ظاهرة من الظواهر فحسب، بل وكذلك بين (الظواهر) ذاتها من حيث موقعها في البنية الاجتماعية، ووظيفتها في النسق الثقافي، ودورها في السياق التاريخي، وتأثيرها في المهاد السيكولوجي. وإذا ما أخذنا كل هذه الأمور بنظر الاعتبار، واحتكمنا إليها في استخلاص الاستنتاجات، سنجد انه لم تعد أمامنا مغاليق سوسيولوجية يصعب فتحها، أو عوائق فكرية يتعذر تخطيها.

***

ثامر عباس – باحث عراقي 

  

في المثقف اليوم