قضايا

علي حمدان: لفريدريك جايمسون.. النقد الماركسي منبعه الحب

غيب الموت بتاريخ 22 سبتمبر2024، في كيلينغورت، كونكتكيت بالولايات المتحدة الامريكية، فريدريك جيمسون، احد ابرز علماء الادب والفلسفة عن عمر ناهز 90 عاما.  ظل جيمسون كأحد ابرز المنظرين الادبيين في العالم لأكثر من أربعين عاما. تناول أسلوبه في النقد الماركسي الصارم والجاد لموضوعات واسعة النطاق مثل الاوبرا الألمانية وافلام الخيال العلمي وتصميم الفنادق الفاخرة.

على مدى عقود اصدر جيمسون اكثر من ثلاثين كتابا، بالإضافة الى تحرير عدد من الكتب وعدد كبير من المقالات. حيث كانت كتبه ومقالاته مقررا دائما على طلاب الدراسات العليا.  ليس فقط في الادب ولكن أيضا في دراسة الأفلام والهندسة المعمارية والتاريخ.

ولد فردريك جايمسون في 14 ابريل 1934 في كليفلاند. كان والده فرانك جيمسون طبيبا. والدته، بيرنيس، مدبرة للمنزل. تخرج بدرجة في اللغة الإنكليزية من كلية هافرفورد في بنسلفانيا عام 1954، سافر بعدها الى أوروبا، حيث تفاعل لأول مرة مع النظرية الماركسية الغربية، وعاد بعد عام ليدرس الدكتوراه في جامعة ييل، حيث تخرج في عام  1959 بإطروحة حول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.

 السيد جيمسون كان أستاذا في جامعة هارفرد، وفي جامعة كليفورنيا في سانت ديغو، جامعة ييل وفي جامعة كليفورنيا في سانتا كروز، قبل وصوله الى جامعة دووك قي عام 1985، وبقى عضوا في هيئة تدريسها حتى وفاته.

كان جيمسون كاتبا اكاديميا كبيرا، ولكنه لم يصل الى شعبية مجايلين له في النظرية الأدبية كسلوفوي جيجك اوهاورولد بلوم، غير ان كتاباته كانت مؤثرة مثل أعمالهم، ان لم تكن اكثر تأثيرا. 

قضى البروفسور جيمسون، معظم حياته المهنية أستاذا في جامعة ديوك، لقد قدم انجازين فريدين من نوعهما. وكلاهما من شانه ان يمنح أي باحث الخلود الفكري.

أولا، بداء من سبعينات القرن الماضي، قاد الجهود الرامية الى تعريف الدوائر الامريكية الاكاديمية والثقافية بالنظرية النقدية للماركسية الغربية، وهي مجموعة متنوعة من الأفكار، التي كانت شائعة في فرنسا وألمانيا، والتي رتبت حول فكرة مفادها ان الثقافة ترتبط ارتباطا وثيقا بالقاعدة الاقتصادية للمجتمع، وان لم تكن مقيدة بها تماما.

لقد نقل السيد جيمسون هذا التحليل، الذي صيغ في النصف الأول من القرن العشرين الصناعي، إلى النصف الثاني من القرن العشرين الذي اتسم بالعولمة والتقدم التكنولوجي، وهي الفترة التي كان فيها تغلغل الرأسمالية في الثقافة اليومية مذهلاً ومخدراً.

" لقد ابتعدنا من الان وصاعدا بعيدا عن حقائق الإنتاج والعمل في العالم لدرجة اننا نعيش في عالم أحلام مليء بالمحفزات الاصطناعية والتجارب المذاعة بالتلفاز". كما كتب في الماركسية والشكل" (1971).

وقد لخص الكثير من هذا العمل في كتابه الصادر عام 1981 بعنوان "اللاوعي السياسي: السرد كفعل رمزي اجتماعي"، حيث أظهر كيف تشكل تاريخ أنواع السرد، من ملحمة هوميروس إلى الرواية الحديثة، من خلال تطور الرأسمالية، وكيف أن هذه الأشكال ساهمت في توضيح وابهام الهياكل الرأسمالية.

في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، استخدم نفس ترسانة الأفكار لمواجهة التحدي الثاني: نقد ما بعد الحداثة، الذي ترسخت جذوره في الأقسام الأكاديمية، بدءاً من سبعينيات القرن العشرين، لوصف ما رآه كثيرون انهياراً للسرديات الكبرى حول التاريخ والثقافة والمجتمع. ردا على ذلك، جادل جيمسون بان ما بعد الحداثة كانت هي نفسها مجرد سرد عظيم اخر، وان كان سردا يحاول إخفاء وضعه الخاص.

ولهذا السبب لم يرفض ما بعد الحداثة على الفور: في كتابه "ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة" (1991)، خلص إلى أن "ما بعد الحداثة غير عادية كما تظن أنها كذلك، وأنها تشكل قطيعة ثقافية وتجريبية تستحق الاستكشاف بمزيد من التفصيل".

كان هدفه في هذا الكتاب، والعديد من الكتب التي تلته، هو تقديم إطار تاريخي لما بعد الحداثة، لإظهار كيفية عملها ضمن السياق الأوسع للرأسمالية في مراحلها المتأخرة، تمامًا كما زعم الباحثون الماركسيون الأوائل أن الحداثة كانت إلى حد كبير وظيفة العصر الصناعي.

وقال إن ما بعد الحداثة ميزتها انها تدل على تسليع الثقافة نفسها، واستبدال التاريخ والرؤى التقدمية بالسخرية والتهكم والتقليد، أو خلط ومطابقة القطع الأثرية والأشكال الثقافية دون مراعاة سياقاتها التاريخية. وهذا يعني، كما كتب في كتابه "المنعطف الثقافي: كتابات مختارة عن ما بعد الحداثة، 1983-1998"، الذي نشر في عام 1998، أن "نظامنا الاجتماعي المعاصر بأكمله بدأ يفقد تدريجياً قدرته على الاحتفاظ بماضيه، وبدأ يعيش في حاضر دائم وتغير مستمر يتجاوز التقاليد".

لقد افترض أن الحداثة كانت موجودة في معارضة للهياكل الاقتصادية والثقافية السائدة في عصرها. ولكن ماذا عن ما بعد الحداثة؟ هل يمكن أن تقدم أيضًا نقاط مقاومة، حتى مع كونها تمثل استيلاءً أكثر اكتمالاً على الحياة اليومية من قبل الرأسمالية الاستهلاكية؟ لم يكن متأكدًا.

كتب: "هذا سؤال يجب أن نتركه مفتوحًا".

كانت لغة الأستاذ جيمسون كثيفة ومعقدة، حتى القراء الملتزمون وجدوا صعوبة في فهمها. لكن رؤاه المتكررة والممتعة حول الثقافة الشعبية جعلت الجهد يستحق العناء. في التحول الثقافي على سبيل المثال، جادل بشكل مقنع بان "حرب النجوم" كان فيلما نوستلجيا لجيل ما بعد الحرب لمسلسلات الخيال العلمي.

مازال السيد جيمسون يكتب باستمرار، واستمر في كتابة كتب جديدة، حيث ظهر كتابه الأخير " اختراعات الحاضر: الرواية في ازمة العولمة"، في مايو، ومن المقرر ان يظهر كتاب اخر، " سنوات النظرية: الفكر الفرنسي بعد الحرب حتى الحاضر"، في أكتوبر.

***

علي حمدان

..............................

هوامش:

اعتمدت هذه المقالة على مقال كلاي رازين في نيويورك تايمز بتاريخ 23 سبتمبر، 2024.

أي.او. سكوت لفرديك جايمسون، النقد الماركسي كان نابعا من الحب. نيويورك تايمز 23 سبتمبر، 2024.

في المثقف اليوم