قضايا
محمد محفوظ: المثقف العربي والإبداع
الثقافة العربية الإسلامية، في جوهرها هي تجسيد الوعي بضرورة صنع الحاضر، وفقا للاختيارات الفكرية الكبرى، التي تتناغم وروح تلك الثقافة وجوها العقدي والحضاري.. والمثقف الحق هو الذي يتمكن من تحقيق مقولات الوعي في الواقع الخارجي. وحتى يتمكن المثقف من تحقيق هذه المسألة من الضروري أن يكون مبدعاً وخلاقاً لكي يستمر عطاؤه الثقافي وصولا إلى صنع الحاضر وفق متطلبات الوعي واختياراته.
وإن المثقف المبدع هو الذي يبقى قلقه الفكري والثقافي مفتوحاً لمواصلة البحث والحفر المعرفي والمراجعة والتطوير، بحثاً عن صيغ وأطر جديدة للارتقاء بمستوى المعرفة والثقافة إلى الأمام.
وهكذا يصبح القلق الثقافي شرط الابداع ووسيلته في آن واحد ويصبح الاداة الامينة للانتقال من وضع ثقافي إلى آخر أرقى وأعمق. فالقلق الثقافي وحضور غايات الثقافة وأهدافها في شخص المثقف وعطائه هو البداية الاساسية لتشكيل المناخ الملائم للابداع الثقافي والفني والادبي.
فالابداع على المستوى الثقافي ليس صدفة أو بعيداً عن نواميس وقوانين الثقافة في المجتمع، بل هو ثمرة تطور طويل وتراكم تاريخي-ثقافي يؤدي أو يتوج بعملية الابداع على الصعيد الثقافي.
فالقلق الثقافي، الذي يعني الحضور المستمر للهم والتطلعات الثقافية والعقلية، كان هو القاسم المشترك بين جميع المبدعين وأصحاب العطاءات الثقافية المتميزة. وإن الابداع كتطلع يتطلع اليه أي مثقف أو فنان مرتبط بمجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية معاً. وهذه العوامل تتكون وتتراكم تبعاً لشروط وخصائص ذاتية.. ويبقى لإرادة المثقف وكفاحه المعرفي والثقافي الدور الاساسي في تذليل العقبات التي تحول الابداع الثقافي والذي نريد أن نؤكد عليه في هذه الحالة، هو مسألة الوعي فالمزيد من الوعي وحضوره الدائم في حياة المثقف، هو الكفيل بتحقيق ابداعات ثقافية وأدبية.
والوعي هنا ليس وصفة طبية نأخذها أو عملا كمياً نقوم به أو قراءة لمجموعة من الكتب والدراسات الثقافية والادبية، إنه استيعاب تام للحالة الشاملة التي يعيشها المثقف ويتطلع اليها، استيعاب لا يؤدي إلى التفاؤل الكاذب أو التشاؤم الذي يشل التفكير ويمنع الارادة من فعلها.. إن هذا الوعي الذي ينطلق من حالة موازنة دقيقة ورشيدة للتطلع والممكن للواقع المفروض. هو الذي يحقق للمثقف أو الاديب القفزة النوعية في عطائه وإنتاجه كما أنه (الوعي) يحقق للثقافة المزيد من الانتشار والتوسع وكسب الانصار على المستوى المجتمعي والوعي كما يبدو ليس مطلباً سهلا يمكن تحقيقه بين يوم وآخر أو ليلة وضحاها.. إنه القراءة المستمرة للواقع بكلياته وتفاصيله بأحداثه وتطلعاته برجاله ومؤسساته، بكوابحه وآفاقه.
هذا فإن ابداع المثقف العربي مرتبط بشكل أساسي بطبيعة وعلاقته بواقعه، والظروف التاريخية التي يمر بها فإذا كانت لا تربطه بواقعه أية علاقة ثقافية وعقلية، فإنه لن يتمكن من الإبداع، لأن النواة الاول ى للإبداع هو التفاعل الايجابي بين المثقف وواقعه، وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسجم واللحظة التاريخية. فتفاعل المثقف مع الواقع، لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق ليس بالإمكان ابدع مما كان..
إن التفاعل يعنى تهيئة الشروط النفسية والعقلية للاستيحاء من الواقع، الاعمال الادبية والثقافية التي يقوم بها الاديب أو المثقف.. أن الواقع بمثابة التيار الكهربائي العاري، يلدغ ذلك المرء الذي لم يأخذ في حسبانه عمليات السلامة، ومتطلبات الاحتراز من السلك الكهربائي.
إن الارض الخصبة التي تؤهل الاديب أو الفنان، لعمليات الانتاج الادبي أو الثقافي المبدع هي التي تتشكل من جراء التفاعل الرشيد بين المثقف والواقع لا لكي يخضع المثقف مقاييسه ومعاييره المعرفية إلى الواقع. وانما لكي يكون إنتاج المثقف ذا جدوى وفائدة عملية على صعيد الواقع.
لأن ابتعاد المثقف عن عصره وواقعه يؤدي إلى تكثيف العناصر الكابحة في ذهن المثقف وواقعه المانعة لعمليات التجديد والابداع.
إن الانعزال عن العصر والمجتمع يؤدي إلى توهج الذكريات، وتهيمن انجازات ومكاسب ماضي المثقف على حاضره، وتجره بشكل ميكانيكي إلى القبول بالأمر الواقع والعيش على إنجازات الماضي أو الآخرين.
إن بذرة الابداع تنمو في حياة المثقف، حينما يبدأ المثقف وفق منهجية مدروسة وواعية للتفاعل مع قضايا عصره وعلومه. ويبدأ هذا التفاعل بنقد الواقع معرفياً وفنياً ومن ثم يبدأ المثقف بتوليد المعرفة الجديدة المبدعة.
فالمثقف المبدع ينشر الجديد دائما ويقدمه فناً أو ادباً أو علماً، ولكنه فيما يقدم من ابداع وصناعة لا يمكن أن يخرج كليا عن مستوى التقدم الذي بلغه مجتمعه بوجه عام ومقدار تمثل الفرد للإبداعات السابقة، والافادة منها بشكل خاص.. أي أنه محكوم نسبيا بمعطيات الوجود، وقفزته نحو المستقبل أو المجهول محكوم المدى بمعطيات الماضي والحاضر ولكنها محمولة على أجنحة امكاناته وقدراته وارادته وقدرته على التخييل لتتوغل في المستقبل، وترتاد المجهول علها تحمل منها غمراً وأريحاً وشعاعاً، ينير للسالكين طريقهم وموضع خطوهم على تلك الطريق.." والمبدع في انشداده بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد، يكشف عن وعي منه أو عن غير وعي مسيرة الإنسانية، ويصدق فيه قول اليوت (فهو أكثر بدائية كما هو أكثر تمدنا من معاصره)1.
فالإبداع ليس وليد الفراغ وانما هو حصيلة الخبرة والتجربة والمعاناة، والتفاعل المباشر مع قضايا المجتمع والامة.
فشرارة الابداع تتقد حينما تنداح تلك الاسئلة من المثقف التي تضعه وتضعنا أمام حقائق الحياة ومقوماتها.. ولا فرق في ذلك بين الابداع الذي يقصده أفلاطون (التعبير عن عالم المثل) أو ما قصده أرسطو من أنه (محاكاة الطبيعة ثم التسامي عليها) أو ما قصده " كانت" من أن الابداع (طريقة جمالية ف إظهار الشيء).
حسب كل هذه المعاني والمصطلحات لا بد من توفر علاقة حميمة بين المثقف والواقع لا للخضوع له، وانما لمعرفة حقائقه والتفاعل الخلاق معها لصناعة النص المبدع.
فالقاعدة الاجتماعية لإبداع المثقف العربي أن يكون في حالة حركة وصيرورة مع مجتمع ومحيطه الإنساني، وبعيدا عن حالات الجمود والكسل الفكري.. حينذاك يبدأ المثقف بإنتاج عطاءاته المبدعة.
وبالتالي فإن ابداع المثقف العربي مرهون بالنقاط التالية :
في مدى علاقته بالثقافة فالمثقف الذي يعتبر الثقافة وظيفة لها لا يرتبط معها بأية روابط حب وتفاعل وتفان من أجل العلم والمعرفة. إن هذا المثقف سيبقى يكرر ما ينتجه الغير ولن يتجاوز سقف العطاءات الثقافية المتوفرة في الساحة.. بينما المثقف الذي يرقى في علاقته بالثقافة إلى مستوى الحب والعطاء والتفاعل. فإن هذا المثقف مع مرور الزمن سيتمكن من الابداع في حقله المعرفي والثقافي.
في مدى علاقته بالتحديات والتطورات التي تجري في ساحة الامة العربية والإسلامية.
فالمثقف الذي يصنع لنفسه حاجزا يحول دون التفاعل وهذه القضايا (التحديات والتطورات) لن يباشر أي دور مبدع في حياته العلمية والثقافية لأنه منع عن نفسه منعاً من متابعة الابداع , الا وهو التحديات والتطورات، فهي ب مثابة الحافز الذي يستفز كل القوى والطاقات الذهنية والفكرية، للإتيان بالجديد بما يناسب تلك التحديات والتطورات لأن بداية الثقافة والمعرفة مساءلة ومن ثم مشاركة في توليد معلوم من قيم الثقافة وخطوطها الكبرى وجماع القول: أنه وهج الحياة وتفاعل المثقف معها، تتولد حالات الابداع في حياة المثقف، فحيوية حضور المثقف في العصر، هو القاعدة المعرفية والمادية لعملية الابداع في مستوياتها المعرفية المختلفة.
***
محمد محفوظ – باحث سعودي
..................
مشكلات في الثقافة العربية على عقلة عرسان – ص 68