قضايا
قاسم حسين صالح: مع الدين.. ضد الدين؟ (5): موقف الفيلسوف ابو بكر الرازي
تنويه: (هناك عدد من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين يوصفون بأنهم (ملحدون). وينبغي التوضيح بأن الألحاد في المفهوم الغربي يعني نكران وجود (الله) فيما هو عند فلاسفتنا العرب والمسلمين يعني التشكيك بالنبوة وليس انكار الذات الآلهية).
***
الطبيب والفيلوسوف أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي يعدّ من اشهر أذكياء زمانه (250 هـ ـ 311 هـ) واكثرهم جرأة في موقفه المعارض من النبوة والأنبياء. فهو برغم قناعته وإيمانه بوجود إله لهذا الكون، الا انه لا يؤمن بأن هذا الإله أرسل إلى خلقه رسلا.. ويسأل مستفهما:
(من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلّة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ويعلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات، ويكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟).
ويطرح الرازي حجة منطقية بقوله: ما دام الله قد منحنا العقل وميزنا به عن سائر خلقه وهيأ له القدرة على اكتشاف الخير والشر، فما حاجة الإنسان لنبي يعلّمه الشرائع والأخلاق؟ ويضيف، ان لعقل الإنسان قدرة أيضاً على معرفه الخالق من خلال النظر في خلقه، فلا حاجة لإرسال نبي يعلم الناس طريق الله.
ولقد اعترض عليه كثيرون، فردّ عليهم قائلا:
ان الأولَى بحكمة الله وعدله اللذين يؤمن بهما أصحاب الديانات، أن يساوي بين خلقه في القدرة على معرفة الخير والشر، وأن الله إذا ميز بعضهم بهذه الموهبة عن البعض الآخر يكون قد زرع بينهم الشقاق، وهو ما نراه يحدث بين أصحاب المذاهب المختلفة من القتال والنزاع وإراقة الدماء.
ويمضي الى قول ما هو أجرأ.. بأن المسؤول عن ذلك ليس الضعف أو قلة الفهم عند أبناء المعتقدات، إنما خلل في نظرية النبوة نفسها، فالأنبياء في رأيه يبّشرون بشرائع وأفكار غير قابلة للجدال والنقاش باعتبارها قادمة من السماء وتحيط بها هالة من التقديس.
ويحاجج علميا بأن الكثير مما أتى به الأنبياء، يخالف الطبيعة الإنسانية والسلام بين بني البشر، بالإضافة إلى ادعاء كل دين استئثاره بالحقيقة منفرداً، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال للشقاق والسجال بين أطراف تتجاذب الحقيقة.
وبمنطق سبق زمانه بكثير يقول: إن أصحاب الأديان يرون أن الناس مراتب، وفُضّل بعضهم على بعض، ومنهم من يمتاز عن البقية بالعلم. وإذا كان ذلك كذلك فحري بالأنبياء الذين هم أشرف الخلق بأن يمتازوا على الجميع. ويرى أن ذلك ليس دليلاً على النبوة، فالناس من وجهة نظره متساوون في القدرة على المعرفة ولا يميز أحدهم عن الآخر إلا الاجتهاد في تحصيلها والقابلية النفسية لإعمال الذهن.
ويكشف الرازي عن حقيقة غائبة عن كثيرين بإن الأنبياء يختلفون فيما بينهم في نواحٍ كثيرة، فمنهم من يُؤلِّه المسيح ومنهم من يراه بشراً عادياً، ومنهم من يراه زنديقاً كاليهود. ويتساءل.. كيف لله أن يبعث للناس برسائل متناقضة كل التناقض!؟
ويطرح الرازي فكرة فيها بعد سيكولوجي، خلاصتها انه لا يرى مبرراً لأن نعلل إيمان معظم البشر بالنبوة كدليل على صدقها، فالناس إما يسلمون بما ورثوه ويتكاسلون عن التحقيق فيه ثم يسلمون به لاعتيادهم عليه ويتحول المعتقد بمرور الأجيال إلى ما يشبه الطبيعة والغريزة في هؤلاء الناس، أو أنهم يخافون بطش رجال الدين والسلطان بهم، أو ينخدعون في المظهر البرّاق للدعاة والمبشرين والوعاظ.. بمعنى أن كثرة العدد ليست دليلاً على صدق المذهب على ما يرى الرازي.
الأخطر.. اسلاميا، ان الرازي أنكر الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، ورد السؤال التعجيزي المعتاد "إذا كنتم تنكرون إعجاز القرآن فهل لكم أن تأتوا بمثله؟" بسؤال آخر وهو: هل لكم أن تأتوا بمثلما كتب بطليموس وجالينوس؟.. قاصدا بذلك أن الأمر طبيعي وليس اعجازي في عدم قدرة أي شخص على الإتيان بمثل ما كتبه شخص آخر، لأن الأسلوب اللغوي يشبه البصمة ويختلف باختلاف المتحدث.
وهناك من يرى في قول الرازي هذا بأنه ليس تحديا للقرآن، بل هو تحدي للمذهبيين، وأن القرآن يبقى معجزة بلاغية ولفظية وليس معجزة قانونية.
***
ا. د. قاسم حسين صالح