قضايا

علي حسين: ابن رشد يفتتح العام الجديد بالبحث عن المدينة المثالية

مع بداية العام الجديد 2025 كانت هناك الكثير من الكتب تنتظر القراءة، كتب كنت قد حصلت عليها من المعارض العربية والعراقية التي تجولت فيها العام الماضي.. وكان الخيار ان افتتح هذا العام بكتاب ممتع كنت ابحث عنه فعثرت عليه في معرض الشارقة.. الكتاب سيرة فكرية لاحد اشهر فلاسفة العالم العربي والاسلامي واعني به " ابن رشد " كتبها الاسباني خوان انطونيو باتشيكو وترجمه الى العربية احمد عبد اللطيف

كان في الخامسة والعشرين من عمره، حين قرر ان يقدم فلسفة ارسطو للقراء العرب.. فتى ممتلئ القلب بالمعرفة، تشغله موضوعات عدة منها الطب والفلك ودراسة المنطق، لم يلتفت اليه احد..حتى جاء ابن طفيل وامسك به من يده ليدله على الطريق.

في الثلاثين من عمره استحق وبجدارة لقب الفيلسوف، وسيصبح له فيما بعد تاثير حاسم على معظم فلاسفة اوربا في العصر الوسيط، حيث عرفه العالم الغربي باسمه اللاتيني "أفيروس ". وكان لكتاباته وابحاثه في تصنيف كل شيء، تاثير هائل على التفكير الفلسفي على مدى اكثر من الف وخمسمائة عام، صاحب طريقة فلسفية ترتبط بدور الفلسفة في تقدم المجتمعات، وقد قيل في اغلب الكتابات، ان بالامكان تقسيم الفلسفة العربية بين اتباع ابن رشد ومؤيدي الغزالي، وبينما حاول الغزالي الوقوف بوجه طروحات الفلسفة اليونانية فيما يتعلق بعلوم ما بعد الطبيعة والإلهيات، لان هؤلاء بنظره ينكرون الشرائع ويجحدون بتفاصيل الاديان والملل ويعتقدون ان الدين مجرد " ناموس مؤلف وحيل مزخرفة "، واصر على ان ماجاء به الوحي يُعد كافيا ولا حاجة الى تأملات العقل، حاول ابن رشد ان يوفق بين الفلسفة والدين، وكان يرى في احتقار الفلسفة اساءة للدين لانهما –الفلسفة والدين -:" صديقتان واختان بالرضاعة "، واكد على ان العقيدة برغم الدور الذي تقوم به في حياة الانسان، لا بد ان تخضع لتدقيق فلسفي عقلي.

تظل لابن رشد اهمية مستمرة لأنه يساعدنا في التعامل مع مشكلة لا تزال تحيرنا: كيغ نستطيع التوفيق بين الفلسفة والدين والعلم، وبين الإيمان والعقل. كان ابن رشد فيلسوفا ورجل دين معا، لقد رفض ان يفقد ايمانه، ورفض ان يكون مؤمنا من غير عقل، فطور فهما جديدا لمكانة العقل في حياة الانسان. كانت مساهمة ابن رشد الكبرى تعليم الحضارة العربية ان اي كائن بشري قادر على بلوغ حقائق عظيمة ان هو استفاد من اعظم عطية قدمها الله الى البشر: العقل. ففي رأيه ان اسمى اشكال العبادة تكمن غي دراسة الله من خلال اعماله باستعمال العقل، ولعل كتاب تهافت التهافت هو افضل تعبير عن فلسفة ابن رشد، مع ان اعماله الاخرى لاتزال مثار اهتمام الدارسين، فالكتاب يقدم لنا الدليل على ان الفلسفة العربية شهددت على يد ابن رشد قفزة نوعية، تجاوزت ما سبقها، واثبت بالدليل على سعة اطلاع ابن رشد ونضج تفكيره.

خلال حياته كان ابن رشد قد واجه الكثير من المصاعب، لكنه قرر أن ينتصر للفلسفة من هجمات رجال الدين الذين اتخذوا من كتب الغزالي ذريعة لمهاجمته، كان الغزالي قرر: "الكشف عما في الفلسفة من خداع وتدليس وتحقيق وتخييل "وهو يرى إن الفلاسفة تلازمهم صفة الكفر والإلحاد، ونجده يضع كتاباً بعنوان"تهافت الفلاسفة"، يبدأ فيه واحدة من أعنف الهجمات التي شنت على الفلسفة ونجده في كتابه تهافت الفلاسفة يؤكد على ضرورة:

1- النهي عن النظر في كتب القدماء، وفي مقدمتها كتب المنطق والفلسفة

2- تكفير الفلاسفة المسلمين لأنهم خرقوا الاجماع لتفضيلهم التأويل

في الخامسة والخمسين من عمره قرر ابن رشد أن يرد على كتاب الغزالي فنشر كتابه الشهير"تهافت التهافت"والذي أراد به أن ينتصر للفلاسفة، ويثبت امكانية التوفيق بين الفلسفة والدين، وضرورة الاستدلال العقلي، والانتفاع من تراث اليونان، واذا كان الغزالي يؤكد أن الفلسفة لاتلائم الإسلام في بعض مسائلها ولهذا وجب تكذيبها وتكفيرها، فان ابن رشد يرى إن"دين الفلاسفة إنما يقوم أصلاً على الإيمان بوجود الله وعبادته"، وإن العقل هو الذي يوصل الى معرفة الله، ومعرفة خلقه معرفة واقعية.

وينتهي ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" إلى الإعلان ببطلان آراء الغزالي ويقرر:

1- إن النظر في كتب القدماء واجب شرعي، وإن ما قيل في مخالفة الفلسفة للشرع دعوى باطلة ف"الفلسفة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة"

2- إن التكفير بدعوى "خرق الاجماع في التأويل"، لأن التاويل قضية مسلم بها ولا يرتاب بها مؤمن، بل يزداد يقينه.

يكتب في" تهافت التهافت: " فتعرض ابي حامد الغزالي الى مثل هذه الاشياء على هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله، فانه لا يخلوا من احد امرين: اما أنه فهم هذه الاشياء على حقيقتها، فساقها هنا على غير حقيقتها، وذلك من فعل الاشرار، واما انه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض الى القول فيما لم يحط به علما. وذلك فعل الجهال، والرجل يجل عندنا عن هذين الوصفين. ولكن لابد للجواد من كبوة. وكبوة ابي حامد هي وضعه هذا الكتاب ولعله اضطر الى ذلك من اجل زمانه ومكانه ".

في بحثه عن مشكلة الخير والشر ان يبين لنا ان العقل بامكانه التمييز بين ما هو خير وما هو شر، ولهذا لم يرجع الى التمييز الى الشرع، بل ارجعه الى العقل تقديسا من جانبه للعقل الانساني ودوره في صياغة الكثير من الابعاد الوجودية الانسانية، كما ان ابن رشد اذا كان قد حاول من جانبه البحث في مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، إلا انه كان اكثر الفلاسفة العرب في دراسته لتلك المشكلة، اهتماما بالبعد الانساني، ويكفي أنه كان يعلي العقل دوما، حيث رفع اهل البرهان فوق مرتبة اهل الخطابة والاقناع، بل فوق مرتبة اهل الجدل من المتكلمين، بل اننا لا نجد مشكلة يتصدى ابن رشد لدراستها إلا يبين لنا ان كلمة العقل فوق كل كلمة، وان الانسان ليس عاجزا عن التصدي لها وتقديم الاراء حولها. ان الدارس لكتب ابن رشد يجد تقديسا من جانبه للانسان وتثمينا لدوره، وانه حريص ان يبين لنا ابعاد الفعل الانساني، وما يستطيع الانسان ان يقوم به سواء في المشكلات التي تتعلق تعلقا مباشرا بالابعاد الإلهية، او تلك التي نجد انها تمثل التواجد الانساني، اعتمادا على العقل الذي هو في اساسه عقل انسان، عقل ليس عاجزا او مشلولا، ولكن العقل ذو الاستقلالية، العقل الانساني الذي يضع بصماته الواضحة والبارزة على هذا الوجود الذي نعيشه ونحياه

لقد آمن ابن رشد ان الحقيقة التي يتم التوصل اليها بالنظر العقلي، او عن طريق الفلسفة، هي الحقيقة الوحيدة التي تسمو على الحدود الدينية والقومية، وهي تراث مشترك بين الامم على مر العصور والاجيال.

تمثل رسالة ابن رشد في جوهرها ما ياتي: هناك حاجة ماسة لارتباط العقل بالدين والسعي الدائب الى المعرفة اينما كانت، وتذكرنا هذه الرسالة بان الحكمة يمكن ان تاتي من مصادر شتى، والانسان عليه ان يكون منفتحا، ياخذ كل ما يراه مفيدا فيستخدمه.

في كتاب "ابن رشد.. سيرة فكرية " ينطلق الكاتب الاسباني خوان انطونيو باتشيكو من المقولة الشهيرة المردّدة في الغرب، وهي "الطبيعة فسّرها أرسطو، وأرسطو فسّره ابن رشد"، في إشارة إلى الدور الذي لعبه ابن رشد في نقل المعرفة الأرسطية والفلسفة اليونانية الكلاسيكية إلى الغرب اللاتيني في العصور الوسطى، عندما تُرجمت كتبه إلى اللاتينية ومن ثم تم نقلها إلى أوروبا، وكيف كان يُستشهد بها كثيراً، حيث لاقت أفكاره اهتمام الفلاسفة الغربيين الذين كانوا يبحثون آنذاك عن الفكر العقلاني الحر ليواجهوا به المد اللاهوتي المسيحي المهيمن على كامل الحياة السياسية والاجتماعية في بلادهم، في العصور الوسطى المظلمة.

كفيلسوف كان ابن رشد يتماهى مع افلاطون في مقولته الشهيرة " طموح كل انسان السعادة "، وان الخير الاسمى في نظام حكم مستقر ودائم يحكمه " اصحاب حكم في زمن لا ينقطع ". افتتحنا العام بابن رشد.. اتمنى ان تخبروننا بالكتاب الذي ستفتتحون به هذا العام.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم