قضايا

عبد الأمير الركابي: الهوية الشرق متوسطية الابراهيمه والعصر (3)

من اهم ان لم يكن الاهم من بين ما يكرسه المنظور القصوري الارضوي الاوربي للانقلابيه الالية/ البرجوازية، الابقاء على، ومواصلة القول بوحدانية المنظور البشري الادراكي، الامر الذي ظل ساريا على مدى الطور اليدوي، ارتكازا لشروط غلبة الارضوية الجسدية الاحادية بناء لنقص الطاقة الاستيعابيه العقلية في حينه، ماكان من المفترض ان يتم تجاوزه اليوم مع الانقلابيه الحاسمه الالية، علما بان ذلك كان يتطلب كمنطلق اساس انتقالة غير عادية على مستوى النظر الى "الظاهرة المجتمعية"، الامر الذي لم ينجح الغرب الاوربي بخصوصه في تعدي نطاق الابتداء واجتراح الخطوة الاولى المحكومه لاشتراطات الارضوية مع ماقد عرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، لنشهد على هذا الصعيد ايضا بداية ونقطة انطلاق ناقصة واحادية، كان المفترض ان يطلق عليها تعريف مطابق لصنفها هو"علم الاجتماع الارضوي الاحادي" مع اوغست كونت ودوركهايم وماكس فيبر، بدل الاحتفاء غير العادي بالانجازالفريد المتاخر، الدال على مجرد بداية ومنطلق قبل زوال قصورية العقل النهائية بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها.
اكثر من هذا فلقد زاد تكريس المنظور الاحادي وتاكيد اطلاقيته على انه "العلم" و " العقلانيه" بالذات بالمقارنه مع ماعد من قبيل الماورائية، اي كل مايخرج عن المنظور المرتكز للملموس الجسدوي المعاين، وبالذات مامعروف بصفة "الديني"، في وقت كان على العقل الالي ان يتميز عن ماقد مضى من ادراكية باعادته المنظور الماورائي المطرود لخانه "الدين"، بما هو واجب من اماطة اللثام عن كون المنظور النبوي المقابل للفلسفي الاغريقي، هو بالاحرى تعبيرية مجتمعية واقعية مستقله ومعاشة، سواء في قلب المجتمعات الاحادية كحالة ازدواج لااكتمال للمجتمعات وبنيتها من دونها، تحضر من دون كيانوية ارضوية محلوية، مستمدة اسباب تحققها من الكينونه البشرية وازدواجيتها والمكون اللاجسدي منها، مع انها محكومه "ماديا/ واقعا" شاخصا، الى نمطية مجتمعية متوافقه مع اشتراطات تحققها، علما بانها في المسار التاريخاني المجتمعي تمثل الابتداء بصفتها مجتمعية "لاارضوية"، وجدت انطلاقا في ارض سومر جنوب ارض مابين النهرين.
ولابد عند هذه النقطة بالذات من الانتباه الى فعل القصورية العقلية الارضوية، حتى بالصيغة الاخيرة الابتدائية الالية الاوربية الحداثية من حيث تدنيها المفهومي "الواقعي"، حيث التاكيد بالرفض لفكرة الاحالة الى السماء والعالم الاخر التي يقول بها المنظور اللاارضوي وتعبيريته عجزا عن الاحالة الى المصدر الواقعي الفعلي المجتمعي، واستبعادا لاحتمالية القول بان الدين هو تعبيرية مجتمعية واقعية وجهتها سماوية لاالعكس، متعلقة بخاصيات المجتمعية المشار اليها، غير المدركة نوعا، مع مالها المتجاوز للارضوية والجسدية.
وتزدحم لهذه الجهه مناحي القصور لتشمل بداهة النظر الى الكائن البشري ومصيره ومسارات وجوده على الكوكب الارضي، اذ يتم غلق الوجود لهذه الجهه على الابدية الجسدية الكوكبية الارضية، مع الاستبعاد الكلي لاحتماليات واستمرارية فعل قانون النشوء والارتقاء الذي هو من اكتشافات هذا الطور الانتقالي الالي البدئي وموحياته، ومايمكن ان يدل عليه من منقلبات وجودية تتكرس بعدم النظر الى الازدواج وفعله مجتمعيا وكينونه بشرية، فنحن ابناء الارض الى ابد الابدين، والكائن الحالي هو النهاية بعد الحيوانيه بصفته "الانسان"، باستبعاد كلي لاية احتمالية قد تتضمن النظر لواقع الكائن البشري الحالي من زاوية كونه حالة انتقال مابين الحيوان و"الانسان" الذي لم يوجد بعد، بينما نحن نعيش بصفتنا كائنات "انسايوانيه" مزيج من (عقل / جسد)، حياتها الحالية ووجودها محكوم الى التفاعلية النشوئية الترقوية العقلية بعد توقف الجسد عن الارتقاء مع بلوغ العضو البشري قمة تطورة، كنهاية ونتيجه للتفاعلية التاريخانية للعتبة"المجتمعية" الازدواجية"، اللاارضوية السماوية العقلية، ومقابلها "الارضوية" الارض جسدية.
هل النمطية المجتمعية وليدة وحدة الكائن البشري / البيئة كما تتبلور ابتداء ابان الطور اليدوي، متضمنة نوع اشتراطات دالة على عبقرية الطبيعة التي تبيح البحث عن "القدرة الالهية"، نازعة السلطة من الارض وحكامها نواب الاله سومريا مقابل الوهيتهم الفرعونيه(1)، ابان الطور التعبيري اللاارضوي الاول، بما يجعل النمطية اللاارضوية المجتمعية ممكنه، مع كيفياتها وعلائم مثل هذا النوع من المجتمعية.
نعلم ان المجتمعات تبلورت ابتداء في الشرق المتوسطي نهريا، بين مجتمعية النهرين العاتيين المدمرين المخالفين للدورة الزراعية، وانفتاح الحدود شرقا وغربا وشمالا للانصبابات البشرية النازله باتجاه ارض الخصب، وكل اسباب الطرد البيئي الانتاجوي المناخية، حيث الكائن البشري موضوع ضمن اشتراطات العيش على حافة الفناء، واحتلاب نتاج الارض بما يشبه الاحتراب واقتطاع اللقمة من فم الوحش، مايذهب بالعقل متجها الى ماهو "غير"، ومايمكن ان يؤمن التوازن المفقود مع الطبيعة من خارجها، ماكان قد ذهب بالتصورات والرؤى الى مافوق ارضوية، تبلورت في السماء، وهو ماكان حال ارض سومر حيث نتعرف على النزوع البشري اللاارضوي وعيا متالها قبل ان يستقر نبويا بالابراهيمه، مع المتوقع ساعتها من مجمل الادراكية المفارقة للارضوية، مقابل نمطية الارضوية الاولى النيلية حيث التوافق البيئي الانتاجي البشري النيلي، المتوافق كليا مع الدورة الزراعية، والحدود المحمية شرقا وغربا وشمالا، والمؤمنه ضد الغزو، ماكان من شانه تكريس " الكيانيه الوطنيه" مجسده في وحدة المجتمع/ الدولة مجسدة بالفرعون "الاله" كنموذج ونمطية، هي الاقرب نموذجية قياسا لمستوى الادراكية البشرية الغالبة حتى الساعه(2).
في الحصيلة وكواقع "ملموس" تنقسم التعبيرية والادراكية البشرية الى نوعين ونزوعين " اجتماعيا" ونتيجة فعل واقعين مختلفين كينونه، اللاارضوية تنتقل مع الصدام مع البيئة الطاردة ومن ثم الكيانيه المجتمعية الارضوية النازلة من اعلى مايحقق في حينه حالة " الازدواج المجتمعي" حيث الاصطراع اللاارضوي يكتمل بحضور المجتمعية المضادة نوعا، والساعية للافناء طلبا للهيمنه المستحيلة بحكم النوع والطبيعه المغايرة كليا، ليغدو ثنائيا مع الطبيعة مضافا لها الطاريء المجتمعي، المتشكل في دول "امبراطوريات مدن" من نمط بابل، وبغداد، المعزوله المحصنه اعلى تحصين بصفتها "آخر" يحتلب الريع الزراعي بالغزو الداخلي، يعمد ساعيا للتخلص من وطاة الاصطراع المستحيل والمكلف مع الكيانيه اللاكيانيه السفلى، بالانكفاء الى الخلف ابتداء من سرجون الاكدي اول امبراطور ازدواجي في التاريخ، الى هروب العباسيين من الكوفة وبناء بغداد بعد محاولات فاشلة الى الرمادي والهاشميه تخلصا من الانتفاضات التي لاتتوقف بوجههم.
الكائن البشري اليدوي تعبيريتان، لاارضوية تالهيه تنتهي وتنضج نبويا ابراهيما، وفلسفية ارضوية اغريقية نخبوية، الاولى حياة ومجتمعية بلا كيانيه طابعها كوني لامحلوي، والاخرى كيانوية " وطنية/ قومية"، والاثنان محكومان لدياميات تصيرية ذاهبة نحو نهاية موافقه للحقيقة الوجودية صعدا، مابين يدوية اولى، وآليه انتهائية، حين ننتقل من الاغريقية الفلسفية الارضوية التاسيسيه، الى الحداثية الاوربية الراهنه، ومقابلها وختامها مابعد النبوية الحدسية الاولى، الى التعبيرية الراهنه اللاارضوية الكونيه الانتهائية "العليّة/ السببيه"، التي تنتظرها المعمورة اليوم ومن هنا فصاعدا.
***
عبد الاميرالركابي
......................
(1) يراجع/ ماقبل الفلسفه: الانسان في مغامرته الفكرية الاولى/ هـ فرانكفورت ـ جون. أ. ولسون ـ هـ .أ. فرانكفورت ـ توركيلد جاكسون/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر/ ترجمة جبرا ابراهيم جبرا/ مع اجمالي التمييز الذي ياخذ به الكتاب بخصوص الفوارق بين مايعرف بالحضارتين الرافدينيه والنيلية، طبعا من دون مقاربة الاختلاف الجوهر النمطي الكوني اللاارضوي ومقابله الارضوي المحلي.
(2) يعتقد الجغرافي المصري جمال حمدان، مستندا كالعادة الى المنظور الحداثي الغربي ونموذجيته متوقفا عند "الوطنية" معتبرا اياها قمة ومنتهى الممكن بشريا من حيث الادراك والمعاش واقعا/ د جمال حمدان في ثلاثيته الكبرى/ دراسة في عبقرية المكان : شخصية مصر/ عالم الكتب.

 

في المثقف اليوم