قضايا

صائب المختار: من هو رجل الدين (2)

بحث الجزء الأول من هذا المقال عن منصب ودور ومفهوم رجل الدين في التاريخ. وأوضح المقال أن منصب رجل الدين كان معروفاً في الحضارات القديمة، وهو أيضاً معروف في الديانة المسيحية من خلال دور الكنيسة في أداء الشعائر والطقوس الدينية. وأوضح المقال، أن لا وجود لمنصب رجل الدين في الديانة الإسلامية ولا الحضارة الإسلامية، ولا يوجد مفهوم خاص ومعين لمصطلح رجل الدين (نشر المقال في صحيفة المثقف بتاريخ 2/10/2024).

ويبحث هذا المقال عن مفهوم رجل الدين في ثقافتنا المعاصرة، وكيف ومتى أصبح متداولاً في مجتمعاتنا.

كيف دخل مصطلح رجل الدين في الثقافة العربية؟

بعد كل هذا نتساءل إذن، من أين جاء مصطلح رجل الدين؟ متى ظهر ومتى أستُعمل؟ هي أسئلة لا يُعرف لها جواباً واضحاً ولا أكيداً، ولا يوجد دليلاً عليه في تاريخنا القديم ولا الحديث، ويبدو أنه دخيل على ثقافتنا وليس اصيل فيها.

الأرجح، إن مصطلح رجل الدين، دخل على ثقافتنا مع بداية عصر النهضة العربية، تحديداً بداية القرن العشرين. يبدو أن هذا المصطلح انتقل إلينا مع مبادئ النهضة الأوروبية، التي كانت تدعو إلى محاربة رجال الكنيسة (رجال الدين). ذلك لأن الكنيسة في العصور الوسطي الأوروبية، كانت تحتكر التعليم والمعرفة لرجالها فقط، وتُحرِّمه لمن ليس من رجالها، ولهذا السبب بنيت مبادئ النهضة الأوروبية على إن الكنيسة ورجالها (رجال الدين) هم السبب في تخلف المجتمع والعائق الرئيسي للنهضة. وعندما انفتح العرب على أوروبا في القرن التاسع عشر، وبدأت البعثات الدراسية الى أوروبا، ودرس المثقفين العرب عوامل وأسباب النهضة الأوروبية، حيث كان التركيز فيها على دور رجل الدين في تخلّف المجتمع، وتصوير رجل الدين بالمتخلّف والمشعوذ وغيرها من المسميات، فانتقلت هذه الصورة إلى مجتمعاتنا من خلال أفكارهم وكتاباتهم ونقاشاتهم. وتغلغلت هذه الصورة والفكرة في افكارنا وانتشرت في ثقافتنا، وأصبح متداولاً في مجتمعاتنا.

ماهي صورة رجل الدين في مخيلتنا الحالية؟

في الوقت الحاضر، تتمثل صورة رجل الدين في افكارنا عند ذكر كلمة رجل الدين، بأنه هو ذلك الشخص الذي يرتدي العمامة والعباية ويتكلم شططاً. وأنه هو الجاهل المتخلّف والمشعوّذ، الذي يُلام على كل مآسينا وتخلّفنا. وهذا تصور مغلوط، وناقص وغير صحيح لمفهوم رجل الدين. في الواقع، إن هذه الصورة تَهمل وتتجاهل وجود رجال الدين الصالحين، الذين هم بمثابة علماء الدين وفقهائه، وهم الذين يحضون باحترام المجتمع، ويركّز على فئة المدّعَين والجَهَلة ممن يطلق عليهم رجال الدين (وهم لا يستحقون هذا اللقب). إن مثل هؤلاء الأشخاص، المُدّعين، هم القلّة القلية من رجال الدين (إذا صح التعبير)، وفي الغالب فإنهم لا يحضون باحترام الناس. ونتساءل هنا: هل إن رجال مثل محمد عبده والدكتور احمد الطيب (شيخ الازهر) والعلامة محمد باقر الصدر والعلامة الشيخ الوائلي والكثير من امثالهم، يمثلون هذه الفئة المذمومة من رجال الدين؟ بالتأكيد كلا. إنهم رجال علم ودين وثقافة وقادة للمجتمع، يَسمع لهم الناس ويقتدون بهم. فلماذا ننساهم أو نتناساهم ونركّز على فئة جاهلة متخلفة، وهم قلة قليلة جداً، وليس لديهم ما يؤهلهم للقب رجل دين. ولماذا نعطيهم دور أكبر من حجمهم ونعتقد إن ما يقولونه سيؤثر في المجتمع؟ إن من يسمع لهم أو من يتبعهم هم رجال مثلهم، جهلة متخلّفون، ليس عندهم فكر ولا رأي، ولا يؤثرون في المجتمع. إن من يؤثر في المجتمع هم المثقفون والكتّاب والمؤلفون، الذين تُطرح آرائهم وافكارهم للنقاش والتداول، وهذا هو مجتمعنا الحالي، وليس مجتمع الجهالة والتخلف.

إن ما يقال عن رجال الدين (سواء الصالحين منهم أو المدّعين) أنهم ينشرون الاساطير والخرافات، فيه شيء من سوء الفهم والتجنّي. إن رجل الدين ينشر آرائه واجتهاداته النابعة من معرفته وايمانه بعقيدته الدينية. وهذا ما يؤيده فيه الناس الذين يسمعون له ويتّبِعونَه، انطلاقاً من اعتقادهم بأن هذه من مبادئ الدين وليست خرافات ولا اساطير. فلكل شخص حرية الرأي والمعتقد. وعلى العكس من هذا المنطق، فهناك من يعتبر كلام رجل الدين تخلّف واساطير وخرافات، لكن هذا يمثل رأيه الشخصي، وليس بالضرورة أن يكون مقبولاً من كل الناس. وهنا تبرز إشكالية حرية الرأي والمعتقد؛ إذ يجب على الجميع احترام الرأي الآخر مهما كان لا يتناسب مع أفكارهم وآرائهم. فما رأيك بمن يعبد البقرة ويتبارك ببولها، أليس هذا جهل وتخريف من وجه نظر البعض، لكنه بالنسبة لمن يمارسه عقيدة دينية مقدسة، ولا يجوز لنا أن ننتقص من عقيدته لكونها لا تتماشى مع آرائنا. وما رأيك بمن يقدّس الصليب ويعبده على الرغم من أنه مصنوع من الخشب أو المعدن، ليس فيه حياة ولا يضر ولا ينفع. هذه امثلة موجودة ومنتشرة في العالم، لكنها لا تعتبر وسائل تخلّف او جهل من قبل مجتمعاتهم، بل عقيدة وإيمان. فأين المقياس الصحيح. إن الانتقاص وازدراء الرأي الآخر لا يُصْلِح الأفكار أو العقائد بل ينشر الفرقة والتعصب والكراهية.

ثقافة التسامح

إن صورة رجل الدين المشوّهة هذه، إن كانت صحيحة، وهي بالتأكيد غير صحيحة، لا يجب أن تٌجابَه بالسخرية والازدراء، لأن هذا الأسلوب ينتج العداوة والكراهية، وبالتالي الفُرقة بين افراد المجتمع. إنهم إن كانوا يقولون بالخرافات والاساطير ويوصَفون بالمتخلّفين، كما يدّعي البعض، فالأولى بالذين يجابهونهم، خصوصاً إذا اعتبروا أنفسهم النخبة المثقفة في المجتمع، أن يَعمَلوا على تثقيفهم وتوعيتهم بالحجج والأدلة العقلية المُقنِعة، وأن يكونوا متسامحين معهم لا معادين لهم. فمن المعلوم إنَّ هؤلاء هم فئة لم يكن لها نصيب كاف في التعليم، ولا يملكون سعة الأفق أو رحابة في التفكير والمعرفة. إن معاداتهم والاستهزاء بهم يولّد ردود فعل معاكسة قد لا يُحمد عقباها. فإن لم يقنعهم الخطاب والحجج والادلة، فأعلم إن العيب ليس فيهم، بل في الخطاب والحجج والأدلة التي لم تكن مقنعة لهم ولم يتقبلوها. لذلك يتوجب على من يزدريهم، أن يجد سُبلاً أخرى لأقناعهم بدلاً من اتهامهم بالجهل والتخلّف. هذه سياسة التسامح التي انتهجها الغرب في نهضتهم بعد أن عاشوا سنين عصيبة من القتل والدمار بسبب المنهج الفكري المتعصب والمتطرف الذي كان منتشراً في أوروبا خلال العصور الوسطى. وبعد انتشار ثقافة التسامح في المجتمع الأوربي استقر المجتمع وبدأ ينهض ويتطور. وهنا يأتي دور المثقف العادل والعاقل، في مجتمعنا، في انتهاج سياسة التسامح والدعوة لها بدلا من الفوقية والتعصب والتطرف (وجَادِلهُم بالّتي هي أحْسَن). فالعبء الأكبر والدور الأهم يقع على المثقفين وأصحاب الفكر، في توعية وتثقيف المجتمع، وليس على غيرهم من افراد المجتمع، كونهم النخبة من المجتمع.

فليكن نهجنا سياسة التسامح واحترام الرأي الآخر، فمن حَسُن خُلُقه حَسُن لسانه ومن فَسَد خُلُقه فسد لسانه.

***

د. صائب المختار

في المثقف اليوم