قضايا

عبد الامير الركابي: الثقافة العراقية إزاء ذاتها والعالم (2-2)

لم تكن البرانبه اليدوية حتى نهاية الطور العثماني تملك "مشروعا" مميزا ضمن الاصطراعية الناشبة بينها وبين الانبعاث السومري في ارض السواد من القرن السادس عشر، مع انها تمتعت على مدى تاريخها وماسبقها ذهابا الى هولاكو بميزه افتقاد التشكلية الرافدينيه الراهنه الحديثة للنطقية المطابقة وليدة الانبعاثية المستجده، علما بان المجالين او الموضعين البراني الاعلى في "عراق الجزيرة " وفي قلبة بغداد العاصمة الامبراطورية المنهاره، والاسفل، كانا قد تحولا الى مجالين متمايزين الجنوبي مصطرعين، قبلي ابتداء، وانتظاري حديث نجفي ثانيا، استلهاما يدويا، في حين استمرالاعلى حكومات واشباه امبراطوريات يدوية متعاقبة عائدة لمثالية زمنيه ونوعية عائدة للماضي.

وما ان حضر الغرب وطلائعه حتى تغير الوضع الاجمالي والاصطراعي التشكلي الحديث مع انقلاب البرانيه نوعا كنموذجية وتصورات مفهومية مع الغرب الالي وظاهرته المتغلبة على مستوى المعمورة، وهو ماقد انعكس في هذا الموضع من الشرق المتوسطي بايقاعيتين مختلفتين عليا هي مجال البرانيه القديم نفسه، وجدت فيه الحداثوية الطارئة الوافدة مايمكن ان يحقق استمرارية غلبتها المدعمه بالنموذجية والحضور المباشر الغربيان، في حين ذهب الاطار الاسفل التشكلي الحديث الى ممارسة الاستبدالية الضرورية، حيث استعمال النموذجية الغربية ضد الغرب وحضوره، وهو ماقد تجلى بوضوح في قيام الحزب الشيوعي وحزب البعث اللاارضويان في الناصرية عاصمة البدء التشكلي الراهن/ المنتفك، بعد فشل محاولة تاسيسهما في بغداد العاصمة/ حيث كان المفترض التبسيطي يتوقع ويفترض.

لايقارب العراق كعراق وكنوع نمطي الا كازدواج عراقين في عراق واحد، أسفل هو مجتمع لادولة لاارضوي غير كياني، واعلى ارضوي امبراطوري (امبراطورية مدينه)، نموذجاها الاعلى، بابل/ بغداد. الجزء الاعلى يصر على اعتماد المنظور والمفهوم الكياني الاحادي الشائع، تكريسا لموقعه وتوهم احاديته السلطوية، والاسفل لم يصل حد الارتقاء لمستوى النطقية الذاتيه الكاشفة عن نوعه، لتعديها نطاق المتاح والمتوفر للعقل البشري من قدرة على الاحاطة بعد.

يعني هذا اننا سنكون امام شكلين من التفاعل مع الغرب وبرانيته، احداهما متماهية معه نقليا بالاخص بما يتعلق بالنوع النمطي المجتمعي وبالكيانيه المواكبة له، فالعراق والحالة هذه واحد موحد، وبالاصل وحكما مجتمعية واحدة ودولة واحده "وطنية" كما حال مصر كنموذج أعرق، عدا اوربا شبيهتها في الجوهر نوعا، مع انها ازدواجية "طبقيا" لامجتمعيا كما الحال الرافديني، هذا علما بان الغرب الحداثي الاستعماري مطبوع الى القسر والغلبة الاكراهية المجتمعية الكيانيه وعلى مستوى الدولة، اذ تقوم علاقته بالعراق على هذه القاعدة فانها تمارس حكما كافنائية للنوع، مايجعل التماهي والاتباعية الفوقية ذاتها ماخوذة في الجوهر الى حكم واثر الفعالية اللاارضوية السفلى، وخاضعه اجمالا لدينامياتها الخافية غير المؤشر عليها.

ومن المنطقي ان يخطر على البال كون العراق او الموضع الذي يحمل هذه التسمية، ماكان قد عرف يوما، برغم مظاهر احتداميته الاصطراعية الداخلية المستمرة بلا توقف، مايمكن ان يجعله كصنف كياني مختلفا عن الكيانيات المتعارف عليها، وهذه حجة برغم وجاهتها المبدئية الظاهرة لاتصلح للاخذ بها، لان المجتمعات والمعارف البشرية على الصعيد الاجتماعي ظلت الى وقت قريب خارج الادراكية البشرية، ولم يصبح لدينا مايمكن ان ينسب الى مااطلق عليه " علم الاجتماع" الاوربي الحديث الا منذ مايقارب القرنين، علما بان مايشار له ليس اكثر من بداية ومنطلق، انطوى على ماقد رافق اجمالي المنظورات الغربية الحديثة من قصور وبقايا وقوف دون الذهاب الى اماطة اللثام الكامله عن الظاهرة المجتمعية، الامر العائد الى ترقوية العقل البشري، ومديات تشكله المستمرة عبر التجربة، واخرها تلك التي واكبت الالة في بداياتها قبل ان تصل درجة الكمال المطلوب بما خص ظاهرة الانتقال الى الطور المجتمعي الالي.

ويدخل ما منوه عنه اعلاه ضمن ظاهرة "تعذر النطقية" الخاصة الرافيدينيه والعامة على مستوى المعمورة، حيث التبسيطيه المنظورية للمجتمعات ونمطيتها مقرونة بالميل الى توحيدها وفرض نمطية بذاتها عليها، ماكان من شانه وبظل ميل الغرب الجارف للمركزية وللتسيد النوعي والمفهومي، الى ممارسة مالم يكن بيد العثمانيين او من سبقهم وصولا لهولاكوان يمارسوه، بتسليطهم نزعة الافناء النمطي الاحادي النوعي الادنى ديناميات، على كيانيه الازدواج المجتمعي الكوني المتعدي للكيانوية، وهو ماقد تكفل ابتداء شخص مثل الضابط فليب ويرلند الملحق بالحملة البريطانيه، بحفر وصفته وخطابيته التوحيدية المرتهنة للسوق الراسمالية العالمية، وهو ماقد تقبله وتبناه "الحداثيون الانحطاطيون العراقيون"، ليظل ساريا بينهم ومعتمد الى اليوم، يقبلون باسمه احالة وادماج ذواتهم الى نوع غيرهم.

ولا يمكن لابل من المستحيل بالنسبة لهذا النفر "الحداثي الانحطاطي" ان يقارب احتمالية بعيدة بعد السماء عن الارض تخص موضعهم الذي هم منه وسنكنته، عدا عن دوره او مامنطو بين تضاعيف بنيته من حقيقة كونيه راهنه، آلية، متعدية لتلك الغربية الشائعه حتى الان والتي كرسها الغرب الاوربي بقوة الاله وحضورها بين تضاعيفه ابتداء، مع قوة مفعول اللانطقية او التاخر النطقي، الذي لاتستقيم العملية الانقلابية الكونية من اليدوية الى الالية الا بزواله، باعتبارها بالاصل محطة متوافقه مع ديناميات وجوده وموقعه ضمن التفاعلية التاريخيه على مستوى المعمورة، وعلى وجه الخصوص احتمالية كون هذا المكان منطو على مستقبل البشرية ومجتمعاتها، يبدا بصيغة وتكوين مختلف وممتاز، انما غير قابل للتحقق في ساعته، فارض سومر هي ارض المستقبل البشري باعتبارها لاارضوية نشات ضمن ديناميات التشكل المجتمعي ( البيئي / البشري) ضمن بيئة مجافية الى الحد الاقصى الطارد، الذي يصل على مر تاريخ هذا المكان الى الاقتراب من حافة الفناء، مما يضع الاستجابات ووجهة العقل خارج الارضوية نازعا للخلاص من وطاتها، وبالتفارق معها الى السماوية غير الممكن الذهاب اليها الا بتوفر الاسباب المادية "الانتاجية العقلية"، مع كسر القصورية الادراكية الحالة على العقل، الباقية ملازمه له طورا الزاميا ضمن تاريخ تصيره العضوي الضروري، المتجه ترقيا الى الانفصال عن الجسدية، والتحرر من ربقتها كمتبقيات حيوانيه مستمرة حضورا من مراحل تصيرية غابره.

يتبع / ملحق1

***

عبد الامير الركابي

 

في المثقف اليوم