قضايا

نصير عواد: التشوّهات الطبقية في العراق

بالنظر لطبيعة المجتمع العراقي الذي تحكمت الدولة باقتصاده الريعي فإن الحدود الطبقية بين العمال والبرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى لم تكن بذلك الوضوح والاصطدام، وشهدت في الازمات تداخلا وتنقلا من مستوى إلى آخر، الأمر الذي يعكس طبيعة دورها بالأحداث التي مرت بالعراق في النصف الأخير من القرن الماضي. فيما يخص الطبقة الوسطى فهي لم تكن من قماشة واحدة، فلقد كانت خليطا من تجار ومدراء عامون ونخب مثقفة... من النادر وجود رجال الدين بينهم. بمعنى ان الطبقة الوسطى في عهد النظام السابق كانت ماثلة لكنها غير قادرة على فرض نموذجها، كانت معتدلة إلى حد الخوف على وجودها، تحرز تقدما في فترات الاستقرار السياسي ثم تتعرض للتهديد مثل باقي الشرائح الاجتماعية، وإنْ كان بمعاناة أقل. بعد الاحتلال الأمريكي وانهيار مؤسسات الدولة هُمّشت تماما الطبقة الوسطى، وهيمنت على السلطة احزاب إسلامية، وضعت ورجالها في وظائف عامة لا سابق خبرة لهم فيها، فإشغال الموقع في النظام الجديد لا يعتمد على شهادة او خبرة صاحبه بقدر اعتماده على مؤهلات حزبية، دينية، طائفية، عشائرية، وبالتالي لا حاجة للنخب والخبراء والشرائح الوسطية، كما قال يومها الوزير والقيادي في حزب الدعوة " جاسم محمد جعفر" انه لن يوافق على تشغيل العالم الفريد انشتاين في البلدية (لأنه لا يصلي). ومع الصعود السريع للشرائح الطفيلية بعد الاحتلال بدأ بالتبخر أمل الطبقة الوسطى في ان تعود لسابق عهدها، أُغلقت الشركات الناشئة والمصانع والورش الصغيرة لصالح الاستيراد. قاد هذا التحوّل قوى سياسية متنافرة ومتنافسة، تتشاطر الأفكار وتتبادل الأدوار، من دون القدرة على بلورة رؤية سياسية تحدد مستقبل البلد. اعتمدت في تنفيذ سياستها على شرائح اجتماعية عانت الفقر والظلم، وهي شرائح ليست متعلمة بما يكفي لتسهم في التحولات الجذرية التي ينتظرها البلد. شرائح رأت انها أكثرية في الشارع العراقي وأنها صاحبة حق في العمل والحكم، وعندما انخرط أفرادها بالحياة العملية سرعان ما وجدوا أنفسهم من دون تعليم وخبرات، وأنهم غرباء عن آلة الدولة، فبحثوا عن أقصر الطرق للاغتناء والحضور، فلم يجدوا طريقا أسهل من العمل مع الفصائل المسلّحة، إلى جانب قلّة تلمست طريق السمسرة والتهريب والاستيراد ومزاد العملة، حازوا لقبا استحقوه "حديثو نعمة".

الحق ان التشوهات الطبقية بالعراق قديمة، فلطالما كانت القرارات الفوقية التي تخدم السلطة، لا الدولة، هي التي تضع السقف الذي يتحرك فيه المجتمع وتجبر فئاته على العودة في كل صغيرة او كبيرة إلى مَن أصدر القرار. وعلى الرغم من الطابع الوطني، الاصلاحي، الثوري لبعض القرارات الفوقية إلا ان النزعة السلطوية المصحوبة بالأوامر والقوانين المتسرعة ليس من عادتها التفكير بعمق في العواقب المحتملة لقراراتها. وما زالت الذاكرة العراقية تحتفظ بعواقب قانون تحويل العمال إلى موظفين عام (1987) وإلغاء نقاباتهم المهنية، وكذلك بقانون الإصلاح الزراعي (ايار 1959) الذي حُيّد فيه رجال الاقطاع ووزعت ملكيتهم على الفلاحين. والذي تبين لاحقا انه لم يؤدِ إلى طفرة في الإنتاج الزراعي وتحسين حياة الفلاحين الفقراء، ولم يلغِ كليا الفوارق الطبقية أو يخفف من النظم القبلية السائدة بالريف. رغم الخطوة الثورية في توزيع الأراضي على الفلاحين، التي تهدف لتحقيق العدالة في توزيع الثروة، إلاّ إنها بدت وكأنها قفزة كبيرة وحرق مراحل لم يكن الفلاح قادرا على هضمها، بدت وكأنها غير واقعية ومن دون أرضية فكرية قادرة على تحييد العلاقة بين الاقطاعيين وبين رجال الدين، بعد ان احتفظت تلك العلاقة بقوتها تحت القشرة الهشة للتطورات السياسية القلقة. فالأقطاع نظام اقتصادي اجتماعي قديم، مبني على الولاءات والامتيازات لا يمكن اقتلاعه من جذوره فقط بقرارات فوقية. تجلى لاحقا في قدرة اقطابه على تغيير اثوابهم بتغير الحكومات المتعاقبة، لبسوا اثوابا دينية وقومية وسياسية ثم انتهوا بعد الاحتلال الأمريكي إلى لبس ثوب الشركات والمقاولات وصاروا يستغلون عمل الفلاح مقابل منحه نسبة الربع من الأرباح. هاجر بسبب ذلك الكثير من الفلاحين للعيش على أطراف المدن، تراجعت فيها مكانتهم الاجتماعية، وصاروا يبحثون عن أعمال لا تنسجم مع طبيعتهم الفلاحية. ينبغي الإشارة إلى انه على الرغم من تشابه الخصال بين "الاقطاع الجديد" الذي تمثله البرجوازية الطفيلية وبين الاقطاع القديم في التزمت والركود وحب السيطرة وتكديس الأموال والتمسك بالماضي وشخوصه، إلاّ انه لم يأتِ أحدهما من بطن الآخر، أو نتيجة صراع معه، فلقد مرت عقود من التغييرات القسرية التي عبثت بالمجتمع وشوهت بناه الطبقية، ثم انتهت باحتلال أمريكي أكمل على الجميع. والحق يقال انه على الرغم من هذه المشتركات بينهما إلاّ ان الاقطاع القديم، خاصة الملاّك المدني، ساهم من موقعه بالاقتصاد والإنتاج الزراعي من دون ان يشكل خطرا مباشرا على الدولة، كما فعل الاقطاع الجديد المشوه الذي تمثله البرجوازية الطفيلية في تدمير الاقتصاد الوطني. وحتى لا نظلم البرجوازية الطفيلية فإن لها نيات طيبة في إقامة العبادات والشعائر وتوطيد العلاقة مع المؤسسة الدينية وتنفيذ المشاريع التي تضمن استمرار تلك العلاقة، وفي مقارنة سريعة بين المشاريع التي تنفذها البرجوازية الطفيلية بمدينتي كربلاء والنجف وبين تلك التي تُنفذ بمدينتي الديوانية والسماوة ستتبين لنا طبيعة المشروع الحالي بالعراق.

إنّ ما حدث للمجتمع العراقي في نصف قرن أنتج تشوهات طبقية بدت اشبه بصفعة لمفاهيمنا الكلاسيكية التي ترى المقابل لوجود الاقطاع في الريف هو وجود الطبقة الوسطى بالمدينة، ففي العراق اليوم لا هذه ولا تلك. المراجع الكلاسيكية ترى أن نمو الطبقة الوسطى يرتبط على الدوام بنمو المدينة، حتى قيل ان الطبقة الوسطى ابنة المدينة. وترى أيضا أن تحسن أوضاع المدينة الاقتصادية والثقافية يسمح بانضمام اعداد جديدة لصفوف الطبقة الوسطى من الأغنياء والنخب وصغار البرجوازيين الطموحين، ولكن المدينة العراقية اليوم توسعت بغياب الطبقة الوسطى، توسعت من دون نمو واضح في الخدمات والطاقة والبنى التحتية. فلقد أدى ضعف القطاع الخاص وغياب الاستثمارات الأجنبية إلى تركيز البرجوازية الطفيلية على الأعمال سريعة الربح، خاصة الاستيراد والعقارات، أكثر من تركيزها على المشاريع الاستراتيجية. ومع استمرار نزعة استملاك العقارات على حساب المشاريع الاستراتيجية، على حساب الفجوة بين الأغنياء والفقراء، على حساب الحدائق والبساتين وضفاف الأنهر، أدى ذلك إلى استملاك اغلب العقارات المتوفرة، وتحويلها إلى كيانات اسمنتية مشوهة لا روح فيها. من جهة أخرى فإن هجرة فقراء الريف للمدينة، والنسب العالية للولادات بينهم، هو الآخر سبب إضافي في بطء نمو المدينة، سبب في تشوهها وتعميق الفوارق الطبقية بين شرائحها الاجتماعية، فمن غير المرجح في مثل هذه الظروف الصعبة ان يستطيع سكان العشوائيات تعليم أبنائهم وضمان مستقبلهم. فأحياء الطين والصفيح على أطراف المدن غالبا ما تكون من دون مدارس او خدمات، شوارعها ترابية ومقاهيها تعج بالعاطلين وبالعمال المؤقتين الذين تركوا الزراعة والرعي ونزلوا يبحثون عن أية مهنة تسد رمق العيش، عانوا منها أسوء مما عانى الفلاح من الاقطاعي. من المؤلم القول هناك الكثير مما تكرهه في المدينة العراقية اليوم، ليس فقط غياب الخضرة وانتشار اللون الرصاصي، ليس فقط هجرة الريف للمدينة... بل هجرة ابناء المدن إلى تركيا، الأردن، مصر وأوربا... بعد ان رأوا ان مدنهم لم تعد تشبههم، لم تعد تشبه نفسها. اما الذين بقوا في مدنهم من النخب والشرائح المتعلمة والشخصيات المؤثرة فقد عاشوا حضريين مهمشين يتمتعون بسمعة طيبة.

نحن ندرك بأن هناك مَنْ هو أكثر كفاءة منّا بالحديث عن التشوهات الحاصلة بالمجتمع العراقي، وندرك أيضا بأن ما يحدث من غلق للمصانع وتنفير للنخب وتهريب لثروة البلد يجعلنا كمواطنين قادرين على ابداء الرأي فيه. ففتح أبواب الاستيراد غير المبرمج من دون تهيئة مؤسسات على أرضية اقتصادية خبيرة لا يحتاج إلى ناظور لرؤية تدمير المهن وتهميش الصناعة الوطنية وتهريب ثروة البلد. فقبل دخول الاحتلال كانت الأسواق المحلية، والمستوى الاقتصادي المتواضع للمجتمع، قد وفرت الاستقرار للحرفيين وأصحاب المهن وعمال النقل وغيرهم. صاحب ذلك تعايش بين المهن ونسج علاقات اجتماعية وتكافلية بين اصحابها، كل ذلك هزّه بعنف الاستيراد المنفلت، وألقى بالمهن وبتقاليد المجتمع إلى النسيان. بالحقيقة لا توجد لدينا أرقام رسمية عن اغلاق كم من المصانع والورش بسبب الاستيراد المنفلت، وعن تغييب كم من الكفاءات والخبرات، وعن تراجع كم من اعداد العمالة الماهرة. ولكن توجد احصائيات دولية عن ظهور (36) ملياردير و(16) ألف مليونير في العراق، من بينهم بائع الطحين في سوق الشورجة "علي غلام" الذي دخل مزاد العملة والاستيراد ثم تحوّل إلى ملياردير يملك أربعة مصارف، وهو الآن يعيش بلندن في منزل متواضع تبلغ كلفته فقط (40) مليون دولار.

***

نصير عواد

 

في المثقف اليوم