قضايا
محمود محمد علي: العبوديّة الحديث في عصر التكنولوجيا الرقميّة
العبودية أو الرق مصطلح يشير إلى حالة امتلاك إنسانا لإنسانا آخر، حيث كان الأسياد يبتاعون العبيد في أسواق النخاسة، صحيح ان المجتمع الدولي قد اتجه في القرنين الماضيين لإلغاء العبودية بشكلها القديم الذي أخذ العالم القديم يتبرأ منها، ويسن القوانين لمكافحتها، إلا أنها بدأت في الظهور عبر أشكال جديدة، مثل الاتجار بالبشر، والمخدرات، والسلاح، وتبيض الأموال، والاتجار بالأعضاء البشرية، أو غيرها من أنواع التجارة التي تلحق ضررا بالغا بالإنسان، وكرامته وأدميته.
ولكن وفي ظل العولمة، وبفعل التطور العلمي والتقني والطفرة الرقمية (الديجيتال) ظهر نوع جديد من العبودية وهو ما يمكن أن نسميه " العبودية الرقمية"، حيث من الملاحظ أن الكثير من المنتوجات والخدمات أصبحت اليوم متاحة، ويتم استهلاكها عن طريق الإنترنت، من خلال عدد هائل من المعطيات الشخصية والتفاعلات والإلكترونية، وعليه فإننا كموجودات رقمية نعيش في المستودعات الرقمية ن ونعمل على طول منتوجات الاتصال، وهي منتوجات ومستودعات مملوكة من طرف الآخرين، وهذا يعادل إننا كموجودات رقمية يمكن أن نكون مملوكين من طرف الآخرين.
لقد تحرر الإنسان بفضل التكنولوجيا من الجهل والعبودية، لكنها أوقعته في عبودية من نوع آخر “عبودية التقنية ” التي اقتحمت أدق تفاصيل حياتنا مما أثر على سلوكياتنا. فرضت التكنولوجيا واقعا جديدا انعكس على حياتنا وبالتالي على الفن، فهناك من يرى أن القيم الجمالية قد تهاوت أمام الثورة التكنولوجية، بينما ترى فئة أخرى أن التكنولوجيا أوجدت مفاهيم وتقنيات جمالية جديدة، أثّرت بطريقة مباشرة على أداء الفنان الذي تخلى تدريجيًا عن الوسائط التقليدية ليستبدلها بالتجهيزات المتطورة والآلات الروبوتية، لتفسح له المجال للتساؤل عن مستقبل البشرية في ظل الهيمنة الرقمية.
فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين، اتسم الإبداع الفني بالتطور المتسارع بفضل التقنيات الرقمية التي قادت الفنان نحو تطوير المفاهيم الجمالية عبر إدراج الفن الرقمي في الممارسة الفنية. مما أدى إلى تقديم تجارب وعروض حيّة غريبة ومدهشة تساءل الوسيط التكنولوجي وتقيّم حدوده. ويعد مارسيلي أرتينيز روكا من أوائل الفنانين الذين أقحموا التكنولوجيا الرقمية في ممارساتهم الفنية. ومارسليي فنان إسباني من مواليد 1959 ذاع صيته في الساحة الفنية من خلال عروضه الحيّة ذات الطابع التفاعلي التي يوظف فيها تجهيزات رقمية مكثفة. يعد عرضه الذي يحمل عنوان Epizoo”” أحد أهم عروضه التي بيّن من خلالها قدرة التقنية على استيلاب حرية الإنسان. يتسم العرض بالطابع الصادم والجريء يكون فيها المتلقي مشاركًا فاعلًا في عملية الإنشاء الفني. تتداخل في هذا العرض العديد من الأجناس الفنية المختلفة من مسرح وفنون تشكيلية وموسيقى. ساعدت التقنيات المتطورة على إلغاء الحدود والفواصل بين مختلف هذه الأنماط الفنية ليتم تقديمها بطريقة متجانسة. يغيب في هذا العرض النص الحواري لتحل مكانه الآلات المتطورة وخاصة الإيماءات والتعابير الجسدية. مما يجعلنا نمعن النظر في جميع هذه التفاصيل من أجل فهم مقاصد الفنان ومعانيه.
لقد بات من الواضح كيف أن شركات عالمية تستخدم بيانات الأفراد الشخصية من أجل أغراض مختلفة، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويحدث ذلك في الانتخابات في معظم دول العالم، وهو فقط نموذج من أجل توضيح أن المعطيات الشخصية للأفراد في منصات التواصل الاجتماعي ليست في مأمن، بل هي مُعرضة لأت تُستغل من أجل أهداف تمس بحرية الفرد في اختياراته وتوجهاته من خلال الـ" بيغ داتا " ومعادلة التحكم والعبودية، فأمام هيمنة مخرجات الثورة الرقمية سيصير الإنسان عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تتخصص في تجميع مدونة المعطيات الكبرى، وذلك بقصد التحكم في المجتمعات، وإحداث تجول جذري في أفكارها وأنماط حياتها، وتحويلها بالجملة إلى مجرد كائنات مطواعة تفعل ما تُؤمر به، أو ما تُقاد لذلك.
فالمدونة المسماة big Data أو البيانات الضخمة تقوم بتجميع كل المعطيات التي يقدمها المُبحرون في الهاتف النقال عن أنفسهم لفائدة هذه الشركات، سواء تعلق الأمر بالمعلومات الصحية، أو الأذواق والاختيارات، بل حتى الرغبات والميول الأكثر حميمية.
بعد ذلك يتم معالجتها وإيداعها في حواسيب لها قدرة فائقة على التخزين والإحصاء، حيث ستتمكن هذه الحواسيب، وفي وقت وجيز بمسح كامل وشامل حول الكائن البشري، فيصبح الأفراد مراقبون بطريقة ذكية، ولكنها غير محسوسة.
ظواهر رقمية جديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة مع الحياة الرقمية، من ثم بدت مهمة للتحليل السوسيولوجي وفروعه، وحقوله المعرفية التي استقرت نسبياً عبر الزمن كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح مع تحول المجتمعات الغربية، وغيرها، في ظل بعض التحولات في المفاهيم والنظريات ومفاهيم التحليل السوسيولوجي، بل والاستقرار النسبي لآلة الاصطلاحات السائدة في هذه الحقول. الظواهر والمشكلات الاجتماعية في المجتمعات، وواقعها وتفاعلاتها الفعلية، استقرت نسبياً مع تراكم الدراسات الحقلية- الإمبريقية، وتنظيراتها في العلم الاجتماعي.
والظواهر الرقمية الجديدة، والمشكلات التى تتشكل حولها لا تقتصر على البحث عن سوسيولوجيا ولغة رقمية جديدة، وربما كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح مغايرة عن التنظيرات والبحوث السوسيولوجية والأنثربولوجية الميدانية، وإنما ثمة اهتمامات أيضاً لبحث ما تطرحه هذه الظواهر والمشكلات الرقمية من جوانب سوسيو-نفسية، لتحليل هذه الجوانب، ومنها الإدمان الرقمي، والسلوك العدوانى الرقمي، واللغة العنيفة المتفجرة بالعدوانية، والتحريض على العنف الرمزي والمادي، وخاصة من خلال الوصم السلبى للآخرين، أو اتهامهم بالكفر أو الخروج عن الملة كجزء من استعارات اللغة الدينية واللاهوتية من المتون التاريخية والتأويلية للغة واللاهوت التاريخي إلى الواقع الافتراضى، أو إشاعة مفردات ثقافية حول كراهية الآخر الديني، أو المذهبى من داخل الدين أو المذهب أو من خارجه! أو الكراهية العرقية والشوفينية والتعصب القومي!
ثمة أيضا الأبعاد النفسية لظواهر التحرش الجنسى الرقمي، أو بث فيديوهات، وجيزة، وصور شبقية، أو جنسية عارية، أو خطابات جنسية رقمية مثيرة، بعضها كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح للترويج ذو الطابع السلعى من أجل المتابعات التى تجلبُ بعضُ المال من الشركات الرقمية الكبرى، وبعضه الآخر محاولات لإثارة اهتمام الآخرين حول الشخصية العارضة، الساعية لتأكيد ذاتها الرقمية من خلال الاستعراض الجسدى، وإثارته الحواسية، أو الجمالية، من خلال الصورة أو الفيديو الطلقة المصحوب أحياناً بالأقوال الإثارية. بعض الصور والفيديوهات الحاملة للأجساد والإثارات الحواسية، قد يستخدمها بعضهم/هن في التشهير، والابتزاز، والضغوط إزاء بعضهن/بعضهم،وهي ظواهر خطرة تتعدى الفعل إلى دائرة التجريم في عديد من بلدان العالم.
إن هذا الزحف نحو العبودية الرقمية؛ في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت، ستكون له تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة، وضغوط إضافيّة على ميزانياتهم، ولا بدّ من أنه سيخلق نوعاً من تفاوت طبقي في القدرة على الوصول للمعلومات بين الشعوب وداخل المجتمعات السكانيّة أيضاً، مما قد يعوق تشكيل ثقافات منسجمة على المستوى الوطني، لمصلحة ثقافات بديلة افتراضيّة عابرة للحدود تجمع بين فئات الميسورين دون غيرهم.
وهذا الفصل الرقمي سيدفع بالمتضررين إلى محاولة عبور الأسوار عبر المواقع والبرامج المقرصنة التي تحمل في طياتها غالباً مخاطرات التعرض إلى الفيروسات والبرمجيّات الضارة، وربما تتسبب لهم في خسائر مادية تضاعف من الفجوة الرقميّة، وتكرّس تهميش الذين يقفون على الجانب الخاسر من الصحراء السيبرانيّة الممتدة. وتهدد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعيّ اليوم، مع تسارع اندماجها في مختلف جوانب الحياة، بتوسيع تلك الفجوات الرقميّة بشكل أكبر، وربما خلق أشكال أكثر جبروتاً مما عرفناه حتى وقتنا الرّاهن من عبوديّة رقميّة.
كذلك لا شكّ أنّ التّقدم الهائل الذي يعرفه العالم في المجال الرّقميّ واستخداماته المتعدّدة، قد سهّل الحياة أمام الأشخاص الرّاغبين في البحث عن المعلومة، والاتّصال، والتّجارة، وتبادل الخبرات، وتسهيل العمليّات المصرفيّة، فضلاً عن استخدامه في الدّراسة والبحث والاتّصال بين مختلف مراكز الدّراسات والأبحاث والمراكز الطّبية والصّناعية وغيرها، ولا شكّ أيضاً أنّ هذا المجال الرّقميّ، مثل أيّ مجال آخر، له جوانب إيجابيّة وأخرى سلبيّة، أشدّها سلبيّة وأكثرها تأثيراً على صحّة الإنسان الجسديّة والنّفسيّة هو ما يمكن أن يُصطلح عليه «بالإدمان الإلكترونيّ»، وهو إدمان يحوّل حياة المرء إلى نوع من «الأسْرِ» السيِّئ والشّديد؛ حيث يكون فيها المدمن مقيّداً ومُستعبَداً لرغباته وحاجاته الإدمانيّة، فتضطرب حياته وتتمحور حول تلك الرّغبات الجامحة والقويّة للإدمان، وحين يتطوّر الإدمان يتقلّص التّناغم في الحياة بشكل تدريجيّ، وهذا إذا ما افترضنا – طبعاً - أنّ حياة المدمن كانت في الأصل سليمة ومتناغمة، هذا وقد بيّنت الحوادث أنّ ثمّة عدداً من المدمنين كانت حياتهم مفعمة بالعمل والإنتاج والتفاؤل والتّناغم العام، حتّى دخل الإدمان إليها، وبدأ الخلل يزداد يوماً بعد يوم.
***
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة أسيوط
................
المراجع:
1- قناة اليوم: العبودية الرقمية، يوتيوب.
2- نبيل عبد الفتاح: الحرية الرقمية والعبودية الطوعية: أثر الثورة الرقمية في تشكل الظواهر السوسيو –نفسية على الشبكات الاجتماعية، مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام.
3-أنظر مقال عبودية لا مفر منها قراءة في عرض مارسلي روكا، منشور يوم السبت 2022/10/01
4- أنظر مقال العبوديّة الرقميّة.. وهزيمة الثقافة، منشور يوم 25-07-2023 01:30 PM.
5- د. سعيد عبيدي: الإدمان الالكتروني أو العبودية الرقمية، مقال.