قضايا
علاء اللامي: العرب والآراميون في ممالك الشمال القديمة: عربايا مثالا (1-2)
تعتمد هذه المقاربة التأريخية التحليلية مفهوم "الهوية الحضارية/ الثقافية" بمحتواه الإناسي "الانثروبولوجي" للدول والمجتمعات موضوع البحث، في تعارض جوهري مع مفهوم "الهوية القومية" بمحتواه العرقي "الإثنولوجي". وعلى هذا المفهوم "الحضاري /الثقافي" ينبني تعريفنا لهويات مجتمعات ودول سادت ثم بادت في شمال العالم العربي الآسيوي، وتحديدا في منطقة الجزيرة الفراتية الممتدة من جنوب جبال طوروس شمالا ونزولا حتى خط الفلوجة تكريت شمال بغداد. ومع هذا التعريف سنعالج موضوعتنا القائلة إنها دول ومجتمعات تعددية، متنوعة (وثنائية التكوين أحياناً) من حيث النسيج السكاني والهيمنة الهوياتية الفعلية - التي قد تخف أو تكثُف تبعاً لتبعات العامل الجغرافي / البيئي - على الدولة والمجتمع المعني وفي إطار تحول الكيانية الجغرافية إلى أخرى سياسية وحضارية وبالعكس.
بين الإناسية والعرقية
معنى ذلك، إننا لا نأخذ مقولة الهوية الحضارية بماهيتها العرقية التي سادت وشاعت في العصر الحديث، وتحديدا خلال القرنين الماضيين، تحت تأثير الفلسفات والنظريات الغربية وبخاصة الألمانية، ففي الشرق القديم وحتى الوسيط، تنعدم حالات الصفاء العرقي أو "النقاء الرِّسي" في تلك الممالك البائدة. وعلى الأرجح، فلم تكن هذه الحالات والنَّزَعات تهم الشعوب القديمة ودولها كثيرا في غابر الأزمان على الرغم من الحروب والصراعات المديدة بين شعوب وأمم تلك العهود حول الأراضي الخصبة الغنية بالماء والغذاء أكثر منها حول الأصول والأعراق، بل سجلنا عدة حالات تخلت فيها بعض الشعوب غير الجزيرية السامية كالحيثيين والميتانيين عن لغاتها القومية ودياناتها، واتخذت الأكدية أو الآرامية والآلهة الرافدانية لغة وآلهة لها، طوعا أو تماشيا مع موجبات الاندماج المجتمعي والحضاري الدائب واتخذت، الآرامية أو غيرها لغة لها، واندمجت في الأمة السائدة أو الأكثر إنجازات حضارية؛ وقبلهم سجل التاريخ حلول الأكديين محل السومريين - هذا إذا تأكد وجود الأخيرين المشكوك به كشعب - وجاء الأموريون من البادية بين العراق وبلاد الشام - ليسودوا في جنوب الرافدين ويقيموا دولة سلالة بابل الأولى (بين 1894 و 1531 ق م)،وينبغ منهم الملك حمورابي ثم ذابوا وانقرضوا في شعوب الوادي العراقي القديم. لقد أمست الهوية العنصرية العرقية ومشمولاتها من نقاء الدم وصفاء العنصر شيئاً من الماضي في سهول الشرق المفتوحة بفعل سلسلة الهجرات وعمليات التهجير والسبي الجماعي والغزوات والحروب وكوارث الجفاف والفيضانات الطوفانية وحالات الاندماج التي حدثت ومزجت الوجود السكاني المشرقي مزجا شديدا طوال آلاف السنوات، ولكن هذا النقاء أو الصفاء الرِّسي ظلَّ عزيزا على قلوب القوميين المعاصرين وهو يستيقظ لأسباب كثيرة أغلبها مفتعل وذو نكهة سياسية أيديولوجية أو أنه يأتي كرد فعل دفاعي على الغزو الاستعماري الأوروبي الغربي الدموي الاستئصالي طوال القرون الثلاث الماضية وما يزال مستمرا في عصرنا بأشكال ناعمة وأخرى شرسة.
إن القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية، والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلا للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية "السامية" بدءاً من الأكديين ومروراً بالآشوريين والكلدانيين وانتهاء بالآراميين عربا لا يجوز التشكيك بعروبتهم، بل أنهم أحيانا لا يستثنون من حملاتهم التعريبية حتى الأقوام والشعوب غير الجزيرية "السامية" كالكرد والأمازيغ وغيرهم. غير أن هاتين الرؤيتين "القوميتين"، المتخاصمتين مظهراً تنطويان على جوهر واحد نواته النزعة الأيديولوجية النفسية الشاطبة على التنوع والتعدد السلالي الجزيري، والساعية إلى تسييد لونها ونمطها القومي الخاص دون سواه، وهذا منطق يمكن وصفه من دون تردد بأنه لا تأريخي ولا علاقة له بالعلم وشؤونه.
إن َّهذه النظرة الواقعية إلى مفهوم الهوية الحضارية المركبة، ليست ابتكارا جديدا، بل يمكن أن نجد جذروها الحقيقية في ما عبر عنه عدد من الباحثين المعاصرين، منهم مثلا العلامة العراقي طه باقر في كتابة "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج1- الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين"، حيث كتب في هذا الصدد: "إن ما سنذكره عن الأقوام التي استوطنت وادي الرافدين وأسهمت بالأدوار الرئيسة في بناء حضارته سيقتصر بالدرجة الأولى على الجوانب اللغوية وليس بما يطلق عليه الجنس أو "الرِّس" (RACE) - ص 73". ومعلوم أن المعطى اللغوي ينتمي إلى الفضاء الثقافي الحضاري الأوسع وينأى عن المعطى العرقي السلالي الضيق.
ولكننا سنحاول تطوير وتنمية هذا المفهوم، لنعطيه مضموناً مادياً تاريخياً أكثر سعة وعمقاً، عَبْرَ ربطه بسياقه التاريخي الواقعي الموثق بما توفر من أدلة حاسمة سواء كانت آثارية وإناسية وتأريخية في محاولة للخروج من الإطار الضيق لمفهوم الهوية الحضارية وتوسيعه إلى الحد الذي يسمح لنا بتتبع التدرجات في تلك الهيمنة وفي محتوى الهوية وتحولها الى هوية تعددية بما يؤكد حقيقة التدامج والامتزاج بين مكونات منطقة الجزيرة الفراتية موضوع البحث.
لنبدأ بالأسماء العَلَمية، ولنلقِ نظرة فاحصة على الاعتقاد القائل بأن "بيت نهرين" وترجمتها اليونانية والرومانية "ميزوبوتاميا" قد أطلق على مملكة الرُّها دون غيرها، وإنه لم يعنِ يوما بلاد الرافدين "العراق القديم". ومع إننا كنا قد فصلنا في هذا الموضوع في مناسبة سابقة (الأخبار 1 تموز 2022)، ولكن لا بأس من التذكير بخلاصته التي تهم بحثنا هذا بعد تنقيحها: إن عبارة "آرام نهرايم"، كما يرى طه باقر (م.س - ص24)، هي عبارة آرامية، وردت في التوراة وتعني أرض النهرين. وأقدم منها، وجدت عبارة أكدية بابلية بذات المعنى هي "مات بريتيم" وترجمتها الحرفية هي "أرض الما بين"، وأصبحت لاحقاً تعني الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين الممتدة - كما أسلفنا- بين جبال طوروس وحتى الخط الممتد بين الفلوجة وتكريت شمال بغداد والتي تسمى غالبا منطقة الجزيرة. وهناك أيضاً مصطلح "بيت نارم" (ما بين النهرين)، ومصطلح "نهارينا" الذي أطلق على المملكة الميتانية التي بلغت أوج قوتها حوالي سنة 1350 قبل الميلاد، في منطقة الجزيرة ذاتها كما ورد في رسائل تل العمارنة.
وبعد ترجمة التوراة إلى اليونانية في ما سمي الترجمة السبعينية، أخذ الإغريق عبارة "ما بين النهرين" وترجموها الى لغتهم فكانت "ميزوبوتاميا"، وبعد الإغريق جاء الاحتلال الروماني للمنطقة فأمست ميزوبوتاميا اسما لاثنتين من المقاطعات "المحافظات" التابعة للإمبراطورية الرومانية في بلاد الرافدين، إحداهما ظهرت لفترة قصيرة أثناء حكم الإمبراطور تراجان بين عاميّ 116 و 117 م، والأخرى أسّسها الإمبراطور سيفيروس حوالي العام 198 م، أما آسوريا (بلاد آشور) والتي اختزلت لاحقا إلى "سوريا" اختزال الكل الى الجزء، فقد أطلقها الرومان على ما سماها العرب بلاد الشام أو على شرقها تحديدا. وبعد ترجمة التوراة اليونانية السبعينية إلى اللغات الأوروبية الأخرى اتسع مدلول الكلمة (ميزوبوتاميا) كترجمة حرفية لما بين النهرين وتحول من معنى القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين ليعني البلاد كلها. وظل هذا الاسم بهذه الدلالة حتى عودة اسم العراق الحالي في عصر ما قبل الإسلام (عصر الاحتلال الفارسي الساساني)، واسم العراق تعود جذوره إلى العصر الآشوري وفي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد بلفظ "آراكيا" كما كشف الباحث أولمستيد في كتابة "تاريخ آشوريا" ثم صار مرادفا له بصيغة بلاد الرافدين.
جدلية الكيانية الجغرافية والأخرى السياسية
إن الخلل في النظرة "التعقيمية/ الاستئصالية" الحاذفة للآخر إلى هوية وماهية الدويلات القديمة في المنطقة، إذا وضعنا جانباً الدافع النفسي والأيديولوجي الكاره للعرب والمحاوِل الشطب على اسمهم وحضورهم الحضاري قديماً وحديثاً بهدف تقديم هوية جديدة أو قديمة أعيد طلاؤها وفرضها قسراً على الماضي والحاضر، ينبع أساساً من عدم إدراك كُنْهِ العلاقة الجدلية بين الكيانية الجغرافية والأخرى الثقافية/ الحضارية في سياقهما التطوري، وتفاعل هاتين الكيانيتين، وتحول إحداهما إلى الأخرى بمرور الأزمان. فالبعض، ممن يجهل طبيعة هذه العلاقة، يشطب على الوجود العرقي لشعب ما، ويعتبر الاسم الموجود دالّاً على الكيانية الجغرافية فقط ودائما، وقد حدث هذا فعلا حتى مع الكنعانيين الذين قيل إنَّ اسمهم لا يدل على شعب بهذا الاسم بل على المنطقة "المنخفضة" التي عاشوا فيها، وحدث مع الآراميين أنفسهم حيث أنكر بعض الكُتاب وجود شعب بهذا الاسم في شمالي بلاد الرافدين واعتبره مشتقاً من "أور رمثا" أي الأرض المرتفعة، بل إنَّ هناك مَن أنكر وجود شعب باسم الآراميين واعتبر الكلام عنهم تلفيقاً من مؤرخين غربيين "متآمرين" لأغراض سياسية (فاضل الربيعي مثلا، في مقالته "خرافة الشعب الآرامي وتخريب تاريخ فلسطين القديم/ موقع الجزيرة 19 كانون الأول 2017")، وهذا كلام يُلقى على عواهنه ولا يصح منهجياً كما سنرى.
إن الدليل على وجود هذا الخلل في معالجة موضوع الكيانيات الجغرافية والأخرى الحضارية نجده مثلا في عرض تحولات اسم "بيت نهرين" الذي يقدمه هنري كيفا نفسه في مقالة له. فالملفت أن كيفا يؤكد في إحدى الفقرات التي يقدمها لتحولات اسم بيت نهرين، وربما دون أن يعلم، بقِدَمِ اسم بيت نهرين وكونه يسبق قيام مملكة الرها بعدة قرون. تقول الفقرة: "وقد عُثر على لوحات فخارية تذكر أسماء بعض العبيد الذين قدموا إلى بابل من مدن، تقع في بلاد (مات بيريتم)، وفي كتابة أخرى (مات ناريم). ويضيف؛ "وقد أثبت العالِم جاكوب جي فنكلشتاين في بحثه أن هاتين التسميتين هما التسميتان الآكاديتان اللتان أطلقتا على بيث نهرين قديماً / مقالة بعنوان - بيت نهرين؛ تسميتها موقعها وحدودها/ موقع الآرامي الديموقراطي".
ومعلوم أن الدولة الأكدية يعود تاريخ تأسيها على يد سرجون الأكدي (حكم من 2334 حتى 2284 ق.م) الى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، أما مملكة الرها فتأسست بعدها بواحد وعشرين قرنا، وبالضبط في 132 ق.م، وزالت من الوجود بعد 180 عاما؛ فهل يعقل أن يطلق الأكديون اسم بيت نهرين على مملكة ستنشأ بعد أكثر من ألفي عام، أم أن المنطق العلمي يقول إنَّ الآراميين ورثوا هذا الاسم الأكدي للمنطقة (للكيانية الجغرافية) التي هاجروا إليها والتي تقع فعلا بين نهرين مثلها مثل بلاد الرافدين الأكبر والأقدم، مثلما ورثوا أسماء الأنهار والروافد وهي أسماء أكدية مثل الفرات وبليخ والخابور؟
هوية مملكتي الحضر والرُّها
يخلط بعض الباحثين المعاصرين - للأمانة العلمية، فقد وقع كاتب هذه السطور في هذا الخلط حين أورده مقتبساً عن بعض المصادر دون تحفظ أو تفحص نقدي (الأخبار - عدد 27 نيسان 2022)، يخلطون بين مملكتين قديمتين نشأتا في شمال بلاد الرافدين (الجزيرة الفراتية)، ويطلقون على كل منهما مملكة "عربايا"، وتعني وفق التفسير الأشيع "العربية"، وهما مملكة الرُّها / أورهاي / أسروينا / أدمة (عمَّرت بين 132 ق م، و214)، وتقع اليوم داخل حدود تركيا المعاصرة، ويسمونها باللغة التركية "أورفا"، ومملكة الحَضَر جنوب الموصل في العراق (عمَّرت أقل من قرن بين 185م و241م). فهل نحن إزاء مملكة واحدة أم مملكتين مختلفتين، أم أن هذا الاسم يشمل هذه المنطقة ككيانية جغرافية واحدة نشأت فيها هاتان المملكتان اللتان يصفهما بعض الباحثين بالعربيتين، فيما يصفهما البعض الآخر بالآراميتين والسريانيتين وينفي أي علاقة لهما بالعرب؛ فما هويتهما وموقعهما الجيوسياسي بين الدول العربية وغير العربية القديمة شمال الجزيرة العربية في ذلك العصر كدول الغساسنة والمناذرة وكندة وتدمر وسلع "البتراء"؟
وردت كلمتا عربي وعربايا بملفوظات مختلفة في الكتابات المسمارية الرافدانية، فكلمة عربي، كما يخبرنا عبد الحق فاضل في كتابه "مغامرات لغوية ص 17"، ترد بالملفوظات التالية: عَرَبي – عَرْبي – عُرْبي – عرِبي - عَرُبي. ونضيف أنها وردت أيضا بلفظ "آريبي /آريبو" في اللغات التي ينعدم فيها حرف العين. أما الصفة، التي ربما تطورت إلى اسم علم للمنطقة فوردت بلفظتين: عَرَبيا – عرابايو. كما وردت في اللغة الآشورية بلفظة آريبو كصفة لقائد حربي هو "جنديبو آريبو/ جندب العربي" الذي شارك بجيشه من الهجانة على الجمال في معركة قرقرة سنة 853 ق.م، ضمن تحالف من أثني عشر ملكا لدولات المدن بقيادة الملك الآرامي بن حدد الثاني ملك دمشق، ضد جيش الإمبراطورية الآشورية بقيادة الإمبراطور شلمنصر الثالث. وما يهمنا هما لفظتا عربايا وعرابايو واللتان تدلان على مسمى أو موصوف واحد، وقد يكون هو نفسه، أو شبيها بالذي أطلِقَ على شبه الجزيرة العربية في عصر الفتوح الاستعمارية وربما قبله بكثير ودخل في القواميس الجغرافية والسياسية بلفظة "العربيا" (Arabie/ Arabia) وما يزال مستعملا حتى الآن.
يمكن القول إنَّ المعطيات التاريخية والجغرافيا والآثارية تؤكد وجود مملكتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى؛ الأولى والأقدم هي مملكة الرها "أورهاي"، فأول ملوكها هو أريو (132-127) ق.م، وآخرهم أبجر العاشر إبراهاط (يقرأه بعض الباحثين فرهاد) بن معنو242-240 م، وقد حكم بالاسم فقط تحت الهيمنة الرومانية، والثانية والتي نشأت بعد الميلاد هي مملكة الحضر وأول ملوكها ولجش (158- 165 م) وآخرهم الملك سنطروق الثاني بن عبد سميا/ والأدق؛ عبد سميسا، نسبة إلى الرايات المقدسة التي كانوا يسموها الـ "سميسا" التي كانت من معبوداتهم (200-241 م).
لا يقتصر الأمر على مملكة الرها في هذه المنطقة، بل ثمة العديد من الممالك والإمارات الأخرى الناطقة بالآرامية، يحصي منها طه باقر ست ممالك أو إمارات مدن هي: نهرايا "أرام نهرين"، فدان آرام ومركزها حران، آرام صوبة، آرام معكة في جبل الشيخ، آرام دمشق، دولة سمأل "الشمال" في إقليم زنجرلي، إضافة إلى هذه الممالك والإمارات ثمة أخرى أصغر مساحة وأقرب الى المشايخ والبيوتات منها: بيت أغوشي، بيت بحياني، بيت أديني وغيرها"/مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. م.س - ص 543. أما الباحث الهولندي وأحد الأسماء اللامعة في حقل الدراسات الآرامية، البروفيسور هولْغَر غزيلا (Holger Gzella) فيذكر الإمارات الآرامية الأولى في الفرات الأوسط من دون أن يذكر بين نهرين بينها وهي تيمانا، بيت بحياني، بيت زماني، بيت عديني، والإمارات الشمالية بيت أغوشي، يأدي، والإمارات الوسطى والجنوبية حماة، دمشق، صوبا، رحوب، ومعكا- مقابلة معه / موقع ضفاف 18 كانون الأول 2017. وقد فشلت هذه الممالك والإمارات في أن تتوحد في دولة قوية وتعرضت جميعها للسحق والتهجير من قبل الدولة الإمبراطورية الآشورية المجاورة لها وخصوصا في عهدي ثجيلات بلازر وشليمانصر ثم إلى الاحتلالات الفارسية فالإغريقية فالرومانية حتى جاء عهد الفتح والتحرير العربي الإسلامي.
ولكنَّ الآراميين رغم هذا الفشل سياحضاري، نجحوا - كما يسجل طه باقر وآخرون - في إنتاج تراث ثقافي ولغوي عريض فاق تراث جميع الأمم والشعوب السابقة لهم في المنطقة، حيث تحولت اللغة الآرامية إلى لغة دولية في شمال غربي آسيا، وأنجزوا الثورة الكتابية الثانية بعد أن أنجز الرافدانيون الجنوبيون الثورة الأولى بابتكارهم الكتابة المسمارية على الطين، أما الثانية فكانت الانتقال الى الكتابة الأبجدية على ورق البردي وجلود الحيوانات وقد أصبحت اللغة الآرامية هي لغة العلم والثقافة والدولة منذ الدولة الأكدية الحديثة " الكلدانية" واستمرت خلال فترة الاحتلال الفارسي لبلاد الرافدين والشام وبلوغه وادي النيل.
أما نسبة ابتكار الكتابة على الجلود وورق البردي إلى الدولة الفارسية في زمن داريوس الأول، كما ذكرنا سهوا ذات مقالة، فليس صحيحا، بل إن هذه الدولة استعملت الإنجاز الآرامي الموجود قبلها، وحدث ذلك بموجب قرار الملك الفارسي باتخاذ الآرامية لغة رسمية للدولة/آرامية العهد القديم. ص24 - د. يوسف متي قوزي. وفي عهد داريوس كان اليهوذاويون المسبيون في بابل، قد تخلوا عن أبجديتهم القديمة وكتبوا أجزاء من التوراة وخاصة سفر عزرا وأجزاء من سفر دانيال باللغة الآرامية وأبجديتها ذات المربعات. وماتزال هذه الطريقة في الكتابة قائمة حتى اليوم (ويسمونها في "إسرائيل" الحروف العبرية المطبعية وينكرون أنها آرامية).
وفي السياق، فمن المؤسف حقا أن يخضع بعض العرب والآراميين المعاصرين للابتزاز الصهيوني فيتخلون عن استعمال هذه الأبجدية الآرامية المربعة وعن اسمها - كما حدث في المعهد العالي لتعليم اللغة الآرامية في بلدة معلولة بسوريا قبل سنوات قليلة. لقد تراجع المعهد السوري المذكور عن اعتماد الأبجدية الآرامية المربعة لأن الصهاينة في الكيان - كما قيل في التبرير- استولوا عليها ونسبوها لأنفسهم، وكان الأجدر بالقائمين على المشروع أن يتمسكوا بأبجدية أجدادهم ويفضحوا لصوص الحضارات الصهاينة المعاصرين لا أن يتحولوا عنها إلى أبجدية إحدى لهجاتها وهي الأبجدية التدمرية الأحدث عهداً، فهذا أمر لا يمكن وصفه إلا بالخضوع للابتزاز الصهيوني واستسلام مجاني له.
إن كتابات اليهوذاويين المسبيين في بابل القديمة، والتي يسميها د. متي قوزي "العبرية" لم تكن "عبرية" إلا على سبيل التشبيه والمجاز؛ فالتوراة نفسها كانت تسمي اللغة تكلم بها بنو إسرائيل في فلسطين "شفة كنعان" أي اللغة الكنعانية، أما ما يسمى باللغة العبرية (لاشون عبريت = اللسان العبري)، كما تكتب الباحثة الجزائرية هاجر شيخي في دراستها الموسومة "الكنعانيون وتأثيرهم على اليهود /ص 41"، فلم تظهر كمصطلح إلى الوجود إلا مع البدء بتدوين المشناة "المثنى" كتفاسير توراتية في القرن الثالث الميلادي، وتخلُص شيخي إلى أن العبرية هي في الحقيقة لهجة من لهجات اللغة الآرامية، ورغم تسميتها اللغة العبرية فهي لم تكن لغة "جميع العبريين" بل لغة فرع منهم هو فرع بني إسرائيل (أبناء يعقوب).
والملفت أن الباحثة شيخي، وبعد كل ما أوردته من معلومات دقيقة عن اللغة والكتابة الكنعانيتين، تعود لتستعمل عبارة "الخط العبري" و "الكتابة العبرية" و "القلم العبري" على الصفحة ذاتها، ومن دون أن توضح إن كان الأمر يتعلق بلهجة عبرية اتخذت الكتابة الكنعانية قلما لها أم لا! ولكنها، ولحسن الحظ، تعود في خاتمة بحثها لتسجل الحقيقة الآتية: "تفرعت اللغة العبرية من الفروع السامية القديمة ومنها الأوغاريتية وسائر اللغات الآرامية القديمة وتدوين التوراة باللغة الآرامية، إذ إنهم لم يستعملوا غير لغة الكنعانيين في مراحلهم التاريخية، والتي صاغتها التوراة فيما بعد إلى ما سمي بلغته العبرية مستمداً حروفه من الحروف الأبجدية الآرامية المربعة - ص 43". أما آثارياً، فالأمر أكثر وضوحا؛ إذْ أن جميع الأدلة التي عثر عليها العلماء "الإسرائيليون" وغير الإسرائيليين في عصرنا، وهي شحيحة ونادرة أصلا، تؤكد أن حروف ما سمي باللغة العبرية القديمة لم تكن تختلف في شيء عن الأبجدية والحروف الكنعانية الأم، شأنها شأن لهجات كنعانية عديدة أخرى كالفينيقية والعمونية والمؤابية والأدومية.
وقبل أن ننتقل إلى الفقرة التالية لنتذكر أن بيت نهرين أو نهاريا قد ورد اسمها كواحدة من الممالك الآرامية في الشمال وهي ليست أعظمها قدرا وقيادة فالقيادة كانت منوطة تأريخياً بمملكة آرام دمشق وملكها الشجاع بر هدد "بن حدد" الذي قاد حرب التصدي للغزو الآشوري.
أما من ناحية الهوية الحضارية "الثقافية" للمملكتين -الرها والحضر- فالراجح أن مملكة الرها كانت ثنائية القومية مع غلبة للآراميين أما الحضر فكانت ذات غالبية عربية ولغتها المكتوبة هي الآرامية التي حلَّت بأبجديتها الصوتية السهلة محل الكتابة المسمارية المقطعية الرافدانية المعقدة وصارت سائدة في الشرق الجزيري "السامي" آنذاك وحتى في دول فارس، أو هي هوية عمادها مزيج حضاري من العربية والآرامية. وسوف نركز كلامنا في هذا الجزء القادم من هذا المبحث على هاتين المملكتين مؤجلين الحديث حول ممالك أخرى جنوباً كتدمر وسلع والغساسنة والمناذرة وغيرها.
***
علاء اللامي - كاتب عراقي