قضايا
محمود محمد علي: كيف شَخصّ ابن سينا مرض البدانة؟
لقد برزت الحضارة العربية – الإسلامية بدور مؤثر في تطوير الرعاية الصحية، حين أدرك العديد من الأطباء العرب الآثار السيئة للعادات غير الصحية، كذلك أهمية الرياضة والسباحة واتباع نظام غذاء صحي، وتنظيم النوم للحفاظ على صحة جيدة، وهي مفاهيم تتشابه إلى حد كبير مع الطب الوقائي.
وقد جميع أبو بكر الرازي في كتابه " الحاوي في الطب" المعلومات المتاحة آنذاك حول السمنة، بالإضافة إلى آراء العلماء الذين سبقوه فيما يتعلق بالسمنة المفرطة، وأساليب التحكم بها. ووثق الرازي نقاشه باستخدام تقارير الحالات السريرية لمرضي السمنة، ممن نجح علاجهم، وذكر تفاصيل العلاجات المستخدمة والتي شملت نظامًا غذائيًا صحيًا، وأدوية، وتمارين رياضية، وعلاجًا مائيًا، وتغيير نمط الحياة.
كما يعد اين سينا الأكثر شهرة من الأطباء العرب اهتماما بداء السمنة، ففي كتابه " القانون في الطب " قد خصص الجزء الثالث منه ليناقش خطورة السمنة المفرطة وصنفها كمرض يمكن معالجته بممارسة التمارين الرياضية، وتناول الأطعمة الخالية من الدهون.
ومن أهم ما ورد في علاج السمنة ما جاء على لسان ابن سينا في القانون في الطب: “ومن أنفع الأشياء لأكثر من يفرط في السمن هو استعمال الأدوية الملطفة (وهي القوية جدا في إدرار البول) والاستفراغات (الإسهال والقيء وخروج الأبخرة والعرق) فإنها تفعل في الأخلاط ثلاثة أفعال، كل فعل منها يعين على التهزيل، من ذلك ترقيق الخلط فيهم، وإبعاده عن الانعقاد، وتعريضه للتحلل، ومن ذلك أنها تدرّ وتحرك الأخلاط إلى غير جهة العروق، ومنها أنها تفيد الدم كيفية حادة غير حبيبة إلى القوة الجاذبة… فتدبير التهزيل هو ضد تدبير التسْمين وهو تقليل الغذاء وتعقيبه الحمّام والرياضة الشديدة مع تبعيد وجعله من جنس ما لا يغذو أو من جنس ما غذاؤه يابس أو حريف أو مالح مثل العدس والكوامخ والمخلّلات… وليكن خبزهم خبز الخشكار وخبز الشعير…وليكن طعامهم وجبة.
ومن أقوال ابن سينا في السمنة :" ليس ثمة معجزات، بل هو العلم والإرادة، أما العلم فهو في كتب الأطباء، وأما الإرادة فهي مغروسة في البشر، فإن يعينوا أنفسهم بها، لم يستطع الطبيب عونه، ولهذا نظروا للبدانة على أنها داء، بل هي أصل الأدواء، ولكن لم يوقنوا أن البدانة تعود أسبابها مما لا حيلة للرجل فيه.. القاعدة الأولى أن يدع المريض مخادعة نفسه، فلا بنسب الداء إلى سبب متحكم لا قبل له به ليبرء نفسه من المسئولية.. إن في الجسم مضغة أو غدة تتحكم في إنفاق الطعام في الجسم ونشاطه وحركته، فإن كان الغذاء على قدر الحاجة والحركة،وكانت هذه المضغة على حالها القويم، كان الجسم في عافية من الهدنة أو النحول الزائد عن القصد، إلا أن تكون في أبدانُا وأحوالًا أنشط منها في عامة الخلق فيظهر النحول وإن زاد الطعام، وإذا كانت خاملة بأصلها، أو بطارئ استقر أثر الطعام الزائد في الجسم حتى يصير شحمًا بركم بعضه بعضًا.. ومن عواقب التخمة المتصلة والشراهة المفرطة وإدخال الطعام على الطعام، مع قلة النشاط والحركة خمول تلك المضغة، وبذا تصير البدانة سببًا في إخمادها، ثم بصير إخمالها سببًا في زيادة البدانة، وتلك عي الدائرة المغلقة كما يقول المناطقة.
كذلك اعتبر ابن سينا مزاج السمنة بلغمي، فانطلق من مبدأ التضاد في شفاء الأمراض، وقد عالج السمنة بالنباتات الحارّة اليابسة، وتصوّر أن القوى الفاعلة في التهزيل في الأفعال الجوهرية التالية: التسهيل والإدرار والتعريق والهضم والتقطيع والتفتيح والتّحليل والجلي والإنضاج والتلطيف والتجفيف والتقوية.
ولقد ذكر ابن سينا السمنة ومزاجها في كتابه القانون فقال: “إن السمن المفرط قيد للبدن عن الحركة والنهوض والتصرف، ضاغطا للعروق ضغطا مضيقا لها فينسد على الروح مجاله، وكذلك لا يصل إليهم نسيم الهواء فيفسد بذلك مزاج روحهم ويحدث بهم ضيق نفس وخفقان، وهؤلاء معرضون للموت فجأة وللسكتة] والفالج وهم لا يصبرون على جوع ولا على عطش بسبب ضيق منافذ الروح وشدة برد المزاج وقلة الدم وكثرة البلغم.
ويؤيد ابن النفيس ما ذهب إليه ابن سينا حيث نجد يقول في كتابه «شرح تشريح قانون ابن سينا»،:" السمنة تقيد الإنسان وتحد من حريته في النشاط، وتتسبب السمنة في تضييق الهواء، وقد لا يتمكن الفرد من التنفس، فيعاني من بحة الصوت أو الخفقان. كما يتعرض الشخص البدين لخطر تمزيق الأوعية، مما يؤدي إلى نزيف في تجويف الجسم والدماغ والقلب، والتي من شأنها أن تؤدي إلى الموت المفاجئ ".
كما تحدّث ابن النفيس أيضا في مؤلّفه الموجز في الطب فقال:… وأمراض المقدار صنفان، فأمّا بالزيادة أو بالنقصان، وكلّ واحد إما عام أو خاص، كالسّمن المفرط… ثم قال: … وقد عرفت أن اللحم هو متين الدم وكثرة الشحم والسمين الرطوبة والبرودة لأن البرودة هي التي تعقّد مائية الدم وتُصَوِّرُهُ بصورة الشحم والسمين … كما عرّف مادة الشحم بقوله:… ومادّة الشحم كما علمت هي مائيّة الدم.
***
أ.د محمود محمد علي
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
........................
المراجع
1- ابن النفيس، شرح تشريح القانون لابن سينا، الجزء الأول.
2- ابن سينا، القانون في الطب، فصل في عيوب السمن المفرط.
3- أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، الحاوي في الطب، الجزء الثاني.
4- أحمد توفيق حجازي، موسوعة الطب الشعبي والتداوي بالنباتات والأعشاب، دار البدر للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر.
5-شحاته القنواني، تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعصر الوسيط، دار أوراق شرقية، الطبعة الثانية، بيروت، 1996.