قضايا
الحسين بوخرطة: الحداثة وسلطة العلم والهندسة والذكاء الاصطناعي
انتصرت العلوم كونيا وتكسرت وتفتت أسس الخطابات التقليدانية العاطفية والحماسية الواهية. تم إعلان انتصار العقل. السلطة التقديرية للدول المتقدمة، المتصارعة مصلحيا تارة والمتوافقة تارة أخرى، اكتسبت ما يكفي من الخبرات لتشخيص استعدادات الشعوب لركوب قاطرة التطور العالمي بشعبه العلمية والهندسية وتفاعلها القوي مع العلوم التكنولوجية والذكاء الاصطناعي. هذا الأخير يتطور بسرعة فائقة كل يوم مثبتا أوضاعا اضطرارية تفرض واقعا متطورا يجعل الأفراد والجماعات أمام إجبارية رفع تحديات التخلي على أنماط تفكير سابقة والتسابق لفهم وإثمار الأنماط الجديدة.
لقد تقوى التلاحم بين العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي إلى درجة كبيرة. لم يعد الوقت يسمح بالتراخي والمسايرة. الأسرة أصبحت مطالبة بالتفكير المستمر المتفاعل مع ميولات فلذة أكبادها واضعة نصب أعينها حلم التفوق في انتقاء تخصصات تخدم مستقبل أبنائهم ومجتمعهم.
والحالة هاته، وجدت نفسي هذه المرة أمام إشكالية تحليل منحى تطور الترابط والتفاعل بين العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي زمن ما بعد الحداثة (العشرية الثالثة من الألفية الثالثة).
تشكل العلوم القسم الأكبر والهام من أقسام المعرفة. مكانة كل علم أصبحت مرادفة لقدرته على مراكمة المعلومات والمعارف المتطورة ذات طبيعة تمكن الإنسان من فهم الكون الشاسع وضمان الحفاظ على شروط العيش فيه بسلام وطمأنينة. الالتزام بالتفكير العلمي من أجل الفهم واكتشاف المزيد من أسرار الحقائق المطلقة أصبح مؤشرا أساسيا لاستشراف مكانة الفاعل في وطنه وإقليمه وجهته. لم يعد هناك سبيل أمام الفرد البشري سوى الانخراط في العقلانية التي تقوده إلى تطوير فهمه ونظرته للحقائق الكونية وللتفاعلات والاستراتيجيات العالمية.
الانطلاقة بالنسبة للمتعلم لا يمكن أن تتم إلا من خلال الانخراط الواعي في استيعاب قوانين الشعب المعرفية المجردة والإلمام بتراكماتها النظرية والتطبيقية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك ...). إنه شرط النجاح في اكتساب المهارة والكفاءة في ممارسة المهن الهندسية. إنهما القطاعان (العلوم المجردة والهندسة) اللذان تحديا كل العراقيل، وتمكنا من التفاعل المثمر القوي، ليخرج من رحمهما ما نسميه اليوم بالذكاء الاصطناعي المبهر. بهذا التطور، تحول التفاعل بين التشخيص المرئي بحمولته النفسية والروحية والتفكير العلمي إلى مصدر فوار لإنتاج النظريات والتفسيرات التطبيقية، والوصول إلى مستويات عالية من الخلق والمنفعة والاستفادة. لقد تيسرت أمام الإنسان إمكانيات اكتساح الطبيعة وسبر وفهم أسرار أغوارها. انطلاقا من الملاحظة وإشكالياتها وفرضياتها المعرفية المعقدة، تتبلور الفكرة والتجربة والاستنتاج، وتستخلص النظريات الجديدة.
لقد تحولت بقوة الواقع تربية الأجيال على التفكير العلمي إلى خيار وحيد لكل من يطمح لتطوير انشغالاته المدرة للدخل، وبالتالي الإفلات من وضعيات الركود والإشباع المرادفين لتهميش الكفاءات في عصرنا. وصول بعض التخصصات إلى حد الاكتفاء في سوق الشغل وعدم القدرة على خلق مناصب جديدة ليس قدرا محتوما بقدر ما ترتبط هذه الآفة بتفاقم التقاعس في التفكير والاختلال في تدبير الوقت. ما حققه الإنسان من ابتكارات وكشوفات في علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء والاقتصاد والهندسة وعلم النفس والطب والصيدلة ... لا زال ضعيفا مقارنة مع حجم ما تختزنه الطبيعة وما يتوارى في الكون من حقائق مطلقة لا تعد ولا تحصى. كل العلوم تحتاج إلى مواكبة دائمة ومتابعة متواصلة لتجعل من التطور المعرفي والتكنولوجي عقيدة تتحكم في سلوك الأفراد والجماعات. التشبع بالتفكير المستمر في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك يعتبر في هذا الزمن دعامة قوية للنجاح. لا يمكن للفرد أن يغامر في تفسير القواعد والقوانين العلمية والسعي إلى تطبيقها على أرض الواقع بدون اكتساب الأدوات المعرفية للتفكير المجرد. إضافة إلى ذلك، أصبح الشباب يجدون أنفسهم أمام شعب هندسية متطورة بفعل تلاحمها المبهر مع التكنوجيات المتطورة. الرقمنة والروبوتات والذكاء الاصطناعي اكتسح وبدون رجعة كل المهن الهندسية: الهندسة الإنشائية والفنية، والهندسة المعمارية، والهندسة المدنية، والهندسة الكيماوية والصناعية والبيئية والميكانيكية، والطب بمختلف تخصصاته، والصيدلة، والهندسة الطاقية، والهندسة الزراعية والبيطرية، والهندسة النووية، والهندسة الكهربائية، والهندسة التجارية .....
الكل يتحدث اليوم عن القوة المتصاعدة لتلاحم العلوم والهندسة والذكاء الاصطناعي. الحداثة لم تعد اليوم مجرد خطابات ونقاشات وموضوع صراعات إيديولوجية. بفعل طبيعة الإبداع والاختراع ومهارات التواصل وصناعة القرارات والسياسات الجديدة تَشَكَّل وعي عالمي جديد أبكم أفواه رواد التقليد بشكل نهائي.
التطورات السريعة فرضت على الجميع إجبارية الارتباط اليومي بالتفكير الإبداعي والخيال المنتج والشغف للعمل الميداني المسؤول والقيام بالواجب بمهارات التخطيط والتنظيم، وبالتالي العمل بالصبر المطلوب لاكتساب الحق في التموقع بمعية المتميزين أكاديميا ومهنيا.
***
الحسين بوخرطة