قضايا
مقاومة الانحطاط
"الفهْم الحُر للانحطاط وممارساته الفردية أولُّ درجاتِ المقاومة ..."
أنْ تفهم معناه أنْ تقاوم نتيجة الوعي الحُر بالأشياء والأحداث والظواهر. والوعي مرتبطٌ دائماً بالمعرفة والقدرة على تحديد المواقف والأفعال. والفهم هو حيويتنا الإنسانية على أنْ نقول " لا " بملء الكلمة. فلا يُوجد فهْم يقول" نعم" على الدوام، لأنَّ كل فهم يقوم في جوهره على النفي لا الإثبات، على الرفض لا القبول والتسليم. والإنسان الذي يريد أنْ يفهم يستطيع بسهولةٍ مقاومة كل آفات التسلط والقمع، لأن عقله لا يتواطأ مع متغيرات وأفكار مفروضة، بل يبحث عما يُحرر ذاته. وهذا ما نحتاجه بصدد ظاهرة الانحطاط وممارساته السلبية الغالبة في المجتمعات المعاصرة. والفهم دعوة نقدية مفتوحة إلى معرفة: ماذا يعني الانحطاط، وكيف يتشكل لدى الأشخاص؟!
يبلغ الانحطاطُ مداه عندما يتجسّد في صورة فكرةٍ أو سلوكٍ أو عملٍّ. ولكنه لن يجد قدرةً على المزيد دون أنْ يتبناه أشخاص بعينهم. وبخاصة أنَّه من غير المعقول أنْ تنحدر المجتمعات برمتها نحو الانحطاط أو تجعله هدفاً لها. فالانحطاط قد يكون عابراً أو قابلاً للزوال بحكم كونه منطوياً على البُعد العرضّي. ذلك أنه حالة تستغرق صاحبها إذْ يعطيها الشخص صورتها الفعلية. هو الشخص- العلامة على وجودها وممارسةِ دلالتها، ولذالك سيجد كلُّ انحطاطٍ أصداءً لدى أشخاصٍ يميلون إلى التعبير عنه.
والفارق كبير بين الانحطاط المادي (الجمعي) والانحطاط الفردي (الشخصي)، الأولُّ يعبر عن ضعف وتدهور الشروط الموضُوعيّة لتطور المجتمعات، فتكون فريسةً للتقهقر والتراجع الحضاري، وهو حصيلة تراكم تاريخي لعوامل الضّعة والتخلُّف. بينما الثاني يُمثل ميولاً وأفكاراً وتوجهات لدى بعض الإفراد لجني المصالح والإستفادة من الحالة القائمة. ويصبح ميلاً واعياً لدى هذا الشخص أو ذاك طالما يحقق المكاسب ويشبع مآربه المتدنية، ولذلك سيفعل أيَّ شيءٍ من أجل الوصول إليها وينحطُ إلى درجةٍ قميئةٍ بقدر ما تكون أهدافُه قريبةً!!
واللافت أنَّ هذا الشخص الذي يُنذر نفسه للانحطاط يصرُ إصراراً على ذلك، وكأنَّ الإنحطاط قدرٌ لا مفر منه، وكأنه يعرف ما يُضمر من نزوع نحو السقوط الإنساني أمام الناس. ولمزيد من الإيهام والخداع، يتطلع المنحط خلسة إلى مرتبة عليا ليست له، بينما هو يتدنى أكثر وأكثر، حتى يصل إلى الحضيض. الانحطاط حزمة خصال نفسية وسلوكية تتوافر في شخصٍ، فتهبط به إلى أدنى مؤشر للإنسانية. مثل عدم تقدير الآخرين والتوقح في التصرفات وثقل الظل والتمسك بالصغائر والتوافه واهتبال الفرص. فلا يرى في الإنسان الآخر إلاَّ مجرد" فرصة استغلال ". لو تمكن المنحطُ من الآخر لإفترسه افتراساً ولجعلّه كعصفٍ مأكولٍّ. ولن يلتفت إلى إهدار كرامته وتقديره لذاته، لكن يهمه بالمقام الأول الإستفادةَ من ورائه بأبخس الأثمان. المنحط يُلّخص أفعاله في قضية بارزةٍ هي: كيف أصنع من الآخر وسيلة إنتفاع واستعمال ليس أكثر؟!
الانحطاط يمثلُّ الجانب الخبيث والشرير بنعومةٍ من طبائع البشر، حتى أنَّه يأخذ البعض إلى مرحلة التداعي المُريع. ربما لكون الإنسان يبني حياته على أوهام أو أنه يُصّر اصراراً على فساد مواقفه أو أنه يمارس أفعاله بشكل حيواني. والحيوانية تتجلى في رغبة أحدهم للسيطرة على المحيطين مثلما يسيطر ذكر القطيع على الحيوانات الأخرى. والحيوانية بالمثل تتجسد في توجهاته الاستعراضية بالتزييف وسرقة وعي الناس، على غرار ما ينتفخ الذكر أمام الإنات لنيل القبول منهن، والتعبير عن قدراته لعله يحظى بالإعجاب.
يشير الانحطاط إلى التدهور والتقهقر نحو اللاأخلاق. ولئن كانت تلك الحالة موجودةً في شخص، فإنه يفقد أصالته ويغدو موضوعاً للتزييف والإفتعال. ويعيش دائماً في دائرة الإدعاء والشعور بالإنتفاخ المعبر عن النقص والدونية لا الإمتلاء. وقد يكون الانحطاط مادياً في مظاهر ملموسة حين نرى قبح الواقع وتدني أخلاقياته، وقد يكون معنوياً عندما نشعر بالإهانات المتوالية من شخصٍ منحطٍ، وقد يكون رمزياً على غرار اقتناص الفرص للظهور والخداع.
الرمزية الأخيرة هي شعار المنحط في مجال الثقافة تحديداً، حتى بات الظهور نوعاً من خطف وعي المتابعين وتلويث أفكارهم وصناعة بطل من ورق ومثقف لاقيمة له. يقال إنَّ شيئاً قد انحط من علٍّ، أي قد إرتكس وسقط من إرتفاع لم يكن ليبلغه بالإصالة. ولهذا يحاول أنْ يدور في عجلة التراجع إلى منتهاها، ودون أنْ يقدم شيئاً ذال بال، يطلبُ من غيره أنْ يعطونه مكانةً لا يستحقها. وعدم الاستحقاق هو جوهر يجب الإعتراف به في مثل هذه الحالات، لأنَّ المثقف يجب أن يكون مثقفاً حقيقياً لا مزيفاً، مُبدعاً لا مقلداً، أصيلاً لا مُلفقاً، حُراً لا متسلطاً. وإذا لم يكن كذلك، سيكون مصدراً للانحطاط الثقافي بالضرورة.
في هذا الإطار هناك قضيتان:
القضية الأولى: هي قضية أنَّ داعية الثقافة المُزيف يُصدِّق نفسه، ربما يكون التصديق حالةً مرضيةً نتيجة الهوس بالذات ونرجسية قميئة لا يرى غيرها. ولكن هل يبلغ الوهم بأحدهم أنْ يعيش هذا الدور عاملاً على تضخيم ذاته بلا حقيقة؟! طبعاً الأمر كذلك، بل نتيجة كونه يعيش حالة مزيفة، فمن الممكن أنْ يتكلم عن الأخلاقيات والقيم كأنه داعية بالفعل. ويمارس الخطاب الديماجوجي نفسه من التمحك والتنطع والمداهنة والتمسح بالعقول سعياً لإستعمال الناس أو الإيقاع بهم عند اللزوم.
والانتقال هنا بالنسبة للمنحط لا تعوزه الفكرة: من حالة "وهمٍ مبين " إلى " يقين مفتعل " بأنه أصيل رغم التزييف المتواصل. وهو الشخص الذي لو فكر قليلاً لأدرك أن حجمه ليس كذلك بناء على معايير موضوعية. ولكن المنحط لا يلقي بالاً بالأشياء الموضوعية، فهو منذ الوهلة الأولى يبني حول نفسه جداراً من الصمت طالباً من المحيطين به الإعجاب المجاني. وتلك الفكرة تأخذه إلى التمسُّح بالعبارات اللزجة، وترديد المواقف والكلمات المتمحورة حول ذاته وأفعاله دون واقع حقيقي. يا لهذه السذاجة المعبرة عن خداع الذات إلى أبعد مدى!!
القضية الثانية: أنْ ينخدع البعضُ بهذا التضخم (الورم) المزيف، وأنْ يُستكتب سواه للإشادة بما هو غير حقيقي فيه، سواء أكان تكلفاً أم تخبطاً أو انخداعاً. والمبالغة في بابٍ كهذا صنفٌ من الجهل المضاعف الذي هو وليد مُناخ التخلُّف الفكري وعدم وجود أصالةٍ حقيقيةٍ. ولذلك يحصد المنحطون الأواخر ما زرعه المنحطُّون الأوائل!! وجميعهم في مناخ " الوباء الثقافي " سيّان، أحدهما يُخدّم على الآخر معتقدين أنهم يقدمون شيئاً جديداً.
والحقيقة أنَّ القضيتين ما كانتا لتظهرا لولا تغلغل مُناخ الجهل داخل المؤسسات الأكاديمية والعلمية وأروقة الثقافة ومنابر الفكر وبين الفئات الاجتماعية المختلفة. لأنَّ ظاهرة الانحطاط التي تسمح بـ" الأورام الثقافية " أنْ تتجلى وتستفحل دون تقلُّص لهي ظاهرة في: كيفية وجود ثقافة الإبداع وفهم معايير الأصالة وبنائها.
ولهذا يستغل المنحطُّون مُناخاً موبوءاً بالقمع لينالوا الرواج واللهاث وراء الشهرة والانتشار. والمنحطون يفهمون أنَّ مجرد العبارات الرنانة يعطيهم موهبةً أو قدرة على التعبير، ولكنه فهم مشوّه لحقيقة أنَّ الانتشار ليس إلاَّ بقدر ما يشكل الجهل فراغاً ثقافياً واضحاً. وما ينطبق على الناس كمتلقين للممارسات في المجتمع ينطبق بالمثل على أصحاب ميول الانحطاط. فالعبارات والكلمات الزاعقة مظهر لخواء لا حدود له، إنّه صوت الصدى لحالة التنطُّع الفكري الراهن.
وإذا أفسحنا الرؤيةَ قليلاً، لوجدنا أن الانحطاط جزء من ترسانة الفساد والقهر في المجتمعات البشرية، لكونه أحد مفردات الخنوع وممارسة التسلط الفج. فالمنحط إعتاد داخلياً على الخنوع لغيره ولو بشكل مقلوب. لأنه رأي عدم إمكانية مقارعة الآخرين تأثيراً ورمزية، فما كان منه إلاَّ أنْ اختار طريق التدني، حتى ينال ما يريد. ويمارس التسلط (المعكوس) على الناس الأقل منه مكانةً منتفخاً بلا قيمةٍ ولا أصالة. وفي بعض المواقف يبادر بنفسه لممارسة الانحطاط بشكلٍّ يدعُو للغثيان، والناس من فرط تلقائيتهم يعتبرون ذلك لوناً من العلاقات بينما هو عين الإهانة. لأنَّهم في كلِّ الأحوال مجرد موضوع يعتبره المنحطُّ قد مَرّر بواسطته ما يُريد، وأنهم قد ابتلعوا نواياه وامتثلوا لتوجهاته غير الإنسانية.
إنَّ طريق مقاومة الانحطاط هو طريق الفكر المستنير وحرية القول. فأن تتثقف على نحو حقيقي وبشكل فاعل يعني أنك لا تقبل الانحطاط مصدراً وممارسةً. وأنك لن تلتفت إلى المنحطين، عندما يطلبون منك رواجاً لبضاعتهم الثقافية الفاسدة. لأنَّ انجرارك وراء هؤلاء هو خنوع راهن لن يجر إلاَّ مزيداً من التنازلات. والمنحطُّون لن يرضوا أقل من انتهاك معنى الإصالة فيك، بل كل همهم هو الوصول إلى قتل أية أصالة في الحياة والثقافة عموماً حتى تتساوى الرؤوس. فلا يشيدُ بمنحطٍ إلاَّ منحطُ مثله وعلى الخط نفسه من التدني.
المقاومة لذلك التدني بالتبادل نمط من الفهم الكاشف لما يفعل المنحطُّون. ولهذا ليس هناك أكثر تأثيراً على المنحطين مثلما يؤثر فهمنا لما يصدر عنهم من أقوالٍّ وأفعالٍّ. وأنْ تفهم هذه الممارسات يعني إنطفاء وهج الإنحطاط وانزوائه مرةً أخرى. فلن تتقدم الثقافة دون التخلص من كل انحطاطِ يترصد الإنسانية فينا. والفهم هو الجدار الأول الذي يصطدم به المنحط من غير أنْ يتجاوزه، وأنْ يتم تعرية ألاعيبه الملتوية هو الباب الذي يتهرب من فتحه على الدوام. ومن ثمَّ، ليس يقتل المنحط أكثر من أنْ تكون واعياً بما يمارس وعارفاً بخريطة تحركاته. فهو ينتعش في أجواء" التغفيل والتجهيل " إلى أقصى مدى، لأنَّ السيطرة التي يحاول المنحط ممارستها على ضحاياه تتغذى على انعدام الوعي وغياب الاستنارة الحقيقية.
***
د. سامي عبد العال