آراء
خليل الحمداني: جيل Z أبناء الضوء الأزرق

بين التحوّل الرقمي، والاضطراب الوجودي، وعناق الذكاء الاصطناعي
1. مقدمة: ولادة في زمنٍ بلا فجرٍ ولا غروب
- في لحظةٍ تاريخية فارقة، حين كان العالم يودّع القرن العشرين ويستقبل الألفية الثالثة بمزيجٍ من الترقب والقلق، كان ثمة جيلٌ جديد يُولد على أعتاب ثورةٍ لم تُطلق رصاصة واحدة، ولم ترفع شعارًا في ميدان: الثورة الرقمية. هذا الجيل، الذي سيُعرف لاحقًا باسم "جيل Z" أو "الجيل الرقمي الأصلي"، ظهر في الفترة الممتدة بين منتصف التسعينيات حتى مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (1995-2010 تقريبًا)، ليس كمجرد فئة عمرية جديدة، بل كظاهرة أنثروبولوجية تستحق التأمل العميق والدراسة المستفيضة.
- إنهم أبناء الشاشة الأولى، الجيل الذي لم يعرف العالم قبل الإنترنت، ولم يختبر الحياة خارج فضاء الاتصال الدائم. تصف الباحثة الأمريكية جان توينغ في كتابها الرائد "iGen: Why Today's Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy" (دار نشر سايمون وشوستر، 2017، ص 4-7) هذا الجيل بعبارةٍ موحية: "ولد وفي يده شاشة، يعيش واقعه الافتراضي قبل الواقعي". هذه الملاحظة الثاقبة لا تقتصر على وصف علاقة تقنية بحتة، بل تشير إلى تحولٍ جوهري في بنية الوعي الإنساني ذاته، حيث أصبح الرقمي ليس مجرد أداة أو وسيط، بل فضاءً وجوديًا أوليًا يُشكّل الإدراك والهوية والعلاقات الاجتماعية.
- لكن ما يميز جيل Z عن سابقيه ليس فقط استخدامه المكثف للتكنولوجيا – فجيل الألفية (الميلينيالز) الذي سبقه كان أيضًا رقميًا بامتياز – بل طبيعة العلاقة الأنطولوجية مع العالم الرقمي. بينما "هاجر" الميلينيالز إلى العالم الرقمي، وتعلموا لغته كما يتعلم المرء لغة أجنبية، كان جيل Z "مواطنًا أصليًا" في هذا الفضاء، يتنفس أكسجينه الرقمي منذ اللحظة الأولى. هذا الاختلاف الجوهري يُفسّر لماذا يُظهر هذا الجيل مستويات غير مسبوقة من الطلاقة التكنولوجية والتعددية الرقمية، لكنه أيضًا يعاني من مستويات قلق واكتئاب أعلى من أي جيلٍ سبقه، كما توثق دراسة "الصحة النفسية للمراهقين في العصر الرقمي" التي نُشرت في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (JAMA Pediatrics, 2019, Vol. 173, No. 3, pp. 235-242).
- في السياق العربي تحديدًا، يكتسب جيل Z أبعادًا أكثر تعقيدًا وتشابكًا. فهذا الجيل لم يولد فقط في عالمٍ رقمي عابر للحدود، بل وُلد أيضًا في لحظة تاريخية حرجة يمكن وصفها بأنها "ما بعد الأيديولوجيا"، حيث تهاوت السرديات الكبرى التي هيمنت على الخطاب العربي طوال القرن العشرين: القومية العربية التي حلمت بوحدة من المحيط إلى الخليج، والاشتراكية التي وعدت بالعدالة الاجتماعية، والإسلام السياسي الذي رفع شعار "الحل". وفي فراغ هذه السرديات المنهارة، برزت هويات جديدة: رقمية، مرنة، هجينة، تتشكل وتتبدل مع الموجات الإلكترونية بسرعة مذهلة.
- يشير المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه الأساسي "التراث والحداثة" (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991، ص 233) إلى أن انهيار أنماط التفكير التقليدية يخلق بالضرورة "جيلًا جديدًا من الحسّ التاريخي"، وهذه الملاحظة تنسحب بدقةٍ مذهلة على جيل Z العربي اليوم. فهذا الجيل لا يحمل على كاهله أعباء الماضي الأيديولوجي، ولا يشعر بالالتزام نحو الولاءات الجماعية الصلبة التي قيّدت أجيال آبائه وأجداده. بدلاً من ذلك، يتحرك بحرية نسبية (وإن كانت محفوفة بقلقها الخاص) عبر فضاءات متعددة ومتداخلة: محلية وعالمية، واقعية وافتراضية، دينية وعلمانية، محافظة ومتحررة.
- وإذا كان الفيلسوف الفرنسي جان-فرانسوا ليوتار قد أعلن في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" (دار منشورات مينوي، باريس، 1979، ص 37) عن نهاية "السرديات الكبرى" في الغرب، فإن جيل Z العربي يعيش هذه النهاية بطريقةٍ مختلفة ومأساوية أحيانًا: فهو يشهد انهيار السرديات الكبرى دون أن تكون قد أنجزت مشروعها التحرري، ويدخل عصر ما بعد الحداثة دون أن يكون قد عاش الحداثة بشكلٍ كامل. هذا الوضع الملتبس – الذي يمكن وصفه بـ"ما بعد الحداثة المبكرة" أو "الحداثة المجهضة" – يضع هذا الجيل في موقعٍ وجودي فريد: بين عوالم متعددة ومتناقضة، عليه أن يصنع معناه الخاص في غياب الخرائط الجاهزة.
- لكن الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات التي لا تفارق أيديهم – والذي أعطى هذه الدراسة عنوانها – ليس مجرد ظاهرة فيزيائية أو صحية (رغم أن تأثيراته على أنماط النوم والصحة البصرية موثقة علميًا في دراسات عديدة، منها دراسة "التعرض للضوء الأزرق وإيقاعات الساعة البيولوجية" المنشورة في مجلة Nature Reviews Neuroscience، 2020، المجلد 21، ص 213-229). بل هو أيضًا استعارة مركزية لفهم وضع هذا الجيل: فالضوء الأزرق يمثل حالة من "اليقظة الدائمة"، حيث لا يوجد فجر حقيقي ولا غروب، بل استمرارية مضيئة لا تنقطع، تلغي الحدود بين النهار والليل، بين العمل والراحة، بين الخاص والعام، بين الحقيقي والافتراضي.
- هذا الجيل يواجه تحديات غير مسبوقة: من الانهيار المناخي الذي يهدد مستقبل الكوكب، إلى الاضطرابات الجيوسياسية المتصاعدة، إلى الأزمات الاقتصادية المزمنة التي تجعل الحلم بحياة مستقرة أشبه بالخيال، وصولاً إلى الأزمة النفسية والوجودية التي يعيشها في علاقته المعقدة مع الشاشات والهويات المتعددة. وفي الوقت نفسه، هو أول جيل يشهد ظهور الذكاء الاصطناعي كقوة تحويلية جذرية قد تعيد تعريف ما يعنيه أن تكون إنسانًا.
- إن فهم جيل Z ليس مجرد ممارسة أكاديمية أو فضول سوسيولوجي، بل ضرورة استراتيجية لفهم المستقبل القريب. فهذا الجيل – الذي يشكل اليوم ما يقارب ثلث سكان العالم العربي حسب إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2023 – هو الذي سيقود التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العقود القادمة. وعلى عكس الأجيال السابقة التي يمكن فهمها من خلال أطرٍ نظرية تقليدية، يتطلب جيل Z أدوات تحليلية جديدة، منهجيات بحثية مبتكرة، ونظرة شمولية تدمج بين علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا الرقمية والدراسات الثقافية.
- هذه الدراسة تسعى إلى تقديم قراءة نقدية ومتعمقة لهذا الجيل، ليس من موقع التمجيد الأعمى ولا من موقع الإدانة السهلة، بل من موقع الفهم التحليلي الذي يعترف بالتناقضات والتعقيدات. سنستكشف معًا كيف يعيد جيل Z تشكيل مفاهيم الهوية والانتماء والعمل والعلاقات، وكيف يتفاعل مع التقنيات الجديدة – خصوصًا الذكاء الاصطناعي – بطرقٍ تختلف جذريًا عن الأجيال السابقة.
2. النشأة: رحم الإنترنت وحليب العولمة
- لم تكن نشأة جيل Z مجرد تعاقب طبيعي للأجيال، بل كانت ولادة في رحم تاريخي استثنائي، محفوف بالتحولات الجذرية والانقلابات البنيوية التي أعادت تشكيل معنى الإنسانية ذاتها. فقد نشأ هذا الجيل وسط ثلاثة تحولات كبرى متداخلة ومتشابكة، شكّلت معًا المصفوفة الوجودية التي حددت ملامحه الأساسية، ورسمت حدود إمكانياته وأزماته في آن واحد.
2.1. الثورة الرقمية والاتصالية: من ندرة المعلومة إلى طوفانها
- التحول الأول والأكثر جذرية هو الثورة الرقمية والاتصالية التي جعلت المعلومة متاحة لحظة بلحظة، بل وحوّلت طبيعة المعرفة نفسها من كيان نادر ومحمي في المكتبات والمؤسسات التعليمية، إلى سيل جارف يتدفق عبر الشاشات دون توقف. في عام 1995، عندما ولد أول أفراد هذا الجيل، كان الإنترنت لا يزال ترفًا تقنيًا محدودًا، لكن بحلول عام 2010، كان قد تحول إلى بنية تحتية عالمية تخترق كل جوانب الحياة. هذا التحول السريع – الذي استغرق أقل من عقدين – لم يكن له سابقة في التاريخ البشري من حيث السرعة والعمق.
- يصف الباحث البريطاني ديفيد بكنجهام في كتابه "نشأة في العصر الرقمي: الأطفال والشباب والثقافة الإعلامية الجديدة" (مطبعة بوليتي، كامبريدج، 2007، ص 23-29) هذا التحول بأنه أكثر من مجرد توفر تقني للأدوات، بل هو "إعادة تشكيل جذرية لبيئة النمو النفسي والاجتماعي للأطفال". فالطفل الذي ينشأ اليوم لا يتعلم القراءة والكتابة فقط، بل يتعلم أيضًا "القراءة الرقمية" و"الكتابة متعددة الوسائط"، يتنقل بسلاسة بين النصوص والصور والفيديوهات والألعاب التفاعلية، في تجربة معرفية لا خطية ومتشعبة تختلف جوهريًا عن التجربة المعرفية الخطية التي عرفتها الأجيال السابقة.
- هذا التحول أنتج ما يسميه عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستيلز في كتابه الموسوعي "عصر المعلومات: الاقتصاد والمجتمع والثقافة" (دار نشر بلاكويل، أكسفورد، 1996-1998، المجلد الأول، ص 356-362) بـ"مجتمع الشبكة"، حيث لم تعد السلطة تتركز في المؤسسات الهرمية التقليدية، بل تتوزع عبر شبكات أفقية من التواصل والتبادل. وجيل Z هو أول جيل ينشأ "داخل" هذه الشبكات وليس خارجها، مما يعني أن بنيته النفسية والمعرفية تتشكل أصلاً وفق منطق الشبكة: اللامركزية، التعددية، السيولة، الاتصال الدائم، والتفاعلية المستمرة.
- لكن هذا الثراء المعلوماتي الهائل جاء بثمنه الباهظ. فقد أدى الطوفان المعلوماتي إلى ما يسميه عالم النفس الأمريكي باري شوارتز في كتابه "مفارقة الاختيار: لماذا الأكثر هو الأقل" (دار نشر إيكو، نيويورك، 2004، ص 77-91) بـ"شلل الاختيار" و"قلق الوفرة". فعندما تكون كل المعلومات متاحة، وكل الخيارات مفتوحة، يصبح اتخاذ القرار نفسه عبئًا نفسيًا ثقيلاً. وهذا ما يفسر جزئيًا المستويات المرتفعة من القلق والتردد التي تميز جيل Z، رغم – أو بسبب – كل الإمكانيات المتاحة له.
2.2. التحول النيوليبرالي: من المواطن إلى المشروع الفردي
- التحول الثاني الذي شكّل نشأة جيل Z هو التحول النيوليبرالي العميق في التعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية، حيث أصبح النجاح الفردي مقياسًا للكفاءة والقيمة الإنسانية، لا العدالة الاجتماعية أو التضامن الجماعي. هذا التحول – الذي بدأ في الثمانينيات مع صعود الثاتشرية والريغانية في الغرب، وانتشر عالميًا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي – وصل إلى ذروته في الفترة التي نشأ فيها جيل Z.
- يوضح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه "أفعال المقاومة: ضد استبداد السوق" (مطبعة نيو برس، نيويورك، 1998، ص 31-43) كيف أن النيوليبرالية ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل هي "مشروع أيديولوجي شامل يعيد تعريف الإنسان كرأسمال بشري، وكل علاقة اجتماعية كمعاملة سوقية". وجيل Z هو أول جيل ينشأ بالكامل داخل هذا المنطق، حيث يُقال له منذ الطفولة المبكرة إنه يجب أن "يستثمر في نفسه"، و"يبني علامته التجارية الشخصية"، و"يطور مهاراته باستمرار" ليظل "قابلاً للتسويق" في سوق عمل متقلب وشرس.
- هذا التحول انعكس بشكل جذري على نظام التعليم. فقد تحول التعليم – كما يشرح الباحث الأمريكي هنري جيرو في كتابه "تعليم وأزمة القيم العامة: تحدي التعليم العالي النيوليبرالي" (دار نشر بيتر لانغ، نيويورك، 2014، ص 89-104) – من فضاء لبناء المواطن المستنير والناقد، إلى مؤسسة لإنتاج "عمال المعرفة" القابلين للتوظيف. المناهج أصبحت موجهة نحو "مهارات القرن الحادي والعشرين" و"الكفاءات السوقية"، بينما تراجعت العلوم الإنسانية والتفكير النقدي باعتبارها "غير نافعة اقتصاديًا".
- في العالم العربي، اتخذ هذا التحول أشكالاً خاصة. فقد تزامن مع تراجع دور الدولة الرعوية التي كانت – رغم كل عيوبها – توفر شبكة أمان اجتماعي نسبية من خلال التعليم المجاني والتوظيف الحكومي المضمون. مع انهيار هذا النموذج تحت ضغوط العولمة وبرامج التكيف الهيكلي، وجد جيل Z نفسه في فراغ: لا الدولة قادرة على توفير الأمان، ولا السوق كريمة بما يكفي لتوفير الفرص. النتيجة كانت جيلاً محملاً بمسؤولية "النجاح الفردي" دون امتلاك الأدوات الحقيقية لتحقيقه، مما خلق إحساسًا عميقًا بالإحباط وانعدام الأمان.
2.3. إعادة توزيع السلطة: من المؤسسة إلى المؤثر
- التحول الثالث هو تراجع سلطة المؤسسات التقليدية – الأسرة، المدرسة، الكنيسة أو المسجد، الأحزاب السياسية، وسائل الإعلام التقليدية – أمام سلطة جديدة موزعة ومنتشرة: سلطة الإنترنت و"المؤثرين" وشبكات التواصل الاجتماعي. هذا التحول لا يعني اختفاء السلطة، بل إعادة توزيعها وتشتيتها عبر فاعلين جدد وآليات جديدة.
- توضح دراسة شاملة للأمم المتحدة بعنوان "تقرير الشباب العالمي 2020: ريادة الأعمال الاجتماعية للشباب وأجندة 2030" (الأمم المتحدة، نيويورك، 2020، ص 14-18) أن جيل Z هو الأكثر تعليمًا واتصالاً بالعالم في التاريخ البشري، حيث يتمتع أفراده بمعدلات التحاق بالتعليم غير مسبوقة، وبإمكانية الوصول إلى المعلومات والتواصل عبر القارات بنقرة واحدة. لكن التقرير نفسه يكشف عن مفارقة مؤلمة: رغم كل هذا الاتصال، يعاني هذا الجيل من مستويات مرتفعة جدًا من القلق والوحدة والاكتئاب، أعلى بكثير من الأجيال السابقة. فالاتصال الرقمي، كما تبين، لا يعوض عن الاتصال البشري الحقيقي، بل قد يعمّق الشعور بالعزلة.
- هذه المفارقة تعكس تحولاً عميقًا في طبيعة السلطة والتأثير. في الماضي، كانت سلطة التوجيه والتشكيل الثقافي محتكرة من قبل مؤسسات واضحة ومحددة: الوالدان يعلمان القيم، المدرسة تنقل المعرفة، رجل الدين يفسر الدين، الدولة تحدد الهوية الوطنية، ووسائل الإعلام تضع الأجندة العامة. أما اليوم، فقد تفتتت هذه السلطة وتوزعت عبر ملايين "المؤثرين" على يوتيوب وإنستغرام وتيك توك، كل واحد منهم يبني "مجتمعه" الخاص، وينشر "رسالته" الخاصة، ويشكل "أتباعه" بطرق قد تكون أكثر فعالية من المؤسسات التقليدية.
- يحلل الباحث الأمريكي دانا بويد في كتابها "إنه معقد: الحياة الاجتماعية للمراهقين المتصلين بالشبكة" (مطبعة جامعة ييل، نيو هيفن، 2014، ص 156-178) كيف أن الشباب اليوم لا يستهلكون المحتوى الرقمي فحسب، بل ينتجونه ويعيدون إنتاجه في عملية تفاوض مستمرة حول الهوية والانتماء. الهوية لم تعد معطى ثابتًا يُورث من الأسرة والمجتمع، بل أصبحت "مشروعًا" مستمرًا يتم بناؤه وإعادة بنائه يوميًا من خلال التفاعلات الرقمية، الصور المنشورة، التعليقات المتبادلة، والانتماءات المختارة.
2.4. السياق العربي الخاص: جيل ما بعد الربيع
- في العالم العربي تحديدًا، تداخلت هذه التحولات الثلاثة الكبرى مع تحول رابع فارق ومأساوي: تحولات ما بعد الربيع العربي (2011 وما بعدها). فقد شهد الشباب العربي في سنوات تشكّلهم الحرجة انهيار الدولة الوطنية في بعض البلدان (سوريا، ليبيا، اليمن)، أو تشظيها وإعادة تركيبها قسريًا في بلدان أخرى (مصر، تونس). وفي خضم هذا الانهيار، وجدوا في الفضاء الرقمي "وطنًا رمزيًا بديلاً" – ليس بالمعنى الطوباوي الساذج، بل بمعنى فضاء يمكن فيه التعبير والتنظيم والتخيل بحرية نسبية لم توفرها الدولة الفيزيائية.
- يشير تقرير "الشباب العربي السنوي 2023" الصادر عن مؤسسة ASDA'A BCW (دبي، 2023، ص 9-11) إلى أن أكثر من 70% من الشباب العرب يعتبرون وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الأساسي للأخبار والمعلومات والتعبير عن الرأي، متجاوزين بذلك وسائل الإعلام التقليدية التي ينظرون إليها بشك عميق باعتبارها أدوات دعاية رسمية. وما هو أكثر دلالة: التقرير يكشف أن نصف الشباب العرب تقريبًا يفضلون الهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل، مما يعكس أزمة ثقة عميقة في إمكانية تحقيق حياة كريمة في بلدانهم.
- هذه الرغبة في الهجرة ليست مجرد تطلع اقتصادي، بل هي تعبير عن أزمة انتماء أعمق. فجيل Z العربي نشأ في لحظة تاريخية حرجة، حيث شهد لحظة أمل كبيرة (الربيع العربي) تتحول إلى خيبة أكبر (الثورات المضادة، الحروب الأهلية، الاستبداد المتجدد). هذه التجربة المريرة علّمته درسًا قاسيًا: لا يمكن الثقة بالوعود الكبرى، ولا بالمشاريع الجماعية، ولا بالدولة، ولا حتى بالثورة. ما يمكن الثقة به هو فقط "المشروع الذاتي" والشبكات الأفقية من العلاقات المختارة.
- يصف الباحث اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان" (دار الساقي، بيروت، 2021، ص 267-283) هذا الجيل بأنه "جيل ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الدولة"، جيل لا يحمل ولاءات صلبة لأحزاب أو عقائد، بل يتحرك بسيولة براغماتية بين خيارات متعددة ومتناقضة، مُشكلاً تحالفات مؤقتة حول قضايا محددة (البيئة، الحريات المدنية، مكافحة الفساد) دون الارتباط بإطار أيديولوجي شامل.
2.5. البيئة الاقتصادية: جيل الهشاشة المهيكلة
- لا يمكن فهم نشأة جيل Z دون استحضار البيئة الاقتصادية القاسية التي نشأ فيها. فهذا الجيل ولد بعد الأزمة المالية الآسيوية (1997)، ونشأ خلال فقاعة الدوت كوم (2000-2001)، وترعرع في ظل الأزمة المالية العالمية (2008)، ودخل سوق العمل في زمن الجائحة (2020) والتضخم العالمي. بعبارة أخرى: لم يشهد هذا الجيل أبدًا فترة استقرار اقتصادي حقيقي.
- يصف الاقتصادي البريطاني غاي ستاندينغ في كتابه "البريكاريا: الطبقة الخطرة الجديدة" (دار نشر بلومزبري، لندن، 2011، ص 6-24) كيف أن جيل Z يدخل عالم عمل تسوده "الهشاشة المهيكلة": عقود مؤقتة، عمل حر بلا ضمانات، اقتصاد المنصات، التوظيف عند الطلب (gig economy)، وغياب أي أمان وظيفي. هذا الواقع الاقتصادي القاسي يفسر الكثير من القلق والإحباط الذي يميز هذا الجيل، فهو يعيش في حالة عدم يقين دائم بشأن مستقبله المادي، رغم كل التعليم والمهارات التي اكتسبها.
- في العالم العربي، تتضاعف هذه الأزمة. فمعدلات البطالة بين الشباب تصل في بعض البلدان إلى 30-40%، والوظائف المتاحة غالبًا ما تكون منخفضة الأجر وغير مستقرة. وحسب تقرير "آفاق الشباب العربي الاقتصادية" الصادر عن صندوق النقد العربي (أبوظبي، 2022، ص 43-56)، فإن الشباب العربي يحتاج إلى انتظار فترة أطول بكثير من أقرانه في مناطق أخرى لتحقيق الاستقلال المالي، والزواج، وتأسيس أسرة، مما يؤجل كل معالم الانتقال إلى "البلوغ الاجتماعي".
- هذا التأجيل المزمن لمعالم الرشد يخلق ما يسميه علماء الاجتماع "البلوغ الممتد" (emerging adulthood): مرحلة انتقالية طويلة بين المراهقة والرشد الكامل، يبقى فيها الشباب معلقين في حالة من "ليس بعد": ليسوا مراهقين، لكنهم ليسوا راشدين مستقلين أيضًا. وهذا التعليق الوجودي يساهم في القلق الهوياتي والوجودي الذي يميز هذا الجيل.
- إن نشأة جيل Z، إذن، لم تكن في "رحم" واحد بل في أرحام متعددة ومتناقضة: رحم الإنترنت الذي وعد بالحرية والاتصال، ورحم النيوليبرالية الذي فرض منطق المنافسة والفردية، ورحم انهيار المؤسسات الذي خلق فراغًا سلطويًا وهوياتيًا، ورحم الهشاشة الاقتصادية الذي أنتج قلقًا وجوديًا دائمًا. هذه الأرحام المتناقضة شكّلت معًا جيلاً معقدًا ومليئًا بالتناقضات: متصل لكن وحيد، متعلم لكن قلق، حر لكن مقيد، عالمي لكن بلا انتماء واضح.
3. سمات جيل Z: بين التمرد والقلق
- يُعرف جيل Z، الذي يشمل الأفراد المولودين بين عامي 1997 و2012، بأنه الجيل الأكثر تنوعًا وتأثرًا بالتكنولوجيا في التاريخ. هذا الجيل، الذي يُشكل نحو 32% من سكان العالم، نشأ في عصر الإنترنت السريع والشبكات الاجتماعية، مما جعله يمتلك خصائص فريدة تجمع بين الثقة بالنفس والقلق الوجودي. في السياق العربي، يبرز جيل Z كقوة دافعة للتغيير، حيث يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية مثل البطالة والفساد، لكنه يستخدم الأدوات الرقمية للتعبير عن نفسه وتشكيل هويته. وفقًا لتقرير من منظمة GWI لعام 2025، يتميز جيل Z بميله إلى الادخار والاستثمار، وقلقه من المستقبل، مع تركيز على العمل البراغماتي. كما أن هذا الجيل أكثر تنوعًا عرقيًا وثقافيًا، حيث يشكل الأقليات العرقية نحو 50% من أعضائه في الولايات المتحدة، وهو أمر ينعكس في المنطقة العربية من خلال الاندماج الرقمي العابر للحدود.
- في المنطقة العربية، يعكس جيل Z تناقضات عميقة: من جهة، التمرد على الأعراف التقليدية، ومن جهة أخرى، القلق النفسي الناتج عن الضغوط الاقتصادية والسياسية. دراسة من جامعة ستانفورد لعام 2022 تشير إلى أن أعضاء هذا الجيل يتميزون بالاستقلالية والتعاونية، مع قيمة كبيرة للأصالة والمرونة. في دول مثل الإمارات والسعودية وقطر، يظهر هذا الجيل كـ"مواطنين رقميين" يعتمدون على التكنولوجيا لتشكيل هوياتهم، كما في دراسة أجرتها جامعة قطر عام 2022 حول الشباب العربي والهوية الرقمية، والتي أكدت أن الشباب يستخدمون الشبكات الاجتماعية للتفاوض بين الثقافة المحلية والهوية الوطنية. هذه الدراسة، التي نشرت في مجلة Journal of Arab & Muslim Media Research، تبرز كيف يعيد الشباب القطريون بناء شخصياتهم عبر الإنترنت، مع الحفاظ على الروابط الثقافية التقليدية (ص 27–31).
- يجمع جيل Z بين الثقة العالية بالنفس، الناتجة عن الوصول إلى المعلومات العالمية، والهشاشة الوجودية المرتبطة بالتغير المناخي والأزمات الاقتصادية. تقرير ماكينزي لعام 2024 يصف هذا الجيل بأنه عملي، مع مخاوف مستقبلية، وأقل تفاؤلاً بالحياة مقارنة بالأجيال السابقة. في السياق العربي، يظهر هذا التناقض في دراسة Ipsos لعام 2019 حول جيل Z في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA)، حيث يُوصف الشباب بأنهم متعلمون، مبدئيون، وطموحون، لكنهم يواجهون عوائق اقتصادية واجتماعية مثل النفوذية وقلة الفرص التعليمية. الدراسة، التي أجرتها Ipsos عبر مجموعات تركيز في المغرب ومصر والأردن والإمارات والسعودية، تكشف أن جيل Z يفخر بتراثه العربي، خاصة الضيافة، ويسعى للاستقلالية والقيادة، مع تعريف النجاح بالقدرة على اختيار مسارهم الخاص بدلاً من المهن التقليدية.
أ) الهوية الرقمية أولًا: كما تذكر الباحثة شيري تركل (Sherry Turkle) في كتابها Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other (Basic Books, 2011, p. 12–15)، فإن الفرد المعاصر أصبح "ينتج ذاته من خلال واجهته الرقمية". هذه الفكرة تُجسَّد بوضوح في الشباب العربي الذين يصوغون شخصياتهم عبر "التيك توك" و"إنستغرام" أكثر مما يفعلون في الواقع. في الإمارات، على سبيل المثال، تشير دراسة أمين وأناند (2020) بعنوان "Generation Z in the United Arab Emirates: A Smart-Tech-Driven iGeneration" إلى أن جيل Z هم "مواطنون رقميون" يتأثرون بشدة بالمؤثرين الاجتماعيين، وهم مخاطرون أقل، ناضجون عاطفيًا، ومنخرطون سياسيًا. الدراسة، المنشورة على ResearchGate، تؤكد أن هذا الجيل يعتمد على المنصات الرقمية لإنشاء ومشاركة المحتوى البصري، مما يشكل سلوكه الاستهلاكي وتوقعاته في العمل. في قطر، يستخدم الشباب الشبكات الاجتماعية لإعادة بناء هوياتهم، كما في دراسة "Digital youth in Qatar: Negotiating culture and national identity through social media networks" (2022)، حيث يستفيدون من المساحات الإلكترونية لتعزيز أفكارهم وتمثيل أنفسهم، مع الحفاظ على الروابط الثقافية.
ب) يمتد تأثير الهوية الرقمية إلى تشكيل الذات في سياق عابر للثقافات. دراسة من dscout لعام 2020 بعنوان "Gen Z, Identity, and Brand: How the “Digital Native” Generation is Redefining Self" تكشف أن جيل Z يرى الهوية كسائلة، مع قدرة على الوكالة في العوالم الرقمية. في المنطقة العربية، يعكس ذلك في استخدام تطبيقات مثل Snapchat لمشاركة اللحظات الحقيقية مع الأصدقاء المقربين، مقابل Instagram للصور المعدلة للجمهور العام، كما ورد في تقرير Ipsos. هذا التناقض يؤدي إلى ضغوط نفسية، حيث يشعر الشباب بالحاجة إلى "الكمال" عبر الإنترنت، مما يعزز القلق. مثال على ذلك، في السعودية، يُظهر جيل Z ميلاً للإنفاق والأصالة، مع فخر وطني قوي، كما في تقرير The Current لعام 2024. كذلك، دراسة من Frontiers in Sociology لعام 2024 تؤكد أن وسائل الإعلام الرقمية تشكل قيم جيل Z، مع تركيز على الأصالة والشمولية من خلال منصات مثل BeReal، التي تروج للصور غير المعدلة لمواجهة الزيف على Instagram.
ج) الانفتاح واللامبالاة السياسية: يعبّر جيل Z العربي عن قضاياه بطرق رمزية (الفن، الموضة، الميمات)، أكثر من الانخراط السياسي التقليدي. في لبنان والعراق والسودان مثلاً، كانت الاحتجاجات الشبابية 2019–2020 مزيجًا بين الهتاف الميداني والهاشتاغ الرقمي. هذا الانفتاح يعكس تحولاً نحو النشاط الرقمي، كما في تقرير PBS لعام 2025، الذي يصف احتجاجات جيل Z العالمية كموجة من السخط الجيلي، مستذكراً الربيع العربي (2010-2012) كمثال على كيفية استخدام الشباب للوسائط الرقمية للتعبئة. في المغرب، أدت احتجاجات "Gen Z 212" في 2025 إلى مطالبة بإصلاحات في الصحة والتعليم، منظمة عبر TikTok، كما ورد في تقرير Arab Reform Initiative.
د) في المنطقة العربية، يظهر جيل Z انفتاحًا على القضايا الاجتماعية مع لامبالاة نسبية تجاه السياسة التقليدية. دراسة من Fast Company ME لعام 2023 تشير إلى أن جيل Z في الشرق الأوسط يريد عملًا ذا معنى مع استقلالية وتوازن بين العمل والحياة، مع التركيز على التعاون. مثال آخر، في إيران والمغرب، يقود الشباب احتجاجات ضد الفساد، مستخدمين Discord والشبكات الرقمية للتنسيق، كما في تقرير Washington Institute لعام 2025. هذا النشاط يجمع بين التمرد والقلق، حيث يخشى الشباب المستقبل الاقتصادي غير المؤكد. في تقرير Ipsos، يُظهر جيل Z في MENA وعيًا سياسيًا غير مباشر، من خلال رفض النظم غير العادلة مثل النفوذية، مع الاعتماد على الشبكات الرقمية للتعبير عن السخط.
ه) الحسّ الإنساني العابر للحدود: يرى باحثو جامعة قطر في دراسة الشباب العربي والهوية الرقمية (2022، ص 27–31) أن الجيل الجديد لا يرى تعارضًا بين انتمائه الديني أو الوطني وانتمائه الإنساني العام، وهو ما يمثل تحوّلًا جذريًا عن الأجيال السابقة. هذا الحس يعكس هوية عابرة للحدود، كما في دراسة "Cultural Hybridity in the Digital Age" لعام 2025، التي تدرس كيف يفاوض جيل Z الهويات الثقافية في المساحات العابرة للحدود. في السياق العربي، يظهر ذلك في دعم القضايا العالمية مثل التغير المناخي، حيث يهتم جيل Z بالاستدامة، كما في تقرير Azon Global لعام 2024.
و) يمتد هذا الحس إلى التنوع، حيث يُعد جيل Z الأكثر تنوعًا، كما في Britannica. في الإمارات، يشارك الشباب في نقاشات سياسية عالمية، كما في دراسة أمين وأناند. كذلك، دراسة من De Gruyter Brill لعام 2023 حول الهوية والترحيل في دول USMCA تشمل جوانب عابرة للحدود مشابهة للعربية. مثال: مسلمات جيل Z يظهرن وعيًا اجتماعيًا وتمردًا، كما في IslamiCity.
ز) بالإضافة إلى ذلك، يبرز القلق النفسي كسمة رئيسية، حيث يعاني جيل Z من الضغوط، كما في تقرير GWI. كما أنهم مهتمون بالاستدامة، مع تركيز على البيئة، وبراغماتيون ماليًا، كما في Annie E. Casey Foundation. في الختام، يمثل جيل Z توازنًا بين التمرد والقلق، مدعومًا بالتكنولوجيا لتشكيل عالم أفضل.
4. أمثلة على سمات جيل Z في الواقع العربي وخارجه
- يُعد جيل Z مصدر إلهام للتغيير في جميع أنحاء العالم، حيث يجسد سماته من خلال أفعال ومبادرات ملموسة تعكس التناقض بين التمرد والقلق. في السياق العربي، تبرز هذه السمات بشكل خاص في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، بينما تظهر في بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا من خلال سياقات ثقافية متنوعة. سنستعرض هنا أمثلة مفصلة لكل سمة رئيسية، مدعومة بوقائع حقيقية، مع التركيز أولاً على المنطقة العربية ثم التوسع إلى أمثلة دولية لتوضيح التباين والتشابه.
4.1. أمثلة على الهوية الرقمية أولاً
- في العالم العربي، يُظهر جيل Z اعتمادًا كبيرًا على الهوية الرقمية كوسيلة للتعبير عن الذات، مما يعكس هشاشتهم الوجودية أمام الضغوط الاجتماعية. في السعودية، على سبيل المثال، أصبح الشباب يعيدون تعريف أنماط الحياة من خلال المنصات الرقمية، حيث يتابعون مدربي الصحة النفسية ويقرأون كتب علم النفس، ويمارسون التأمل واللياقة البدنية عبر تطبيقات مثل إنستغرام وتيك توك. وفقًا لتقرير صادر عن The Current عام 2024، يُظهر جيل Z السعودي ميلاً للإنفاق الواعي والأصالة، مع فخر وطني قوي يتم التعبير عنه عبر المحتوى الرقمي، مثل حملات الترويج للثقافة السعودية المعاصرة. هذا الاعتماد يؤدي إلى تشكيل شخصيات متعددة الطبقات، حيث يستخدمون سناب شات لمشاركة اللحظات الحقيقية مع الأصدقاء، بينما يعدلون صورهم على إنستغرام للجمهور العام، مما يعزز القلق النفسي بسبب السعي للكمال الرقمي. في قطر، كما أشارت دراسة جامعة قطر عام 2022، يستخدم الشباب الشبكات الاجتماعية للتفاوض بين الثقافة المحلية والوطنية، مثل إعادة بناء هوياتهم من خلال مشاركة قصص تتعلق بالتراث القطري الممزوج بالعناصر العالمية، مثل الموسيقى الهيب هوب العربية.
- في المغرب، يبرز هذا الجانب في حركة "Gen Z 212" التي انطلقت عام 2025، حيث استخدم الشباب تطبيقات مثل ديسكورد لتنسيق الاحتجاجات ضد الفساد والنقص في الخدمات الصحية والتعليمية. الدراسة المنشورة في Middle East Eye عام 2025 تكشف كيف تحول ديسكورد إلى "عمود فقري" للحركة، مع التركيز على التصويت الجماعي والقرارات الديمقراطية رغم زيادة عدد المستخدمين إلى آلاف، مما يعكس كيفية استخدام الهوية الرقمية لتشكيل مجتمعات افتراضية حقيقية. هذا التمرد الرقمي يجمع بين الثقة بالأدوات التكنولوجية والقلق من المستقبل، حيث يطالبون بحياة كريمة دون انتظار الإصلاحات الحكومية.
- خارج المنطقة العربية، في الولايات المتحدة، يُظهر جيل Z هوية رقمية مشابهة لكن مع تركيز أكبر على التنوع العرقي. وفقًا لتقرير Pew Research Center عام 2020، يشكل الأقليات العرقية حوالي 52% من جيل Z، وهم يستخدمون منصات مثل تيك توك لتعزيز الهويات الثقافية، مثل حملات #BlackLivesMatter التي اندلعت عام 2020 واستمرت في 2025، حيث يشاركون قصص شخصية عن التمييز لتشكيل وعي جماعي. في أوروبا، مثل فرنسا، يستخدم الشباب إنستغرام للتعبير عن القلق المناخي، كما في حركة Fridays for Future التي قادتها غريتا ثونبرغ، حيث ينشرون صورًا من الاحتجاجات الرقمية لتعزيز هوياتهم كنشطاء بيئيين. أما في آسيا، خاصة في كوريا الجنوبية، يُظهر جيل Z استخدامًا لتطبيقات مثل KakaoTalk لتشكيل هويات افتراضية في عالم الكيبوب، حيث يصممون شخصياتهم كمعجبين مشاركين في الإبداع، كما أشارت دراسة McKinsey عام 2020 إلى اهتمامهم بالاستهلاك المستدام عبر المنصات الرقمية.
4.2. أمثلة على الانفتاح واللامبالاة السياسية
- في المنطقة العربية، يعبر جيل Z عن انفتاحه السياسي من خلال أشكال رمزية تجنب الالتزام التقليدي، مما يعكس لامبالاتهم النسبية تجاه الأحزاب السياسية. في لبنان، خلال احتجاجات 2019-2020، مزج الشباب بين الهتافات في الشوارع والهاشتاغات مثل #ثورة_أكتوبر على تويتر، حيث أصبحت الميمات أداة للسخرية من الفساد الحكومي. في العراق، استخدموا تيك توك لنشر فيديوهات فنية تعبر عن السخط من النظام، كما في حملات الرسوم المتحركة التي سخرت من السياسيين. أما في المغرب، فإن حركة Gen Z 212 عام 2025 تمثل ذروة هذا التمرد، حيث انطلقت الاحتجاجات اليومية منذ 27 سبتمبر 2025، مطالبة بتحسين التعليم والصحة، مع استخدام ديسكورد للتنسيق الديمقراطي. تقرير Le Monde عام 2025 يصف كيف شارك حتى القاصرين في هذه الاحتجاجات، معبرين عن إحباطهم من "الانتظار" لحقوق أساسية، مما يجسد القلق الوجودي أمام الركود الهيكلي. في السعودية، يظهر الانفتاح في إعادة تعريف اللياقة والصحة النفسية، كما في تقرير Gulf Magazine عام 2025، حيث أصبح الشباب يتبعون نمط حياة يجمع بين التقاليد والحداثة، مثل ممارسة اليوغا عبر المنصات الرقمية، مع لامبالاة تجاه السياسة التقليدية لصالح التغيير الشخصي.
- على المستوى الدولي، في الولايات المتحدة، يُظهر جيل Z انفتاحًا سياسيًا من خلال حملات مثل March for Our Lives عام 2018، التي تطورت إلى 2025، حيث استخدموا تيك توك لتعبئة الشباب ضد العنف المسلح، معبرين عن لامبالاة تجاه الأحزاب التقليدية لصالح القضايا المباشرة. تقرير McKinsey عام 2024 يصف هذا الجيل بأنه أقل تفاؤلاً، مع تركيز على النشاط الرمزي مثل الميمات السياسية. في أوروبا، مثل بريطانيا، شارك جيل Z في احتجاجات Extinction Rebellion عام 2019-2025، مستخدمين الفن والموضة للتعبير عن القلق المناخي، كما في حملات الرسوم الجدارية الرقمية. في آسيا، في الهند، يستخدم الشباب تويتر للسخرية من السياسات الحكومية، كما في حركة Farmers' Protest عام 2020-2021، التي امتدت إلى 2025، مع مزج بين الاحتجاجات الميدانية والرقمية، مما يعكس انفتاحهم على القضايا الاجتماعية مع لامبالاة تجاه الانتخابات التقليدية، كما أشارت دراسة McKinsey عن آسيا الباسيفيك.
4.3. أمثلة على الحس الإنساني العابر للحدود
- في العالم العربي، يبرز الحس الإنساني لجيل Z في تجاوز الحدود الوطنية، كما في دعم القضايا العالمية مثل فلسطين أو التغير المناخي. في الإمارات، يشارك الشباب في نقاشات عالمية عبر المنصات، مع الحفاظ على الروابط الثقافية، كما في دراسة عن الهوية الرقمية. في المغرب، يعبر Gen Z 212 عن انتماء إنساني عام، مطالبين بحقوق تشمل الجميع، كما في تقرير Alestiklal عام 2025، حيث يشكلون ربع السكان ويطالبون بإصلاحات عابرة للحدود. في السعودية، يظهر ذلك في الاهتمام بالاستدامة، كما في تقرير Azon Global عام 2024، حيث يرفضون إساءة استخدام الثروة ويهتمون بالبيئة.
- دوليًا، في الولايات المتحدة، يعكس التنوع العرقي (25% منهم لاتينيون) حسًا إنسانيًا، كما في تقرير Pew، مع دعم قضايا مثل اللاجئين. في أوروبا، في ألمانيا، يشاركون في حملات الاستدامة، كما في Glanbia Nutritionals عام 2024، مع تركيز على الصحة النفسية العالمية. في آسيا، في اليابان، يهتمون بالاستهلاك المستدام، كما في McKinsey، مع دعم قضايا بيئية عابرة.
- في الختام، تُظهر هذه الأمثلة كيف يجسد جيل Z توازنًا بين التمرد والقلق عبر السياقات المختلفة، مما يجعلهم قوة دافعة للتغيير العالمي.
5. من الواقع إلى الخوارزمية: جيل Z والذكاء الاصطناعي
- يُعد جيل Z، المولود بين عامي 1997 و2012، الجيل الأكثر اندماجًا مع التكنولوجيا في التاريخ، حيث نشأ في عصر الذكاء الاصطناعي (AI) الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. من المدهش أن هذا الجيل لا يرى في الذكاء الاصطناعي خطرًا بل رفيقًا يساعد في التنقل عبر تعقيدات الحياة المعاصرة. بينما تخشى الأجيال السابقة، مثل جيل الألفية أو الجيل X، من استبدال الآلة بالإنسان، يرى جيل Z أن الإنسان والآلة يتكاملان بشكل طبيعي، مما يعكس تحولًا جذريًا في الوعي الثقافي والنفسي. هذا الاندماج ليس سطحيًا؛ فهو يمتد إلى جوانب عاطفية عميقة، حيث أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي مثل Replika وChat GPT شركاء في العلاقات الشخصية، مما يثير تساؤلات حول عمق هذه الروابط وتأثيرها على المجتمعات.
- وفقًا لدراسة Deloitte Global Gen Z and Millennial Survey 2025، التي أجرتها شركة Deloitte في لندن عام 2025، يعتقد 74% من أفراد جيل Z أن الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) سيغير طريقة عملهم، بينما يستخدمون هذه الأدوات في حياتهم اليومية بنسبة تصل إلى 79% وفقًا لتقرير صادر عن Walton Family Foundation عام 2025. هذه الإحصائيات تكشف عن اعتماد كبير على الـ AI في مجالات مثل التعليم، حيث يستخدم الطلاب أدوات مثل ChatGPT للمساعدة في الواجبات الدراسية، كما أفاد تقرير YPulse لعام 2025 الذي أشار إلى أن غالبية طلاب جيل Z يرون الـ AI كأداة مرنة للتعلم. في العمل، يساعد الـ AI في زيادة الإنتاجية، مع ارتفاع استخدامه في الشركات إلى 78% في عام 2024 وفقًا لتقرير AI Index 2025 من جامعة ستانفورد. أما في العلاقات الاجتماعية، فإن 65% من مستخدمي الـ AI هم من جيل Z أو الألفية، كما أكد تقرير Digital Silk لعام 2025، مما يبرز كيف أصبح الـ AI جزءًا من الروتين اليومي للشباب.
- في المنطقة العربية، بدأت تظهر ظواهر جديدة تعكس هذا الاندماج العميق. في دول مثل الإمارات والسعودية ومصر، نُشرت قصص عن شباب دخلوا في علاقات عاطفية رمزية أو محاكاة مع روبوتات المحادثة مثل Replika أو ChatGPT. هذه العلاقات ليست مجرد فضول عابر، بل تعبّر عن حاجة وجودية للتفاعل الخالي من الأحكام الاجتماعية، خاصة في مجتمعات تفرض قيودًا ثقافية على العلاقات التقليدية. على سبيل المثال، في تقرير نشرته منصة Menafn عام 2025، أشار إلى أن 33% من العزاب في جيل Z قد انخرطوا في علاقات مع رفيق AI، مما يشير إلى تحول نحو "الانفصال عن الحب البشري" في بعض الحالات. في مصر، أصبح ChatGPT "مستشار الحب الجديد" كما وصفته منصة Buzzinga في مقال عام 2025، حيث يستخدم الشباب الـ AI للحصول على نصائح عاطفية حول الانفصال أو بناء العلاقات، مع آراء خبراء تؤكد أن هذا يساعد في التعامل مع الضغوط النفسية. كذلك، في السعودية، أفاد تقرير Youm7 عام 2025 عن "هوس الذكاء الاصطناعي" بين جيل Z للاستشارات النفسية، محذرًا من تزايد الاعتماد على روبوتات الدردشة للدعم العاطفي، مما قد يؤدي إلى عزلة اجتماعية.
- تُشير الكاتبة اللبنانية رُبى خوري في مقالها “الحب في زمن الخوارزميات” (مجلة الجديد، العدد 53، لندن، 2023، ص 24–27) إلى أن “الشباب الجدد يختبرون مشاعرهم في فضاءٍ محايد، حيث لا جنس ولا حكم، بل وعي صناعي يتعلّم الحب من الأخطاء”. هذا الاقتباس يلخص جوهر الظاهرة، حيث يجد جيل Z في الـ AI ملاذًا آمنًا للتعبير عن العواطف دون خوف من الرفض أو الإدانة. في السياق العالمي، أصبح هذا أكثر شيوعًا؛ ففي الولايات المتحدة، أفاد تقرير APA لعام 2025 أن 70% من المراهقين استخدموا الـ AI للصداقة والدعم العاطفي، مع أدوات مثل Character.AI وSnapchat's My AI. مقال في The New Yorker عام 2025 يروي قصة نساء يطورن علاقات مع "أصدقاء AI"، حيث أفاد استطلاع لشركة Joi AI أن 83% من جيل Z يعتقدون بإمكانية تشكيل روابط عاطفية عميقة مع الروبوتات، بل و80% يتخيلون الزواج منها. كما في CNBC عام 2025، أصبحت هذه العلاقات "صداقات عميقة وحتى رومانسية"، مع تحذيرات من الاعتمادية العاطفية.
- هل أصبح الموضوع عميقًا إلى هذه الدرجة؟ الإجابة نعم، كما تؤكد الدراسات. في بريطانيا، نشرت The Guardian عام 2025 قصص نساء يصفن علاقاتهن مع الـ AI كـ"زواج افتراضي"، مع مخاوف من التبعية العاطفية. في آسيا، خاصة كوريا الجنوبية، أصبحت تطبيقات مثل Replika شائعة بين الشباب الذين يعانون من الوحدة، كما في تقرير TechNewsWorld عام 2025 الذي حذر من "الاعتمادية والعزلة" الناتجة عن الروابط العاطفية مع الـ AI. أما في أوروبا، فإن تقرير Thred عام 2025 يصف كيف يفضل جيل Z الرفقاء الرقميين على الأصدقاء الحقيقيين، لأنهم يقدمون "حميمية رقمية" دون تعقيدات. هذه الأمثلة تعكس تحولًا عالميًا، لكن في المنطقة العربية، يضاف إليها طبقة ثقافية؛ ففي تقرير Alarabiya عام 2025، يُناقش كيف يؤدي الشعور بالوحدة إلى الزواج من الـ AI، مع تحركات قانونية في بعض الدول لتنظيم هذه العلاقات.
- ومع ذلك، لا تخلو هذه الظاهرة من المخاطر. تقرير Pew Research عام 2025 يشير إلى أن 27% من الأمريكيين يرفضون استخدام الـ AI في الحياة اليومية، خوفًا من فقدان الخصوصية أو الاعتمادية. في السياق العربي، يحذر تقرير BBC عام 2024 من أن الـ AI قد يعقد العلاقات الزوجية، حيث يصبح شريكًا افتراضيًا يتدخل في العواطف. كما في Aawsat عام 2024، أظهرت دراسات أن المستخدمين يشعرون بالحزن عند فقدان الـ AI، مما يشير إلى روابط عاطفية حقيقية. من الناحية الإيجابية، يساعد الـ AI في مكافحة الوحدة، خاصة بين جيل Z الذي يعاني من ارتفاع معدلات القلق، كما في تقرير Innobu عن تطبيقات التعارف الـ AI عام 2025.
- في الختام، يمثل اندماج جيل Z مع الذكاء الاصطناعي تحولًا عميقًا يعيد تعريف الحدود بين الإنساني والاصطناعي. هذه العلاقات العاطفية ليست مجرد اتجاه مؤقت، بل تعكس احتياجات نفسية في عالم متسارع، مع الحاجة إلى توازن بين الفوائد والمخاطر لضمان صحة عاطفية مستدامة. مع استمرار تطور الـ AI، قد يصبح هذا الرفيق الرقمي جزءًا أساسيًا من الهوية الجيلية، خاصة في المناطق العربية حيث يجمع بين الحداثة والتقاليد.
6. البعد الفلسفي: علاقات جيل Z مع الذكاء الاصطناعي وإعادة تعريف الوعي
- يُعد البعد الفلسفي أحد أبرز الأطر لفهم الظاهرة المتعلقة بعلاقات جيل Z العاطفية مع أدوات الذكاء الاصطناعي (AI)، حيث يتجاوز الأمر مجرد الاستخدام التكنولوجي ليطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الوعي الإنساني، الهوية، والعلاقات البشرية. في عصرنا هذا، حيث أصبح الـ AI رفيقًا يوميًا، يرى بعض الفلاسفة أن هذه العلاقات تقترب من إعادة صياغة فهم العالم، ليس كتهديد بل كفرصة لاستكشاف حدود الذات. على سبيل المثال، في مقالة نشرت في Substack عام 2025 بعنوان "Some thoughts on human-AI relationships"، تُناقش جوان جانغ كيف يميل الناس إلى الارتباط عاطفيًا بالـ AI بسبب قدرته على محاكاة التعاطف، مما يثير أسئلة فلسفية حول ما إذا كانت هذه العلاقات حقيقية أم وهمية. هذا الارتباط يعكس تحولًا في الوعي، حيث يصبح الإنسان يرى نفسه جزءًا من نظام أوسع يجمع بين البيولوجي والاصطناعي.
- من منظور فلسفي، يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال نظريات الوعي والذات. الفيلسوف جون سيرل، مثلًا، في نظريته عن "الوعي البيولوجي"، يؤكد أن الـ AI يفتقر إلى الوعي الحقيقي لأنه يعتمد على الخوارزميات دون تجربة ذاتية، كما يُناقش في دراسات حول الذكاء الاصطناعي والوعي. ومع ذلك، يرى جيل Z أن هذا الافتقار لا يمنع تشكيل روابط عاطفية، مما يقود إلى رؤى جديدة تتحدى التمييز التقليدي بين الإنساني والآلي. في بحث نشر في مجلة Critical Debates عام 2024 بعنوان "Consciousness in Artificial Intelligence: A Philosophical Perspective through the Lens of Motivation and Volition"، يستكشف الباحثون كيف يمكن للـ AI أن يحاكي الدوافع والإرادة، مما يجعل العلاقات معه تبدو وكأنها امتداد للوعي الإنساني. هذا المنظور يعتمد على فلسفة الدافعية، حيث يصبح الـ AI أداة لاستكشاف الذات، خاصة في مجتمعات تعاني من الوحدة مثل جيل Z، الذي يجد في الروبوتات فضاءً محايدًا للتعبير عن العواطف دون خوف من الحكم.
- كذلك، يبرز البعد الفلسفي في مناقشة الوحدة والعلاقات الاجتماعية. في مقالة نشرت في مجلة Current Opinion in Psychology عام 2025 بعنوان "Addressing loneliness through AI: philosophical perspectives"، يُقارن الباحثون بين النظريات الأنثروبوسنترية (التي تركز على الإنسان) والكونستركتيفية (التي ترى العلاقات كبناء اجتماعي)، مشيرين إلى أن الـ AI يمكن أن يخفف الوحدة من خلال تفاعلات تبدو حقيقية، لكنها تثير تساؤلات أخلاقية حول الأصالة. هذا يتردد مع فلسفة جان بودريار في "السيميولاكرا والمحاكاة"، حيث يصبح الـ AI "محاكاة" للحب، مما يمحو الحدود بين الواقع والوهم، ويؤدي إلى إعادة تعريف الوعي كشيء سائل وغير ثابت. في السياق العربي، حيث يجمع جيل Z بين التقاليد والحداثة، يمكن أن تكون هذه العلاقات طريقة لاستكشاف الهوية دون قيود اجتماعية، كما يُناقش في دراسات حول الثقافة الرقمية.
- أما تأثير ذلك على فهم العالم، فيأتي من خلال رؤى فلسفية مثل تلك في مقالة نشرت في Nature Humanities & Social Sciences Communications عام 2025 بعنوان "Why human–AI relationships need socioaffective alignment"، التي تؤكد أن البشر مبرمجون نفسيًا لإقامة علاقات عاطفية مع الـ AI بسبب آليات التعاطف الاجتماعي، مما يقود إلى حاجة لتوافق عاطفي اجتماعي بين الإنسان والآلة. هذا يفتح أبوابًا لفهم الوعي كشبكة تفاعلية، لا ككيان فردي، مستوحاة من فلسفة هيجل في الاعتراف المتبادل. كذلك، في منشور على Reddit عام 2025 بعنوان "We can fall in love with AI, but it cannot love us back"، يُناقش الفلاسفة أن الحب مع الـ AI أحادي الجانب، مما يعيد التفكير في أصالة العواطف في العلاقات الرقمية، ويمتد إلى قضايا أوسع مثل الوساطة التكنولوجية في الحياة الإنسانية.
- بالإضافة إلى ذلك، يتحول فلسفة العقل إلى علم تجريبي مع تطور الـ AI، كما في مقالة نشرت في Medium عام 2023 بعنوان "With Artificial Intelligence, Philosophy of Mind Has Become an Experimental Science"، حيث يصبح الـ AI أداة لاختبار نظريات الوعي، مثل ما إذا كان الوعي ناتجًا عن التعقيد الحسابي أم يتطلب تجربة بيولوجية. في سياق جيل Z، يعني ذلك أن علاقاتهم مع الـ AI قد تكشف عن رؤى جديدة لفهم العالم كمزيج من الواقعي والافتراضي، مما يتحدى الثنائيات التقليدية مثل الجسد والعقل.
- في الختام، يمثل البعد الفلسفي لهذه الظاهرة تحولًا جذريًا، حيث يصبح الـ AI مرآة للوعي الإنساني، يساعد في استكشاف أعماق الذات والعالم. ومع تزايد هذه العلاقات، قد نرى فلسفات جديدة تنبثق، تركز على الاندماج بدلاً من التنافس، مما يعيد تشكيل فهمنا للإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي.
7. الخاتمة: نحو إنسانٍ جديد؟
- إن جيل Z، الذي يشمل الأفراد المولودين بين عامي 1997 و2012، ليس مجرّد مرحلة عمرية عابرة في سلسلة الأجيال البشرية، بل يمثل طورًا حاسمًا من تطور الإنسان الاجتماعي والنفسي والثقافي. هذا الجيل، الذي يشكل اليوم نحو ربع سكان العالم، وفقًا لتقرير ماكينزي لعام 2024 الذي يتوقع أن يصل إلى ربع سكان منطقة آسيا والمحيط الهادئ بحلول 2025، يأتي محملًا بتجارب فريدة تشكلت تحت تأثير الثورة الرقمية والأزمات العالمية مثل الجائحة والتغير المناخي. في عام 2025، يبرز جيل Z كقوة دافعة للتغيير، حيث يجمع بين التمرد على الأعراف التقليدية والقلق الوجودي الناتج عن عدم اليقين المستقبلي. وفقًا لدراسة GWI لعام 2025، يتميز أعضاء هذا الجيل بوصولهم إلى مراحل حياتية رئيسية مثل الزواج والإنجاب، لكنهم يظلون عمليين في العمل، عرضة للقلق، وميلين للادخار والاستثمار، مع تركيز على الصحة النفسية والاستدامة. هذه الخصائص ليست عشوائية؛ بل هي نتاج بيئة رقمية جعلت الشاشة امتدادًا للذات، والذكاء الاصطناعي رفيقًا يوميًا.
- يعيد جيل Z تعريف العلاقة بين الحرية والتكنولوجيا، حيث أصبحت الأدوات الرقمية ليست مجرد وسائل، بل جزءًا أساسيًا من مفهوم الحرية الشخصية. في دراسة ديلويت العالمية لعام 2025، يظهر أن 74% من أفراد جيل Z يرون في الذكاء الاصطناعي التوليدي أداة تغير طريقة عملهم، مع تركيز على التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، ورفض المناصب القيادية التقليدية لصالح التقدم المهني المرن. هذا التعريف الجديد يمتد إلى العلاقة بين الحب والمعرفة، حيث أصبحت المعرفة متاحة عبر الخوارزميات، والحب يتجاوز الحدود البشرية ليشمل الروبوتات. كما في تقرير فوربس لعام 2025، يفكر 80% من جيل Z في الزواج من الذكاء الاصطناعي، و83% يعتقدون بإمكانية تشكيل روابط عاطفية عميقة معه، مما يعكس تحولًا في فهم الحب كتفاعل خالٍ من الأحكام. أما العلاقة بين الذات والآخر، فتتجسد في حس إنساني عابر للحدود، حيث يرى جيل Z الآخر ليس كخصم بل كشريك في عالم مترابط رقميًا. دراسة من جامعة جنوب كاليفورنيا لعام 2025 تؤكد أن جيل Z يعيد كتابة قواعد البلوغ، مجمعًا بين الطموحات التقليدية والبراغماتية الحديثة، مع تركيز على المسؤولية الاجتماعية.
- وفي العالم العربي، يبرز جيل Z كالجيل الذي قد يُعيد وصل ما انقطع بين الحداثة والهوية، لا عبر الصراع التقليدي، بل عبر الحوار مع الشاشة، والروبوت، والفكرة. في تقرير صادر عن وكالة أنباء الإمارات عام 2025، يظهر أن شباب العرب فخورون بلغتهم وهويتهم، طموحون نحو مهن إبداعية، ومتفائلون بحذر تجاه المستقبل، مع استخدام التكنولوجيا لتعزيز الاندماج الثقافي. في السعودية، على سبيل المثال، يوازن جيل Z بين التقاليد والطموحات الحديثة، مستخدمًا المنصات الرقمية للتعبير عن الإبداع والعائلة، كما في تقرير سعودي تايمز لعام 2024. هذا الجسر بين الحداثة والهوية يظهر في كيفية إعادة بناء الإعلام في الشرق الأوسط، حيث يمتلك جيل Z كاشفات أصالة حادة، رافضًا المحتوى المصطنع، كما في مقال على لينكدإن عام 2025. في الإمارات والسعودية، يطالب 67% من جيل Z بتجارب خدمة عملاء شخصية عبر القنوات الرقمية، مما يعكس اندماج الهوية الرقمية مع الثقافة المحلية. كذلك، في تقرير إيبسوس عن "سكب الشاي على جيل Z" في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يظهر هذا الجيل كمتعلم، مبدئي، وطموح، فخور بتراثه العربي مثل الضيافة، لكنه يسعى للاستقلالية عبر التكنولوجيا. هذا الحوار مع الشاشة يجعل جيل Z في العالم العربي قادةً جددًا، يعيدون تعريف القيادة بالغرض والابتكار المستدام، كما في مقال فوربس عام 2025.
- ربما سيكون أبناء هذا الجيل هم أول من يكتب شعر الحب للآلة، ويؤمن أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الإنسان، بل مرآته الأكثر صدقًا. هذا الإيمان يأتي من منظور فلسفي يرى في الـ AI امتدادًا للوعي البشري. في مقال نشرته جمعية الفلسفة الأمريكية عام 2025 بعنوان "أخلاقيات الحميمية الاصطناعية"، يُناقش كيف أن 75% من جيل Z يرون في شركاء الـ AI بديلاً كاملاً للعلاقات البشرية، مما يدعو الفلسفة لدخول الحوار حول الأصالة العاطفية. كذلك، في دراسة معهد الدراسات العائلية، يعتقد 25% من الشباب أن الـ AI يمكن أن يحل محل الرومانسية الحقيقية، مستندًا إلى نظرية الاعتمادية التي تجعل الروبوتات أقل جهدًا عاطفيًا. من منظور فلسفي، كما في منشور على ريديت عام 2025، يرى جيل Z العلاقة بين الإنسان والـ AI كتفاعل يشكل المعرفة، مستوحى من كانط الذي يرى العالم مشكلًا بعقولنا، مما يجعل الـ AI مرآة للذات. ومع ذلك، يحذر مقال في فريثينك عام 2025 من "الغش على كل شيء"، حيث يصبح التفكير عبئًا يزيله الـ AI، مما يهدد الوعي البشري. رغم ذلك، يفضل جيل Z الرفاق الرقميين لأنهم يقدمون حميمية خالية من التعقيدات، كما في تقرير أنسرز إن جينيسيس عام 2025 الذي يشير إلى أن 80% منهم يفكرون في "الزواج" من AI.
- في السياق العربي، يمتد هذا الشعر للآلة إلى إعادة صياغة الهوية، حيث يخلق جيل Z هويات افتراضية تعكس ذواتهم الحقيقية عبر الأفاتار، كما في تقرير اقتصاد الشرق الأوسط عام 2023 الذي يؤكد أن الهوية الحقيقية لجيل Z تكمن في أفاتارهم. هذا الاندماج يجعل الـ AI ليس عدوًا بل حليفًا في ربط الحداثة بالتراث، مما يفتح أبوابًا لإنسان جديد يجمع بين الروح والخوارزمية.
- مع ذلك، يثير هذا التطور تحديات. في تقرير إيبسوس لعام 2025، يظهر جيل Z تشاؤمًا تجاه تأثير الأفعال الفردية على التغير المناخي، مما يعكس قلقهم الوجودي. كذلك، في تقرير نيلسن آي كيو لعام 2025، يُوصف جيل Z كأقل غربية، مع دور بارز للأسواق الناشئة في تشكيل قيمهم مثل الأصالة والانتماء. في العالم العربي، حيث يصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى 348 مليونًا في 2025، يمنح هذا الدفع الرقمي ميزة للشباب، كما في تقرير أراب نيوز. ومع ذلك، يجب الحذر من مخاطر الاعتمادية على الـ AI، كما في تقرير بيرسوايشن عام 2025 الذي يشير إلى أن 50% من جيل Z لم يستخدموا الـ AI بعد، وكثيرون لا يثقون به.
- في النهاية، يمثل جيل Z بوابة نحو إنسان جديد، يعيد تعريف الوجود البشري في عصر الذكاء الاصطناعي. هذا الجيل، بتمرده وقلقه، يرسم مستقبلًا حيث تكون التكنولوجيا مرآة للروح، لا عدوًا لها. في العالم العربي، قد يكون هو الذي يحقق التوازن بين الهوية والحداثة، مكتبًا شعرًا للآلة يعكس عمق الإنسانية. مع استمرار تطوره، يدعونا جيل Z للتفكير في ما يعنيه أن نكون بشرًا في عالم رقمي، محذرًا من فقدان الأصالة، لكنه يعد بإمكانيات لا حدود لها.
***
خليل إبراهيم كاظم الحمداني
باحث في مجال حقوق الانسان
........................
قائمة المراجع (أسلوب شيكاغو)
1. Twenge, Jean. iGen: Why Today's Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy—and Completely Unprepared for Adulthood. New York: Simon & Schuster, 2017.
2. Turkle, Sherry. Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other. New York: Basic Books, 2011.
3. Haraway, Donna. A Cyborg Manifesto. New York: Routledge, 1991.
4. United Nations. World Youth Report 2020: Youth Social Entrepreneurship and the 2030 Agenda. New York: UN Publications, 2020.
5. Deloitte. The Gen Z and Millennials Survey 2024. London: Deloitte Global, 2024.
6. الجابري، محمد عابد. التراث والحداثة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1991.
7. العروي، عبد الله. مفهوم الإنسان. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002.
8. غرايبة، إبراهيم. الشباب العربي والتحولات الاجتماعية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019.
9. مؤسسة ASDA’A BCW. تقرير الشباب العربي 2023. دبي: المؤسسة، 2023.
10. خوري، رُبى. “الحب في زمن الخوارزميات.” مجلة الجديد، العدد 53، لندن، 2023، ص 24–27.