آراء
سلام المالكي: لعنة سكوبس.. الى اين المسير؟

يقال للـ"ذكي" انه يضع العربة امام الحصان، وهو الذي "يمتلك!!!!!!" موهبة وضع الأولويات وتوجيه الموارد البشرية والمالية وجهتها المناسبة. لست أجد اقرب من ذلك المثل لوصف حال من يسّخر معظم موارده باتجاهات شتّى ليست من ضمنها المتطلبات الأساسية للبنية التحتية الأولية، ومن تلك الموارد ما يتعلق منها بجهود وأموال أساتذة الجامعات والإدارات التنفيذية فيها. واحدة من تلك الاتجاهات او التوجهات هي "حتمية" النشر في مجلات ضمن مستوعبات سكوبس سيئة الصيت للحصول على تقييم او ترقية، والسوء هنا ليس بماهيتها ولا آلياتها، بل هو سوء يمكن ان يقال انه سوء فهم واستيعاب لامكاناته وسوء استخدام........!!!!
تعريف بسيط لذلك المستوعب، لمن قد لا يعرفه، انه منصة ربحية أنشأها مجموعة من الشخوص، كما حال أية شركة لها رأسمال وتضع آليات تضخيمه من أرباح خدمات للمستفيدين (سنرى من هم المستفيدين). تلك المنصة وضعت آليات (لا بأس بها عموما، وان كانت مطاطة وكيفية في كثير من ألاحيان) لادراج المجلات العلمية بكل مجالاتها بادّعاء انها مجلات رصينة. وقد وضعت تلك العقول الشاطرة آليات تقييم وتنقيط للمجلات لاضفاء نوع من التفخيم لعملها مما يـ"بقبق" عيون المسؤولين في جامعات افريقيا وبعض دول اسيا ومنها الصين (اذ لا أهمية تذكر لها في اميركا واوربا)، وكل منها لديه دوافعه الخاصة، فلننظر ما هي.
جامعات الصين وماليزيا والهند، تحديدا، وبعد الطفرة الانفجارية لدول العالم ما تحت الثالث في "توريد" جيوش من الطلبة "غير المؤهلين غالبا" للدراسات الأولية والعليا نتيجة ظروف شتّى أهمها فساد الأنظمة الإدارية في تلك الدول ووضع العناوين والشهادات أولوية لتسلق مناصب السلطة، باتت تلك الجامعات محجا لكل ضعفاء التعليم ومؤسساتهم المحلية، وليس افضل من عبارات مثل تقييم سكوبس والارباع والتصنيف ووو بقية الجنجلوتية، لجذب مثل أولئك الزبائن الباحثين عن عناوين لا اكثر. اما بقية جامعات افريقيا واسيا ومنها العربية فهي "في الغالب" تبحث عن ال"كشخة" دون أهلية حقيقية تنبيء عنها بنيتها التحتية من مختبرات وقاعات وآليات عمل إدارية وفنية، على مبدأ " من بره هلله هلله ومن جوه يعلم الله". وحتى في دول مثل السعودية التي تمتلك ارقى الإمكانات البنيوية، فالشيوخ المسؤولون يستهدفون التباهي مع اقرانهم اكثر مما هي الناحية العلمية او الأدبية.
الأصل في البحث العلمي كما هو حاصل في جامعات اميركا واوربا الرصينة هو محاولة الإجابة على الأسئلة البحثية الواردة من: فجوات معرفية "انتباه على كلمة محاولة وليست إيجاد حلول قاطعة بالمطلق"، او تحديات مجتمعية، او احتياجات الصناعة، أو برامج تمويل كبرى (مثلاً NIH في أمريكا أو Horizon Europe في أوروبا). يتم العمل عليها بأسلوب علمي مدعم بالتجهيزات والموارد الضرورية والتي غالبا ما تتوفر عن طريق الجهات المستفيدة، كأن تكون حكومية مثل (NIH, NSF, EU grants).، او صناعية (شركات تكنولوجيا، أدوية، طاقة…)، او منظمات غير ربحية مثل Wellcome Trust، Gates Foundation . هنا لا يبدأ البحث إلا بميزانية كافية تغطي رواتب الفريق، الأجهزة، التجارب، تحليل البيانات، إلخ.، بعد جلسات وحوارات مطوّلة مع الفريق البحثي الذي يتوجب عليه تقديم ما يقنع الممول بجدوى التمويل. بعد التوصل لنتائج حقيقية يتم التفكير والتوافق على النشر واختيار المجلة المناسبة بل وحتى اختيار ما ينشر منها وما هو ليس قابلا للنشر بسبب قيمته المادية او المعنوية. اذن ليس النشر بحد ذاته دافعا معتبرا لدى الجامعات الرصينة ومسؤوليها. بينما العكس تماما في الجامعات المتأخرة حيث يكون اصل العملية مجرد“فكرة يمكن أن تنتج بحثا” بدلًا من سؤال بحثي حقيقي له أثر علمي أو مجتمعي، يرافقه غالبا ان لم يكن دوما ضعف او انعدام تام للدعم والتمويل والمتطلبات حتى البسيطة منها، اذ ان الجامعات ترى ان الترقية العلمية للباحث منّة يتوجب عليه بذل كل شيء من اجلها.
سؤال آخر قد يكمل الصورة أعلاه: ما الفائدة التي تجنيها المؤسسات الاكاديمية من ارتفاع عدد البحوث ضمن مستوعبات سكوبس/كلاريفيت او غيرها؟ بل وما الذي تجنيه المؤسسات الاكاديمية من ارتفاع التصنيف العالمي لها (البعض من بسطاء المعرفة يتوهم ان هذه مرتبطة بتلك أساسا)؟
الإجابة بسيطة: حين يكثر باعة البضاعة الممتازة وتكون لديهم القدرة على تجهيز الكميات المطلوبة، يكون الإعلان التجاري المشوّق خير وسيلة للتقدم. الجامعات الأميركية والاوربية تعمل على الارتقاء بتصنيفها العالمي من خلال تطوير الإمكانات البشرية والفنية واللوجستية واجتذاب الخبرات المتميزة والاستجابة السريعة للاحتياجات المتسارعة في منطقتها والعالم وبذلك ستجتذب زبائن اكثر او اعلى قدرة مالية. فما هو دافع الجامعات التي بالكاد تتوفر لديها قاعات دراسية ليست سوى أربعة جدران وسقف وأرضية وتفتقر لابسط المستلزمات "الحقيقية، وليس على الورق" لاستيعاب الاعداد الموجودة فيها أصلا. ما الذي ستجنيه تلك الجامعات ان قيل انها دخلت في التصنيف العالمي ورقيا، او قيل ان عدد بحوثها في سكوبس عشرات/مئات الالاف؟، بينما تتوجه للدكاكين المسماة مكاتب استشارية او هندسية او طبية لحل مشاكلها البسيطة، كون البحوث المنشورة لا تعدو كلمات مسطرّة على ورق لا يقرؤها سوى كاتبها "ان كان فعلا كاتبها"؟؟ هذا لا يلغي وجود الكثير من البحوث التي "قد" تتضمن بيانات او اكتشافات او تحليلات تستحق النظر والإشادة، لكنها في الغالب ستهمل حال إدخالها ضمن بيانات الباحث لأغراض الترقية.
لو أجرينا حسبة سريعة للاموال التي تذهب للمجلات الصينية/ماليزية/إيرانية/هندية... وبأخذ مبلغ 1000 دولار كمعدل لاجور النشر في مجلات ضمن مستوعبات سكوبس وكلاريفيت (المجلات التي تؤكد عليها الوزارة ضمن الربع الأول لا تقل أجور النشر فيها غالبا عن معدل 2500-3000 دولار)، ومع الزام غير مفهوم وغير عادل لطلبة الدكتوراه والماستر بالنشر في تلك المجلات (2-3 بحوث)، ومن بيانات الوزارة ان عدد البحوث المنشورة على تلك المستوعبات بين 2021-2025 يتجاوز 120 الف بحث، تكون النتيجة حوالي 120 مليون دولار " بالتأكيد هذا رقم تقريبي قد يقترب او لا يقترب من الرقم الحقيقي". اليس هذا رقما مهولا؟ علما انه يخرج من جيوب اضعف فئة في البلد " الضعف هنا ليس ماليا بالدرجة الأولى، رغم انهم ليسوا ضمن الطبقات الميسورة بالتأكيد...!!!". يضاف لذلك المبلغ ما لا يقل عن 3 اضعافه هي تكاليف ابسط بحث علمي رصين "هذه يفهمها العلماء والمتخصصون فقط، اذ ان احد المسؤولين، وكان رئيس جامعة يوما ما، يؤمن ان البحث العلمي مجرد صورة يسحبها الباحث من الانترنيت، حسب وصفه حرفيا". اذن نحن نتكلم عن ما يقارب نصف مليار دولار!!!. ما العائد الذي جنته الجامعات او البلد من ذلك؟ في بلد يئن يوما بعد يوم من العطش والجفاف والجدب بسبب تخلف منظوماته الاروائية والزراعية، والطاقة الكهربائية مشكلة تبدو سرمدية وفضاؤه مخترق على مصراعيه واتصالاته بيد شركات إماراتية/كويتية/قطرية، ويستورد معظم احتياجاته البسيطة من دول الجوار. المثير ان الكثير الكثير من البحوث المذكورة تتعلق بمواضيع الطاقة والطاقة المتجددة والذكاء الصناعي وانترنيت الأشياء....الخ.
الخلاصة، لا مانع ابدا ولا ضير من السعي نحو النشر في المجلات الأعلى رصانة، على ان تكون وسيلة لا غاية. الأصل ان تعمل الوزراة باعتبار السيطرة المركزية لها على المؤسسات الاكاديمية لتنمية البنى التحتية والموارد البشرية ودعمها للبحث والدراسة في مواضيع الاحتياجات والتحديات الوطنية دون ضغوط او قيود حول أسلوب النشر وجهة النشر. الأصل ان يتم التقييم على مدى الإفادة المتحصلة من البحث (بعد توفير الدعم الحقيقي)، وإزالة العقبات البيروقراطية امام التمويل الحكومي وغير الحكومي وتشجيع القطاع الخاص على الدخول على الخط. الإعلان والاعلام لا يبني مؤسسات رصينة بل العكس هو الصحيح، حيث ان البضاعة الممتازة تعلن عن نفسها وحينئذ سيأتيكم الاعلام والإعلان راكعا لا مرتزقا كما هو الحال اليوم "ادفع لتظهر على التلفاز او إعلانات الشوارع"......!!!
أقول قولي هذا ولي الله تعالى فيما قد اجد من جرّاءه..... والى الله المصير...
***
أ.د. سلام جمعه باش المالكي