آراء
عبد السلام فاروق: معركتنا بين العلم والغيبات

لا يزال الفكر العربي الإسلامي، في كثير من تجلياته، يراوح بين سطوة الماضي وضرورات الحاضر، بين سلطان الغيب وإلحاح العقل، بين الأسطورة التي تريح الضمير والواقع الذي يفترض اليقظة. وهو في هذا التردد يخسر نفسه قبل أن يخسر قضيته، ويهزم روحيًّا قبل أن يهزم ماديًّا. فما بالنا نرى هذا الفكر، كلما اشتدت به الأزمات، التفت إلى الغيبيات يستمد منها العزاء، بينما خصومه يلتفتون إلى العلم ليستمدوا منه القوة؟
لقد صدق من قال إن التاريخ لا يرحم، فهو لا يحابي من ينام على أحلام اليقظة، ولا يكرم من يرفع راية الغيب في معركة تحتاج إلى سلاح العقل. أترى الإمام المنتظر (ع ج) سيخرج لنا من تحت هذه القبة الحمراء، أو من وراء تلك الصخرة المقدسة، ليحارب عنا بدلًا من أن نحارب بأنفسنا؟ وهل يعقل أن نترك مصائرنا لأساطير نؤمن بها، بينما خصومنا يبنون مصائرهم بمختبرات الذرة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي؟
إن الفكر الصهيوني، بكل تشعباته الدينية والسياسية، يقدم لنا درسًا مريرًا في كيف تُحوَّل الأساطير إلى قوة مادية. فهم يرفعون شعارات توراتية مثل "أرض الميعاد" و"الشعب المختار"، لكنهم لا يتركونها حبيسة الكتب المقدسة، بل يطوعونها بمطرقة العلم وسندان التكنولوجيا. فها هم يحولون الصحراء إلى جنات خضراء، والخرافة إلى سياسة دولية، والكلمات القديمة إلى صواريخ عابرة للقارات.
أما نحن، فما زلنا نردد: "سيفعل الإمام كذا"، "سيأتي المهدي حين يشاء"، "إن الله سينصرنا"، وكأن النصر سينزل علينا من السماء بغير جهد منا، أو كأن الغيب سيحارب عنا بدلًا من أن نحارب بالعلم والمنطق. أليس من العار أن نرى أعداءنا يستثمرون كل لحظة في بناء المستقبل، بينما نحن نستثمر أوقاتنا في انتظار المعجزات؟
لست هنا أدعو إلى القطيعة مع التراث أو التخلي عن الإيمان، ولكنني أدعو إلى أن نضع كل شيء في موضعه. فالإيمان روح تبعث فينا القوة، لكنه لا يغني عن العقل الذي يخطط، ولا عن العلم الذي يبني. والغيب قد يكون ملاذًا للقلوب المضطربة، لكنه لا يكون خطةً للعقول الحائرة.
إن الأمم التي تريد الحياة لا تعيش على هامش التاريخ، منتظرة من يكتب لها نصرًا لم تسع إليه. والأفكار التي تريد البقاء لا تتوارى خلف الغيبيات كلما هبت رياح التحدي. فليكن إيماننا حافزًا لا عائقًا، وليكن تراثنا إرثًا نبنى عليه لا سجنًا نحبس أنفسنا فيه. فهل نفيق من سباتنا قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه الصحوة؟
ما أقسى أن تكون الهزيمة مرة في مذاقها، ولكن الأقسى منها أن تحلى بشراب الوهم، فيصبح الهروب إلى الخيالِ بديلًا عن المواجهة، والاستسلام للخرافة عوضًا عن التحرير. فالفكر العربي الإسلامي، في كثير من تجلياته، يعلن هزيمته يوم يلجأ إلى الغيبيات لتعويض عجزه عن الفعل، ويوم يختزل التاريخ في انتظار منقذ أسطوري، بينما يصنع الآخرون تاريخهم بأنفسهم.
لقد صدق الشاعر حين قال: "وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا". فها هي إسرائيل، بكل ما تحمله من أساطير توراتية، لا تكتفي بتلاوة نصوصها المقدسة، بل تحولها إلى وقائع ملموسة: فـ"أرض الميعاد" تستخرج من الصحراء بالري الذكي، و"الشعب المختار" يثبت تفوقه بالعلوم لا بالادعاءات. أما نحن، فما زلنا نردد كالمسحورين: "الغرباء سينتصرون"، "الظهور قريب"، وكأننا نستعير نصرًا لم نُعدّ له عدته!
لأنهم يفصلون بين "الإيمان" و"العمل"، بين "الروحي" و"المادي". فهم يؤمنون بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أما نحن فنتصور أن التغيير يأتي بالدعاء وحده! لقد حوّل الصهاينة أساطيرهم إلى مشاريعَ سياسية وعسكرية واقتصادية، بينما حولنا نحن حقائقنا إلى أوهام. هم يقرأون التوراة ثم يخترعون طائرات "الستيلث"، ونحن نقرأ القرآن ثم ننتظر المهدي ليُصلح لنا أمرنا!
أليس من التناقض العجيب أن نرفض "الخرافة الصهيونية" بحق، ثم نعتنق خرافاتنا بحماسٍ أعمى؟ أليس من العار أن ندرك زيف "شعب الله المختار"، ثم نعتقد أننا "خير أمة أخرجت للناس" دون جهد يثبت هذه الخيرية؟
الغيب: ملاذ أم مأزق؟
لا غنى للإنسان عن الغيب، فهو يعطي الحياة معنى، ويضفي على الوجود روحًا. لكن الغيب يصبح نقمة حين يتحول إلى عكاز نعجز عن المشي بدونه، أو إلى سجن لفكرنا. فما الفرق بين من يقول: "سيدمر الله إسرائيل بصاعقة"، وبين من يقول: "سيأتي المسيح ليقضي على الأشرار"؟ كلاهما يبرر الكسل، وكلاهما يُؤجل المواجهة.
لقد حول الغرب المسيحية – ذات الخلفية الغيبية العميقة – إلى قيم إنسانية وعلمانية تخدم الحياة، بينما ما زلنا نحن نتعامل مع الإسلام كأسطورة مقدسة لا كمنهج حياة. حتى العلم عندنا يصبح "فرض كفاية"، بينما الجدل حول "حلق اللحية" يصبح "فرض عين"!
كيف نحرر الفكر من سطوة الوهم؟
1. بفصل الدين عن السياسة: ليس بمعنى إقصاء الدين، بل بمنع توظيفه لخدمة الهزيمة. فالدين يجب أن يكون مصدر إلهام لا بديلًا عن العقل.
2. بتبني العقلانية النقدية: فليس كل قديم مقدسًا، وليس كل حديثٍ مُنكرًا.
3. باستعادة الثقة بالعلم: فالأمة التي لا تنتج علمًا، تستهلك حتى دينها بجهل.
4. بمواجهة الذات قبل الآخر: فعدونا الحقيقي ليس الصهيونية وحدها، بل ثقافة الهروب من المسئولية.
انتظار المعجزة هو بداية النهاية
إن الأمم التي تنتظر منقذًا من السماء، تعلن – دون أن تدرك – أنها قد استسلمت للأرض. فالمهدي لن يأتي لشعبٍ لا يستحق النصر، والله لا ينصر أمة لا تنصر نفسها. فهل نستفيق قبل أن يصبح انتظارنا ضربًا من العبث، وقبل أن تتحول غيبياتنا إلى نكتة يرويها الأعداء؟
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" لكننا للأسف نريد أن يغير الله ما بنا، دون أن نغير ما بأنفسنا!
***
د. عبد السلام فاروق