آراء

عبد الحسين الطائي: زلزال 14 تموز 1958 هزّ مراكز القرار الغربي

كانت ردود الأفعال الغربية، لا سيما البريطانية والأمريكية على ثورة 14 تموز 1958 في العراق صادمة أصابت صانعو القرار الغربي بـالذهول فور إعلان نجاح الثورة ومقتل بعض أفراد العائلة المالكة، لأنه لم تكن لديهم معلومات استخباراتية كافية تتنبأ بحدوث انقلاب بهذا الحجم، حيث وصفت الحدث بأنه "زلزال". تلقت العواصم الغربية هذا التحول المفاجئ بانزعاج كبير جعلها تعيد صياغة حساباتها في الشرق الأوسط، لأن حِراك تموز شكل نقطة تحول فارقة من صدمة فقدان النفوذ، سواء من الناحية السياسية أو الإعلامية أو الاستراتيجية.

لم تكن ثورة 14 تموز، من المنظور الغربي، مجرد انقلاب عسكري داخلي، بل زلزال جيوسياسي هدد مصالحهم في المنطقة، لا سيما في ظل أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة في تلك الفترة. فوجئ الغرب بسرعة وسهولة الإطاحة بالنظام الملكي، الذي كان حليفاً استراتيجياً ضمن "حلف بغداد". أسهمت الثورة المقرونة بالحِراك الشعبي في تقويض الحلف الغربي بالمنطقة بحيث أعاد رسم خريطة تحالفاته في الشرق الأوسط، بفعل الخوف الحقيقي لديهم من تمدد النفوذ السوفيتي واحتمالية انجراف العراق نحو المعسكر الشرقي.

كانت الرؤية البريطانية للنظام الملكي العراقي بأنه أحد أبرز أذرع نفوذها في الشرق الأوسط، من بوابة حلف بغداد الذي كان جزءاً من استراتيجيتها لاحتواء دول المعسكر الاشتراكي. شعرت بريطانيا بخيبة كبيرة بفقدان نفوذها بخسارة أحد أعمدة "حلف بغداد"، ولذلك حاولت التأثير لاحقاً عبر قنوات غير مباشرة بمراقبة النظام الجمهوري الجديد بحذر، ولم تندفع إلى مواجهة مباشرة خشية الانجرار إلى صراعات مفتوحة.

وبحكم معرفة الغرب بدول المنطقة، أدركوا بأن القوة الناعمة لوحدها لم تعد كافية لإعادة الهيمنة على العراق، مما دفعهم إلى تنويع أساليب وأدوات التدخل من خلال الدعم الاستخباراتي والتعاون مع بعض الانظمة الإقليمية الموالية. فعملت على دعم هذا التوجه الذي دعاها إلى التمسك بإعادة تقييم البعد الاستراتيجي بحلفائها في المنطقة خشية أن تنتقل العدوى الثورية إليهم.

وبعد أن وصفت الوثائق البريطانية الأحداث بأنها "كارثة دبلوماسية"، رأى الغرب في ثورة 14 تموز لحظة خطيرة، ليس لأنها أطاحت بنظام حليف، بل لأنها فتحت الباب أمام مرحلة من القومية العربية والتقلبات السياسية التي لم تكن منسجمة مع المصالح الغربية. ومع مرور الوقت، انتقل الغرب من الصدمة إلى محاولة التأقلم مع النظام الجديد ومحاولة فهم طبيعة التحولات في العراق والمنطقة.1678 newspaper

وباستكشاف وثائق أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، ووزارة الخارجية البريطانية، بالإضافة إلى ما كشفته (CIA،MI6) عبر وثائق منشورة، ندرك مصداقية هذا التوجه من خلال البرقيات الفورية الصادرة من السفارة البريطانية في بغداد إلى لندن التي وصفت الأحداث بأنها: "إطاحة دموية مفاجئة ومدمرة، قلبت التوازن الإقليمي الهش في الشرق الأوسط". إحدى المراسلات المؤرخة في 15 تموز 1958 أوردت: "لم يعد بالإمكان اعتبار العراق دولة صديقة في الوقت الراهن... المصالح البريطانية النفطية في خطر، ويجب تقييم الوضع الأمني في الخليج والأردن فوراً". وهناك برقية من السفير الأمريكي في بغداد إلى واشنطن بتاريخ 14 تموز 1958: "نحن بصدد تطور خطير، الحكم الملكي انتهى. الضباط الجدد لا يُظهرون ميولاً شيوعية مباشرة، لكن علينا مراقبتهم عن كثب." ومذكرة من "جون فوستر دالاس"، وزير الخارجية الأمريكي إلى الرئيس أيزنهاور: "إذا انجرف العراق إلى دائرة النفوذ السوفيتي، فستكون ضربة استراتيجية تماثل فقدان إيران عام 1953... لكن علينا أن نتحلى بالحذر في التدخل."

مراسلات تعكس مدى عمق الصدمة المفاجئة، وهناك الكثير من التقارير التي نشرت لاحقاً أكدت بأن استخبارات (MI6) بدأت على الفور بمتابعة الوضع الأمني والسياسي داخل العراق، وناقشت العديد من السيناريوهات التي تصب في دعم الضباط القوميين المعادين للثورة، وتنسيق مع بعض الأطراف في داخل الجيش العراقي لشن انقلاب مضاد، وتمويل بعض الصحف العراقية الصفراء المعارضة داخل العراق. وساهمت بعض وسائل الإعلام الغربية في شيطنة توجهات الثورة من خلال التركيز على العنف وتسليط الضوء على مقتل الملك فيصل الثاني، والأمير عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد، معتبرة أن استخدام العنف في عملية تغيير السلطة شكل صدمة حضارية.

قامت الاستخبارات البريطانية (MI6) بمحاولات لزعزعة النظام الجديد أو التأثير عليه من الداخل، بما في ذلك تقديم الدعم لبعض الفصائل المعارضة بشكل سري. دعمت بشكل مباشر الأنظمة الملكية في الأردن والسعودية ودول الخليج، وعززت العلاقات مع شاه إيران، وكثفت الوجود العسكري والاستخباراتي في الخليج العربي.

وعلى الرغم من الموقف الأمريكي الداعم لحلف بغداد، إلا أنه كان أقل انخراطًا من بريطانيا، لم ترتبط بنفس العمق التاريخي أو النفوذ المباشر في العراق. كان موقف الولايات المتحدة مضطرباً، اعتبرت الثورة تهديداً للتوازن الاقليمي وضربة قوية للمصالح الأمريكية بالمنطقة. اكتفت امريكا بإنزال قوات المارينز في لبنان بناءً على طلب الرئيس اللبناني "كميل شمعون" الذي خشي أن تمتد آثارها إلى لبنان. أخذت أمريكا تراقب الأحداث بحذرعلى ضوء حساباتها المتعلقة بالحرب الباردة، وتوجسها بأن يستغل الاتحاد السوفيتي الثورة لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط.

تعاملت إدارة الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" مع الحدث كأزمة إقليمية تحمل تداعيات استراتيجية في إطار الحرب الباردة، وجرى التداول في البنتاغون حول إمكانية التدخل العسكري لحماية المصالح، لكن القرار النهائي كان الامتناع عن التدخل المباشر، وفضّلت العمل عبر القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية، وبتنسيق مع بريطانيا. وفيما بعد بدأت (CIA) محاولات لاختراق النظام الجديد أو التأثير فيه أو الانقلاب عليه. بعد عام 1959، بدأ التنسيق السري مع عناصر من بعض القوميين والبعثيين الناقمين على الزعيم عبدالكريم، واحدة من تلك المحاولات التخطيط لعملية اغتيال الزعيم عام 1959. أثمرت الخطوات التآمرية الداعمة للقوى المناهضة للثورة بانقلاب 1963، الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة.

كانت تعليقات البعض من النواب البريطانيين في مجلس العموم على حِراك 14 تموز 1958، متباينة، بعضهم أشار إلى أن الذي حصل في العراق كان تمرداً داخلياً ضد تصاعد وتيرة القمع الداخلي. وأشار أحد النواب إلى أن السلاح الذي استُخدم في الثورة كان من مخزون الجيش العراقي المدعوم من بريطانيا، والثورة كانت حركة حقيقية وشعبية ولكنها تفتقد إلى الشرعية الدستورية، لأنها جاءت عن طريق انقلاب عسكري. وغياب العمليات المسلحة والجيش الذي تبع الثورة، أكد بأن الثورة لم تكن مدفوعة من قوى خارجية، بل كانت فعلاً داخلياً من نخبة من الضباط العراقيين، وبقيادة وتفويض شعبي، وأسبابها كثيرة أبرزها الفقر، التفاوت الطبقي، وتراكم الثروة بيد نخبة ضئيلة من رجال السلطة، إضافة إلى حساسية تبعية النظام الملكي إلى الجهات الأجنبية.

نقلاً عن صحيفة "الحوادث" اللبنانية العدد (151) الصادرة بتاريخ 14 تموز 2021، التي ذكرت بأنه أثناء تأبين مجلس العموم البريطاني، ضحايا العائلة المالكة في العراق، وقف أحد أعضاء حزب العمال البريطاني يتساءل في سخرية مريرة يوم اعلنت بريطانيا الحداد على عملائها الذين مُزقت جثثهم في بغداد قائلاً: اهكذا تنهار في ساعة واحدة كل القواعد التي بنيناها طيلة أربعين عاماً في العراق. ويتساءل: أمن المعقول أن ينتهي كل شيء في طرفة عين. أرجو أن لا أكون مغالياً إذا قلت أن الكثير من المؤرخين سيذهبون إلى أن الثورة الفرنسية تعتبر تافهة بجانب الثورة العراقية. كان في فرنسا سجن باستيل واحد ولكن في العراق عشرات السجون التي لا يُعد سجن الباستيل بجانبها شيئاً يذكر. ويكفي تسليط الضوء على السجن المشهور باسم "نقرة السلمان".

وفوق كل هذا كان في العراق كل الأجهزة الغربية وحلفائها بالمنطقة في إطار حلف بغداد، وهناك السفير البريطاني "مايكل رايت" حاكم العراق الفعلي الذي كان يعتقد أن طيراً لا يجرؤ على التحليق في سماء بغداد قبل أن يستأذن من السفارة البريطانية. كل هذه الأجهزة كانت تكتم أنفاس العراقيين ولكنها عجزت عن معرفة ما كان يجري في ضمائر الأحرار الذين كانوا يعدون العدة وينتظرون ساعة الصفر.

ملاحظة: مصدر صحيفة "الحوادث" من مؤرخ ثورة 14 تموز الأُستاذ هادي الطائي، علماً هو من شارك مع نخبة من المواطنين الوطنيين صبيحة الثورة، وله صور توثق ذلك أمام مبنى السفارة، في اسقاط تمثال الجنرال مود قائد الحملة البريطانية لاحتلال بغداد عام 1917.

***

د. عبد الحسين الطائي - أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

في المثقف اليوم