آراء

عبد السلام فاروق: سلاح ذو حدين

نكرهها ولا نطيق البعد عنها!

شعور غالب على أكثرنا في تعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت كأنها لعنة لا فكاك منها! وهي في ذاتها كأي شيء في هذه الحياة: لها مزايا وعيوب، نصفها حلو ونصفها مرير، يختلط فيها الخير والشر معاً..

 وفي مصر غلبت الثقافة الاستهلاكية محاولات القليل ممن استطاعوا الاستفادة من فوائد التقنيات. حتى على نطاق الدولة والحكومة؛ ففي حين سعت الدولة لرقمنة الخدمات، وتقنين التقنيات، ما زالت فئة من المتشبثين بالماضي يصرون على النمط الورقي القديم والروتين الحكومي العقيم!

 وفي حين قطعت الدول المتقدمة أشواطاً هائلة في التقدم التكنولوجي، ما زلنا في سجالنا وجدلنا الضيق في الدول النامية حول استهلاك التقنيات، مفيد أم ضار؟ صحي أم معيوب؟ جائز أم مكروه؟ فيه الخير أم منه الشر؟

النبش عن الحرية

 تحت عنوان: "عالم الفوضى الافتراضي، بين الغابات الرقمية السحرية وأوهام الحرية" تحدثت في كتابي: (مصر في عالم مضطرب) الصادر عن هيئة الكتاب منذ نحو عامين مضيا حول مسألة الحرية كمحور ومرتكز تدور حوله الأنشطة البشرية في مختلف الأزمان. وأن تطور مفهوم الحرية فلسفياً انتهي إلى مرحلة ربطت بين التقنية والحرية فيما عُرف في الستينيات بـ “سوسيولوجيا الاتصال والميديا" عندما تحدث الفلاسفة المعاصرون أمثال: رولان بارت وإدجار مولان عن مدي ارتباط مفهوم الحرية بثقافة الدعاية والاستهلاك والسينما باعتبارها أنشطة إنسانية مُحدَثة.

 ثم نشأ مفهوم جديد للحرية ارتبط بالتقنيات فيما أسماه سكينر: "تكنولوجيا السلوك الإنساني"، وهو المفهوم الذي نظر إلى الحرية باعتبارها ردة فعل انعكاسية ضد أي تهديد؛ حتى أن عمليات حيوية كالعطس والإخراج اعتبرها نوعاً من التحرر العضوي الوظيفي. وأن سعي الإنسان لتوفير سبل المعيشة والرفاهية هي محاولة منه للتحرر من العوز والحاجة. وبهذا المفهوم تمثل الحرية حافزاً للتطور على المستويَين الاجتماعي والفردي. وبهذا المعني تصبح وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا ردة فعل تجاه الواقع المؤلم، ويصبح كل روادها باحثون عن حرية يفتقدونها في عالمهم الواقعي فينبشون عنها في العالم الافتراضي..

 ولأن الهدف لدي مستهلكي التقنيات يقف عند تحقيق رغبات نفسية ضيقة كالتعزيز الاجتماعي وحصد اللايكات والإعجابات والتعبير عن الذات بأسهل العبارات والصور، انقسم العالم الافتراضي للسوشيال ميديا إلى ثلاثة أقسام: قسم مستهلك يكتفي بالأهداف السطحية للتقنية، وقسم من صغار المنتجين يستطيعون استغلال السوشيال لدعم جيوبهم ومحافظهم المالية فلا يقفون عند حدود الأهداف الضيقة للتكنولوجيا، والقسم الثالث يمثل هؤلاء الذين يهيمنون على إدارة منظومة السوشيال والتحكم في آلياتها ومنهجها وتنظيم محتواها وفرض سياستهم الإدارية والفكرية على رواد وسائل التواصل ومستهلكيها وفي نفس الوقت يحصدون أضخم العوائد والفوائد.

 معني هذا أن الحرية المكذوبة التي يفتش عنها رواد السوشيال ميديا باتت خيوطها تتجمع في أيدي واضعي السياسات العامة ممن يناصرون الصهيونية ضد الحرية، ويؤثرون مصالحهم الخاصة على المصالح الدولية. ومن هنا تنشأ قيود جديدة على الحرية الوهمية داخل الشبكة العنكبوتية.. كما تنشأ حالة من التحكم العقلي الجمعي يمكن تشبيهها بحالة القطيع!

حالة فوضوية مخيفة

 الأرقام والإحصائيات تكشف لنا مدي فداحة تأثير الشاشات الرقمية على مجتمعاتنا..

عدد مستخدمي وسائل التواصل في مصر اليوم وصل لنحو 94.3% من تعداد السكان، وهذه النسبة تشمل الصفحات المكررة، فالبعض لديه عدد من الصفحات الشخصية والتجارية. وينفق المصري نحو ثلاث ساعات في المتوسط في متابعة وسائل التواصل والتفاعل معها، وهناك من يقضي يومه كله يتابع الأخبار والبوستات واللايكات كأنها حالة إدمان مفرطة. وتصل نسبة المعرَّضين لخطر الاكتئاب بسبب العزلة الاجتماعية التي يفرضها السمارت فون على مقتنيه إلى حوالي 13% من المصريين وأكثرهم من المراهقين والشباب!

 هناك دراسات بحثية كثيرة تفيض في شرح وتحليل مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها دراسة جامعية لباحثة بجامعة الإسكندرية توصلت فيها إلى مدي حجم المخاطر الصحية والنفسية والاقتصادية على الأفراد من إدمان استخدام الإنترنت والسوشيال ميديا، وأكدت الدراسة تعرض مختلف الشرائح البحثية لعدد من المشكلات النفسية المتباينة أشهرها القلق والتوتر والاكتئاب والأرق والإحباط وإدمان الإنترنت. ومشكلات عضوية أهمها ضعف النظر والصداع المزمن وآلام الرقبة وتنميل الأطراف والإعياء والغثيان. ومشكلات اجتماعية كالعزلة الأسرية وهشاشة العلاقات والتعرض للقرصنة والتنمر والتطفل وسرقة المعلومات. ومشكلات ثقافية مثل الغزو الثقافي وانعدام المصداقية والتغريب. ومشكلات اقتصادية تأتي من ارتفاع تكاليف الموبايلات والاشتراكات الشهرية للإنترنت والتي باتت تمثل عبئاً على كاهل رب الأسرة وطلباً من الطلبات الملحة لدي الشباب والأطفال بسبب حالة الإدمان على الألعاب وتوافه المنتجات الرقمية.

 على الناحية الأخرى هناك فوائد جمة للإنترنت والسوشيال ميديا، أهمها الإسهام في التعليم عن بعد والتدريب المهني والكورسات المجانية في شتي المجالات، وهو ما يسهم في استيعاب عدد كبير من الشباب الذين تهددهم البطالة للعمل في مجالات الربح عبر الإنترنت، وهي مجالات متشعبة وكثيرة وسهلة التعلم. غير أن النسبة الأقل من المصريين هم الذين بإمكانهم تجنب جاذبية النمط الاستهلاكي للإنترنت من أجل الاستفادة بالنمط الإنتاجي له. إنه سلاح ذو حدين بالفعل، غير أننا ندمي أيدينا بالإصرار على الضغط على الطرف الحاد الضار الشائك باستمرار!

الرابضون خلف الكواليس

 مسألة الانقياد الجماعي للأفكار الخبيثة الماكرة فيما أسماه البعض "القطيع الرقمي" هي مسألة خطيرة حقاً. وهي تمثل إحدى نتائج الفوضى الخلاقة داخل الشبكة العنكبوتية. والناتجة بدورها من حالة الحرية الفوضوية اللامحدودة في التفاعل مع المنتجات الرقمية المرئية من صور وتعليقات وفيديوهات وأخبار مجهولة المصدر أو مفبركة.

 الخطير في الأمر أن هناك مؤسسات وجهات مشبوهة بات شغلها الشاغل التربص للشباب من أجل التأثير عليهم فكرياً وعقائدياً في إطار ما اشتهر تحت اسم حروب الجيل الرابع..

 وفي محاضرة للباحث أحمد عزت سليم في أحد مؤتمرات اتحاد الكتاب عنوانها: "فاعليات الهندسة الاجتماعية" ، تحدث فيها عن الكيانات والكتل النفعية الرابضة من خلف الحجب لتستغل العالم الرقمي لتحقيق مصالحها على حساب إفساد العقل الجمعي، تلك الكتل والكيانات المحترفة تجيد استخدام مواقع الدردشة وتطبيقات الهواتف الذكية من أجل القيام بعمليات تلصص وتجسس وإشغال وتشتيت وترويج لدعايات كاذبة وأخبار مفبركة.

 المحاضرة عمرها سنوات، رغم هذا كشف فيها عزت أن الكيان الصهيوني مسيطر على شبكة من مواقع وصفحات التواصل، يكتبها عملاؤه باللغة العربية لاستغلالها في الترويج لسياساته وشن حرب إليكترونية تشمل حرب معلومات وعمليات تجسس. يستخدم فيها الكيان الصهيوني شتي الطرق المريبة للوصول لأهدافه الخبيثة كالتشهير ونشر الشائعات والتحايل والتلفيق وتشويه الحقائق أو استخدام المواد الإباحية والخادشة للحياء من أجل زعزعة العقيدة ونشر الأفكار الهدامة للقيم وللثوابت الوطنية والمخالفة للأعراف.

 وقد شهد شاهد من أهلها؛ إذ جاء أحد مديري موقع فيسبوك عام 2011 في حوار له مع موقع روسيا اليوم فقال: (إن على جميع البشر حول العالم أن يدركوا أن مجرد الاشتراك في الفيسبوك يعني تقديم معلومات مجانية إلى وكالات الأمن الأمريكي لكي تقوم بإضافتها إلى قواعد بياناتهم في مصفوفة تضم سائر المشتركين والمتعاملين مع تلك المصفوفة)!

 ليس باستطاعتي ولا باستطاعة أحد أن يمنع الناس وينهاهم عن استخدام الإنترنت أو وسائل التواصل، لأنها باتت جزءاً من الحياة اليومية للجميع. لكن علينا أن نقنن هذا الاستخدام، أن نحدده ونرشده، أن نكون على حرص وحذر في التعامل مع الكذب المنتشر والمتغلغل في أركان السوشيال ميديا، والأهم أن نكون منتجين مستفيدين لا مجرد مستهلكين له أو مدمنين عليه.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم