آراء

أنور ساطع أصفري: تأثير الحرب الإعلامية في الفكر والأمن والسياسة

نُدركُ تماماً أن الحرب الإعلامية هي بمثابة أخطبوط شرير يُروّج لأفكارٍ هدّامةٍ هدفها تمرير مصالح دولةٍ بعينها أو دول أخرى متعاونة معها، بعد تمرير هذه الأفكار لإختبارٍ دقيق ومدروس  وبشكلٍ مُركّز.

ويبقى الهدف هو نشر معلوماتٍ إعلامية فحواها إشاعات تستهدف البعض أو الجميع بدون أي إعتبار لنتائجها.

وعادةً تُمارس هذه اللعبة الإعلامية من قِبل الدول الكبرى التي تملك تكنولوجيا متطورة مدعومة بمؤسساتٍ إعلاميةٍ نشطة ومتخصّصة.

ومن خلالِ هذا النشاط المشبوه يتم الاستحواذ على الرأي العام ومقاومة ردة فعل الشعوب بقبضةٍ حديدية، من أجل تهجين وتدجين السلوك البشري بشكلٍ عام، وخاصّة في الدول النامية أو المتخلّفة، كشكلٍ من التضليل والإلهاء، وحصدِ تأييد من الشارع بهدفِ الحصول على إمتيازات ومآرب أمّنيّة وفكرية وسياسية وإقتصادية، في ظلِ تنافس إستراتيجي محموم بين الدول، أو بين الشرق والغرب، أو في قارةٍ بمجملها مثل القارة الأفريقية.

وهذه الحرب الإعلامية قولاً واحداً تتنافى والسمو الأخلاقي، وثوابت وقيم رسالة الإعلام والحقيقة.

الحرب الإعلامية والتضليل والتقنيات المُدمّرة كلها تعرّض الحدث والمواقف للسخرية من الآراء والأفكار والبرامج المطروحة، وكل مبتغاها أن تُقدّم المعلومات الخاطئة، وإستفزاز الآخر من خلال نشر الشائعات، ويبقى الهدف هو السيطرة على الفضاء الإعلامي، وتجاهل الآراء ووجهات النظر الأخرى ونفيها، وانتهاك العلاقة المنطقية للأحداث، والتقليل من أهمية العديد من المواضيع غير المرغوبة، وتضفي الرداء الجميل حتّى على الرذائل، مثل زواج المثليين، والإعتداء الجنسي والإغتصاب، وأكل لحوم البشر، والتجارة بالأعضاء البشرية.

بصريح العبارة هي تجريد نهائي من الإنسانية، وتدمير أُسس القيم الإجتماعية التي تربط البشر بعضهم ببعض.

كلّنا تابعنا كيف سلّطت وسائل الإعلام الأمريكية الضوء على عمليات الاغتيال التي قام بها الكيان الصهيوني ضد قادة حماس وحزب الله، والتي قد تتسبب في اندلاع حرب واسعة في الإقليم.

صحيفة نيويورك تايمز وسواها تتبنّى فقط الرواية الاسرائيلية فهي لا تشرح السياق والتاريخ والدوافع المحتملة وراء هذه الاغتيالات، وإضافةً إلى ذلك أن الكثير من التغطيات الإعلامية الأمريكية تؤكّد أن عمليات القتل الإسرائيلية هي أعمال بطولية للدفاع عن النفس وصد المعتدي، بدلاً من حقيقة الواقع التي تؤكّد أن القتل والإبادة هي انتهاكات للقانون الدولي وتهديد مباشر للأمن العالمي.

إن الحقيقة تؤكّد أن نتياهو سيبقي البلاد في حالة حرب ليحافظ على مكانته في السلطة، محاولاً إستدراج أمريكا إلى الحرب، بعد أن قام باغتيال كبير مفاوضي الجانب الفلسطيني.

إن الحرب الإعلامية أصبحت كالفزّاعة الحقيقية التي إمتدّ تأثيرها لجميع طبقات المجتمع، لما يتم الترويج له من حربٍ نووية وحرب المياه والمناخ، والإستغناء عن العنصر البشري، كلّ هذه الأمور تتم في ظلّ سمو وتطور التكنولوجيا الحربية التي تُحاط بمزيدٍ من الكتمان والسرية، إضافةً إلى المُسيّرات والصواريخ متوسطة المدى وبعيدة المدى، والتي ظهرت مؤخراً في الحرب الروسية الأوكرانية، وفي حرب كيان الإحتلال ومحور المقاومة.

الحرب الإعلامية تُصوّر لنا العالم أنّه سينتخبّط ويُصاب بالتصدّع  بالضغط على الزر النووي في أي لحظة، عندها سنفقد أمننا الفكري والأمني لتعمّ الفوضى وينعدم الإستقرار، كما سيتصدع أمننا السياسي من جذوره، ونفقد سيطرتنا في كل الجبهات والإتجاهات.

كما أن المواطن العربي مُصابٌ بالإحباط من المؤسسات الإعلامية العربية وخطابها المهترىء، وهذا الإحباط وصل إلى مرحلة الطلاق بين الطرفين، فالمؤسسات الإعلامية العربية ومن خلال التبعية التي تملّكتها أصبح خطابها رماديّاً بكل أبعاده، إن كان في العناوين العريضة أو في المقالات والتقارير، وخاصّة في هذه المرحلة التي نعيشها من خلال الصراع الصهيوني - الفلسطيني ومحاور المقاومة، بغض النظر إن كان من الإعلام المسموع أو المرئي أو المقروء.

الإعلام العربي نفسه يؤكّد بأن الدول العربية لديها ترسانات من الأسلحة الفتّاكة باختلاف أنواعها وصنوفها.

 لكنها في المستودعات وأصابها الصدأ والاهتراء لعدم استخدامها، إنّه النفاق في المواقف، المفروض من خلال التبعية العمياء.

الوجدان العربي يؤكّد بأنه لا بُدّ من مساءلة الإعلام العربي والقائمين عليه، وهذه المُساءلة هي فرض لا يقبل أي شكلٍ من أشكال التهاون أو التأجيل أو التردد، احتراماً للمواطن العربي وتقديساً لمكانة الأمّة.

أي كائنٍ بشري بطبعه هو يميل للأمن والاستقرار، والشعور بالأمان، وهناك عوامل مهمة لتحقيق ذلك، ويتطلب في المقام الأول:

* أمن البلاد، ونمو الاستقرار الاقتصادي الذي يُعتبر العمود الفقري للحياة، وبدونه تتبعثر كل الأمور، وتنقلب رأساً على عقب.

* والأمن السياسي، الذي يعتبر البوابة الرئيسية للعالم الخارجي، بهدف كسب رهانات الرقي والازدهار والمرتبط بأمن الدولة، وتحررها، والذي يدعم متانة الثبات في اعتماد القرارات الحاسمة.

* والأمن الإجتماعي المهم جداً في الإستقرار بمفهومه الشامل.

* والأمن الفكري الذي يُعتبر أهم حقيقةٍ بحد ذاته، والتي تدور في فلك وجودنا كأمّة تسعى بكلِ جهدٍ لتأمين خطوطها الدفاعية المتقدمة وفي كل الإتجاهات، تحسّباً لكل الايديولوجيات الدخيلة الموجّهة نحونا كغزو، وصدّ هذه الحرب الإعلامية والايديولوجية وهذا الخطر الداهم.

وبكلّ أسفٍ نقول، نعم لقد تمّ استهدافنا وبقوة، بسبب تبعية أنظمتنا  العربية، وتخلّفنا كثيراً، ووصلنا إلى حافة الهاوية، وعلينا عمل المستحيل من أجل إدراك واقعنا، ولملمة الشتات، ومعالجة كل أسباب الانكسارات والتصدعات التي أصابتنا والأمّة.

إن الفكر لا تتحكّم به الحدود الجغرافية، ولا جغرافية المكان، ولا شيء يتحكم بالفكر سوى القيم والثوابت، ولا يخضع لتأشيرة مرور أو لجواز سفر.

لقد تم صناعة وصياغة  الحرب الإعلامية المشبوهة والشريرة بهدف الوصول لغاياتٍ إستراتيجية، لذا من الواجب علينا تحصين وجودنا المقدّس، وإيجاد حلولٍ جذرية ورادعة كي نتمكّن من مواجهة هذا الاخطبوط المشبوه، وتأمين أُمّننا السياسي والفكري والأمني والاقتصادي، كأمّة تسعى لترقية نفسها وشعوبها، وحماية وجودها الجغرافي والاقتصادي والسياسي والفكري، ومواجهة التحديات التي فرضها الواقع الدولي بكل ايجابياته وسلبياته.

وأمام هذا الواقع المرير، يجب على الكتاب والمفكرين والمثقفين العرب أن يتحملوا شيئاً من المسؤولية الفكرية، بهدف العمل على وضع استراتيجية واضحة تخدم أهدافنا الوطنية والقومية، من أجل مواجهة تيار الفتنة، وفضح أساليب الحرب الإعلامية، والتبعية التي تهدف إلى تغييب الوطن.

***

د. أنور ساطع أصفري

  

في المثقف اليوم