آراء
ثامر عباس: أسباب انتكاسة التيار (المدني) في الانتخابات المحلية
قد يستغرب البعض من العراقيين المتفائلين انتكاسة التيار السياسي (المدني) المنضوي تحت مسمى (قيم) في الانتخابات المحلية التي جرت يوم الاثنين المصادف الثامن عشر من الشهر الجاري (كانون الأول)، بعد أن داعبت مخيلتهم المجيشة بالشعارات والمعبأة بالخطابات الكثير من الأحلام والأوهام . من منطلق ان الشارع العراقي قد ذاق ذرعا"بممارسات القوى السياسية التقليدية (الشوفينية والطائفية والقبلية)، التي أدخلت البلاد في دوامات من الخراب الحضاري واليباب الإنساني على نحو غير مسبوق، جراء تعميم الفوضى واستشراء الفساد في كل مرفق من مرافق الدولة وضمن كل قطاع من قطاعات المجتمع . بحيث ان هؤلاء اعتقدوا ان فرص نجاح التيار في هذه الانتخابات (المحلية) ستكون مجزية لا بل وفيرة، وبالتالي سيشهد العراق باكورة تحولات نوعية على كافة الصعد والمستويات .
وعلى أساس من هذا الاعتقاد الخاطئ، فقد ظن أولئك البعض أن العراقيين هذه المرة سوف لن يكرروا ذات الأخطاء التي ارتكبوها في السابق، لاسيما حيال اختيار مرشحيهم (ممثليهم) - كما حصل في الانتخابات التشريعية الماضية - وفقا"لقواعد الانتماء الأصولي والولاء العصبي الأثيرة لدى الجميع، بعد أن تكشفت لهم عواقب ذلك الاختيار وتعرت أمامهم أكاذيب وادعاءات من سوقوا أنفسهم ك (منقذين) و(مخلصين) لنيل أصوات الناخبين المخدوعين بالوعود . وإنما سيغيرون بوصلة توجهاتهم صوب القوى (المدنية) المستقلة التي روّج الكثير عن أهدافها (الوطنية) وبرامجها (الإصلاحية)، متجاهلين حقيقة ان مكونات المجتمع العراقي – ضمن جغرافية الوسط والجنوب - لن تفضّل مصالح (المواطنة) على مصالح (القبيلة / العشيرة) أو (الطائفة / المذهب) . مثلما ان مكونات الشطر الشمالي من جغرافية الإقليم العراقي، لن ترجح انتمائها (الوطني) الشكلي على ولائها (القومي / الاثني) الأساسي، لاسيما وان جميع المكونات العراقية – شمالا"وجنوبا"شرقا"وغربا"- باتت غارقة في مستنقع الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، وانه يستحيل عليها التخلص من هذه الروابط الأولية والتملص من تلك الوشائج العاطفية بهذه السهولة مهما كانت التحديات التي تواجهها والتضحيات التي تتطلبها .
والغريب في الأمر ان مرشحي التيار السياسي (المدني) المهمشين، فضلا"عن الجمهور المنخرط في حملاتهم الانتخابية الفقيرة، لم يروادهم أدنى شك حيال معطى سوسيو – سياسي أضحى واقعا"ملموسا"مفاده ؛ ان الشعارات التي تبناها هذا التيار وراهن عليها، لم تعد تجد لها ضمن تكوين المجتمع العراقي الحالي صدا"يمكن الركون إليه والتعويل عليه كما كان يظن، خصوصا"وان الأفكار والرؤى والتصورات التي أسس عليها هذا التيار وجوده الاجتماعي وشرعيته السياسية، لم تعد تحظى بذاك الاهتمام والتعاطف الذي كانت تتمتع به في السابق، وذلك جراء مجموعة من الأخطاء والانحرافات التي تورط بها رموزه بعد أحداث (السقوط) التي تمخضت عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 . وهو الأمر الذي أفضى – ولا يزال - الى عزوف الكثيرين ممن كانوا يحملون تلك الأفكار ويروجون لها، كما لو أنها كانت تمائم دينية تستحق التوقير والتقدير .
وبدلا"من أن يصار الى مراجعة هذه التجربة الكسيحة مراجعة (نقدية) صارمة ودراستها دراسة موضوعية معمقة، تتوخى البحث عن الأسباب الفعلية والكشف عن العوامل الواقعية التي أفضت الى حصول هذا الفشل والإخفاق، رغم كل العوامل الذاتية والموضوعية التي كان من المتوقع أنها ستحقق (فوزا") كاسحا"لمرشحي هذا التيار على منافسيهم، فقد ارتأى (الفاشلون) - لتخفيف وطأة الصدمة – صبّ جام غضبهم على فساد المؤسسات المسؤولة عن فبركة نتائج هذه التجربة، فضلا"عن اتهام القوى والكتل السياسية (الفائزة) في التلاعب بأعداد الناخبين لصالح هذا الطرف أو ذاك، وكأنهم لم يكونوا على دراية تامة بطبيعة هذه العملية التي مهما طبل وزمر عن طابعها (الديمقراطي) المزيف، لم يكن مخطط لها تحقيق العدالة وضمان المساواة بين المتنافسين .
والحقيقة ان كل من تناول تجربة هذا التيار (المدني) ظلّ – حتى بعد مفارقات وتداعيات ما بعد السقوط – متمسكا" باعتقاد ان كل ما جرى ويجري، لم ولن يؤثر على سيرورات البنى الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات التاريخية التي كانت فاعلة في مضامير الواقع الاجتماعي للعراق، وبالتالي فان معظم الجماعات المنضوية تحت شتى مسميات (اليسارية) و(العلمانية) و(الليبرالية) و(الديمقراطية) استمرت محافظة على رصيدها الشعبي وصيتها الجماهيري، حتى بعد أن جردها الواقع المعاش من صدقية الكثير من الادعاءات والمزاعم التي كانت تتحصن خلفها وتحتكم اليها، بحيث استمر وهم الاعتقاد بأنها لم تفقد مواقعها ولم تخسر أنصارها رغم كل ما طرأ على الواقع من انهيارات مدوية وانكسارات مفجعة . أي بمعنى انه كان ينظر الى واقع المجتمع العراقي الحالي نظرة استاتيكية جامدة لا جديد فيها سوى الثبات والاستمرارية، وان كل الذي حصل من تغيرات جذرية وتحولات عميقة وانقلابات واسعة، حيث عصفت بهذا الواقع المتداعي على نحو دراماتيكي لم تطال سوى أبعاده (الفوقية) السياسية والاقتصادية والعسكرية، في حين حافظت أبعاده (التحتية) السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية على ثباتها الأصلي وسكونها الدائم .
وهكذا يمكن القول؛ ان الانتكاسة التي مني بها التيار السياسي (المدني) في الانتخابات المحلية، لم تكن حالة شاذة خارج السياق أو واقعة طارئة غير متوقعة، بقدر ما كانت تعبير عن واقع حال جرى نسيانه وإهمال معطياته، الأمر الذي لم يتأخر في الثأر لنفسه من كل أولئك الذين اهتموا بكل شيء، سوى أنهم وضعوا سيرورات الواقع ودينامياته خلف ظهورهم ! .
***
ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي