آراء

عبد السلام فاروق: العقد النفسية الشرق أوسطية

اسمحوا لي أن أستعير تعبير الأستاذ هيكل مستخدماً إياه كعنوان للمقال. ذلك التعبير هو وحده القادر على تفسير ما يحدث في منطقتنا العربية من حالة إنكار نفسي متفشية عند الجميع؛ يقال لهم: هذا عدوكم؟ فيهتفون جميعاً: لا ليس هو. يرونه يقترب من حاميتهم ثم يقتل حراسهم، فينكرون أنهم رأوا أو سمعوا شيئاً. يؤكد لهم كل المراقبين المحايدين أن العدو يدبر لهم أمراً عظيماً، وأن عقيدته الراسخة أنه سيملك ما تحت أقدامهم، فيسخرون ويضحكون وينصرفون إلى شئونهم غير عابئين بما يقال.

فهل ننتظر أن يحدث كما حدث عام 1948 عندما انهزم الجمع وولوا الأدبار، ثم ما حدث عام 1967 عندما تمدد العدو في سوريا ولبنان والأردن ومصر وفلسطين، وبدأ كل طرف يكيل الاتهامات لأطراف أخري أنها السبب.

يبدو أننا لا نتعلم الدرس مهما مرَّ علينا الزمن، ومهما تلقيناه من ضربات! ألم يكن ذلك العام الذي مرَّ على أحداث غزة كافياً لنفهم كيف يفكر العدو؟ أو كيف نستعد لما يحاك للمنطقة؟

 إن ما حدث في لبنان يدق نواقيس الخطر كلها؛ إذ تأكدنا أننا مجرد رد فعل. وأننا لا نفيق إلا إذا رأينا النار تحيط بنا، ويلفحنا لهيبها الحارق!

حرب إقليمية على الأبواب

كل الشواهد والدلائل تؤكد أننا على شفا حرب واسعة النطاق لا يدري أحد حجم امتدادها زمنياً أو جغرافياً، وأسوأ ما تعيشه المنطقة الآن حالة التشرذم وانعدام الرغبة في توحيد الصفوف أمام الخطر الوشيك.

إيران رغم ما تتلقاه من ضربات متتالية، إلا أنها هرولت لعقد شراكة استراتيجية مع روسيا. وبدا أن لهذه الشراكة مميزات عسكرية، إذ أظهر استخدام الصاروخ الفرط صوتي من قِبل الحوثي أن إيران وأذرعها يملكون أسلحة جديدة وبإمكانهم التصعيد في أي وقت وعلى عدة جبهات.

خلال ثلاثة أيام فقط تعرض حزب الله لتفجيرات أجهزة البيج واللاسلكي، فأصيب الآلاف من عناصره، وقبل أن يستعيد الحزب توازنه تلقي صاروخين وصلا إلى اجتماع قادة حزب الله تحت الأرض، ومن بينهم القائد الأعلى للعمليات، ما يعني أن الضربات الإسرائيلية تمثل هجمات عسكرية تكتيكية تهدف إلى إضعاف جبهة لبنان عسكرياً من خلال استهداف قادة حزب الله أنفسهم، بما يضعف قدرتهم على الرد أو استجماع هذه القدرات. غير أن كل هذا الاستفزاز لن يمرّ قطعاً دون رد فعل يناسب تلك الهجمات القاتلة والضربات الموجعة.

 لا يمكن أن يبقي الوضع على ما هو عليه. ولابد أننا سنشهد رداً أو عدة ردود عسكرية من إيران وحزب الله. وهو ما سيدفع إسرائيل للرد بدورها، وقد يبدأ الاجتياح البري لجنوب لبنان في أي وقت، بعد أن بدأ الجيش الإسرائيلي في تحريك قواته شمالاً نحو الجنوب اللبناني، لرغبتهم في استعادة المناطق التي تم تحييدها وإخلاءها من المستوطنين بسبب الضربات الصاروخية المستمرة من حزب الله منذ بداية طوفان الأقصى. وهو ما يعني أن عجلة الحرب سوف تدور بأسرع مما كان متوقعاً. وأن مرحلة جديدة من الصراع سوف تبدأ.

الحليف الموثوق

في أي حرب تنشأ لابد أن يبحث الأطراف، أو حتى المهدَّدون بأضرارها من دول الجوار، عن حليف أو عدة حلفاء. وفيما إسرائيل لديها حلفاؤها المعروفون. فهل يجوز لنا كعرب أن نعتمد على نفس حلفاء إسرائيل، ظناً منا أنهم سوف يقفون معها ومعنا؟!

  نحن لم نعد نثق في أنفسنا، وكل بلد عربي له عداوات مع عدد من الدول العربية الأخرى. ولهذا توقفت جامعة الدول العربية عن التدخل بجميع صوره، بعد أن زهد الجميع في الاجتماع معاً ولو لتجميل الصورة القاتمة. هكذا لا سبيل لإقامة تحالفات عربية، ويظل الحل الوحيد أن تقف كل دولة عربية بمفردها أمام الخطر المحدق؛ إذ لا يوجد حليف موثوق.

الغريب في الأمر أن أقوى دول العالم لا تتحرك في حروبها خطوة دون حلفاء. بينما نصر نحن أن نخوض معاركنا بمفردنا، ولهذا نخسر. لقد حاولت مصر طوال الوقت أن تنزع فتيل الأزمة، وأن تشجع مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة دون جدوى. الآن وقد أشعلت حكومة نتنياهو فتيل الحرب من جديد، فلابد أن يكون لدينا تصور واضح لما هو قادم ونستعد له.

 لا ينبغي لنا أن نتحول إلى مجرد رد فعل، بل لابد أن نستبق الأحداث ونتوقعها، حتى نتحسب لما هو قادم. الشعوب نفسها لابد لها أن تستعد نفسياً واقتصادياً؛ فلربما تأثرت سلاسل الإمداد أسرع من المتوقع، فتشح السلع وتقل الموارد. هذا ما تفعله الدول الأوروبية الآن رغم أن روسيا لم تتخذ خطوات فعلية تهدد سلامتها بشكل مباشر، إلا أنها تعِدّ شعوبها للأسوأ. إن الدول الأوروبية رغم الرفاهية التي توفرها لشعوبها، إلا أنها ترفض أن تدلل الشعب لدرجة ألا يكون قادراً على التصرف أمام أي أزمة عسكرية أو اقتصادية تلوح في الأفق.

الجميع يصطف

هناك استعدادات تتم على قدم وساق في كل مكان حولنا..

 إثيوبيا تحتشد طمعاً في ميناء على ساحل صومال لاند. وقوات الجنجويد تستعد لحصر الأراضي التي استولت عليها لبسط نفوذها هي وحلفائها عليها. والحوثي خضعت له رقبة البحر الأحمر التي أمسكها بين تلابيبه يمنح ويمنع ما يشاء من سفن أو يستولي عليها أو يدمرها، وقد آل له التحكم في حركة الملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب قسراً.

 حتى البلدان البعيدة عن دائرة الصراع تستعد. فها هي كوريا الشمالية تجري اختبارات لصواريخها الباليستية تحت دعوي التهديدات الخارجية غير معلومة المصدر! وبولندا تخشي أن تكون أول بلدان الناتو تأثراً بتهديدات روسيا المستمرة باستخدام النووي، وتايوان تنفي تورطها في صفقة أجهزة البيجر المنفجرة في لبنان، خشية أن تتخذها الصين ذريعة لاجتياحها والسيطرة عليها.

 كل هذا يحدث بينما الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بالاستعداد للانتخابات التي يبدو أنها لن تمر بسلام. والأمم المتحدة لم يعد لها دور حقيقي. ومحكمة العدل الدولية لا تستطيع كبح جماح إسرائيل ومجازرها اليومية ضد المدنيين في فلسطين ولبنان.

 الجميع يحتشد ويستعد ويحذر مما هو قادم. بينما نحن مصرون على أن نلعب دور الأصم وسط كل تلك الانفجارات المنذرة بالتمدد.

رقصة المذبوح

إسرائيل، وبعد ما يقرب من عام حرب، باتت كأنها ذئب جريح ينهش مَن يقترب منه. فقد خسرت جراء الحرب خسائر بلا حصر. وخسارتها الأكبر أنها لا تستطيع إعادة النازحين من مستوطنيها لأراضيهم وبيوتهم، ولا استعادة الأسري، ولا استعادة الشعور بالأمان داخل أراضيها بما فيها تل أبيب. وأصبح تأمين مناطق الشمال يمثل هاجساً لها؛ إذ لا يمكنها إيقاف الحرب وفى حلقها شوكة اسمها حزب الله تهددها على الدوام، وتحول دون عودة المستوطنين للشمال.

 العمليات المشتركة الأخيرة للموساد الإسرائيلي والاستخبارات العسكرية كانت تمثل رقصة المذبوح الذي ينثر الدم من حوله، ويؤذي مَن تطاله يداه. وهي عمليات غير مأمونة العواقب، ورد الفعل ضدها من حزب الله اللبناني ومن ورائه إيران قد يكون أخطر وأشد من تصورات إسرائيل. وإذا حدث الاجتياح البري لجنوب لبنان، فسوف تنفتح عدة جبهات لتخفيف الضغط على لبنان، وتشتيت إسرائيل. هكذا سوف تتلقي إسرائيل ضربات من العراق وسوريا واليمن وإيران معاً. وسوف تدافع أمريكا عن إسرائيل بكل قوة، ما يعني أن العجلة ستنزلق سريعاً حتى تهوي نحو أتون مشتعل من معارك لا يدري أحد مداها.

 أما الحالة السيكولوجية الغريبة التي أصابت بلادنا العربية بميكروبات البلادة والاستكانة والإنكار، فلابد لها أن تنتهي. العدو واضح، وخططه معلومة، وخطره يزداد، وعلينا أن نكون على أتم استعداد لسيناريوهات الحرب الإقليمية القادمة بمختلف آثارها وتبعاتها.

***

عبد السلام  فاروق

في المثقف اليوم