آراء
قاسم حسين صالح: الفضائح الأخلاقية نتائج.. والأسباب باقية!
تنويه: في (20 / 3 / 2024) بثت فضائيات وضجت وسائل التواصل الأجتماعي بمنشورات تصدرها عنوان: (ثلاث فضائح تضرب المؤسسات الأمنية والعسكرية والتعليمية في العراق خلال 24).. بدأت بفضيحة عميد كلية الحاسوب بجامعة البصرة، تلتها مباشرة فضيحة شبكة ابتزاز يقودها مسئولون امنيون وعسكريون برتب كبيرة. وقد عزا محللون سياسيون سبب ذلك الى فشل العملية السياسية في العراق ، فيما نعزوه نحن الى سبب آخر أهم يحلل حيثياته هذا المقال.
التحليل
في (26 /7 / 2007) كتبنا مقالا بعنوان (المجتمع العراقي.. والكارثة الخفية) حذرنا فيه ان المجتمع العراقي ستحل به كارثة اخلاقية ما لم تتخذ اجراءات كنا حددناها وتجاهلها قادة العملية السياسية كعادتهم لأنهم لا يهتمون بما يكتبه علماء النفس والاجتماع الذين يصدقونهم النصيحة، ولأنهم دوغماتيون مصابون بحول عقلي ، ولأن سيكولوجيا السلطة في العراق علمت الحاكم ان يحيط نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه.
نبدأ التحليل بأننا نحن المعنيين بالعلوم الاجتماعية والنفسية ، نرى أنه توجد في داخل كل إنسان " منظومة قيم " هي التي تحرّك سلوك الفرد وتوجهه نحو أهداف محددة بطريقة تشبه ما يفعله " الداينمو " بالسيارة. فكما أنك ترى السيارة تتحرك (وحركتها سلوك) ولا ترى الذي حرّكها " الداينمو " كذلك فأنت لا ترى " المنظومة القيمية " التي تحّرك سلوك الفرد، ما يعني أن اختلاف الناس: (رجل الدين عن رجل السياسة عن رجل الاقتصاد عن الفنان عن المنحرف عن الإرهابي...) يعود إلى أن المنظومة القيمية تكون مختلفة لديهم نوعيا وكميا وتراتبيا وتفاعليا. ومع أن تخلخل المنظومات القيمية لدى الناس وتهرؤ النسيج الأخلاقي للمجتمع قضية أخطر حتى من دمار وطن فإننا، الحكومة والبرلمان ونحن، لا نوليها من الاهتمام قدر اهتمامنا بالقضايا السياسية، وان حكومات ما بعد 2003 اهملوها لأن احزاب السلطة انشغلت بمصالحها وتأمين بقائها في السلطة.
وقبل (17) سنة حذرنا وكتبنا بالنص بأنه تتوافر الآن(2007) عوامل الكارثة الأخلاقية الخفية في المجتمع العراقي، حددنا أهمها بالآتي:
إن غالبية المجتمع العراقي.. شباب يمتلكون منظومات قيمية تختلف عن المنظومات القيمية لجيل الكبار. وأن توالي الحروب والفقر والشعور بضياع العمر واليأس من المستقبل والخوف من المجهول، شكّلت لديهم شبكة منظومات تتصدرها قيم الصراع من أجل البقاء والأنانية وتحليل ما يعد ّحراما أو غير مقبول في المعيار الأخلاقي للمجتمع العراقي.
أحدث النظام السابق تخلخلا كبيرا في تركيبة المجتمع العراقي بأن أعاد توزيع الثروة وخلق تباينا حادا بين طبقتين: أقلية غنية مستحدثة وفقيرة كبيرة ابتلعت الطبقة الوسطى بكل مثقفيها وموظفيها بمن فيهم ألأستاذالجامعي الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في قمة الهرم الاقتصادي للمجتمع العراقي (مع الطبيب والتاجر والمهندس) وتراجع إلى المرتبة الرابعة والعشرين بعد مصلّح الراديو والتلفزيون!
ونبهنا الى انه يحدث ألان (2007) ما يباعد أكثر في التباين الاقتصادي بظهور فئة قليلة مستحدثة تتجه نحو الثراء بشهية مفتوحة ممثلة بالحكومة وأعضاء البرلمان الذين وعدوا الفقراء بالرفاهية فزادوهم فقرا".
وقبل 17 سنة شخّصنا.. ان الذين بيدهم أمور الناس يمتلكون منظومات قيمية فيها من عوامل التضاد والتناشز أكثر مما فيها من عوامل التماثل والانسجام ، وأن لهذا تأثيران سلبيان خطيران، الأول: تفكيك المجتمع في استقطابات من القيم المتصلبة، والثاني: اضطرار الفرد إلى أن يعرض نفسه سلعة في سوق السياسة يجبره على التخلي عن قيمه الإنسانية والعمل بما يأمره به مصدره السياسي. واوضحنا رؤيتنا بأن الوضع العام بالعراق طارد للذين يمتلكون منظومات قيمية صحية، بخاصة العلماء والمفكرين والمتدينيّن المتنورين والمثقفين والفنانين، وهذا يعني أن صراع القيم بالمجتمع العراقي سيكون بين المنظومات القيمية التي تؤكد على حاجات البقاء والاحتماء والمصالح البراجماتية والقيم الأنانية على حساب القيم الأخلاقية والإنسانية الرفيعة.
الأسباب باقية.. والنتائج ستتوالى!
تتحدد اهم اسباب انهيار المنظومة القيمية في المجتمع العراقي بعد 2003 بالآتي:
الأول: الفساد
يعترف الجميع بشيوع الفساد في العراق، بمن فيهم المرجعية التي وصفت كبار الحكام بأنهم (حيتان الفساد)، فيما اعترف السيد نوري المالكي بان (لديه ملفات للفساد لو كشفها لنقلب عاليها سافلها).. وما كشفها ليحمي فاسدين كبارا في حزبه، ليصبح العراق ثاني افسد دولة في العالم واولها في حجم الأموال المسروقة باعتراف خبراء عالميين.
ومن متابعتنا للعملية السياسية في العراق توصلنا الى نظرية نفسية كانت بالنص:
(اذا تساهل القانون في محاسبة فعل كان يعدّ خزيا،
وغض الآخرون الطرف عنه او وجدوا له تبريرا..
شاع في المجتمع ولم يعدّ خزيا كما كان).
ما يعني أن الفساد في العراق يشكل السبب الرئيس في كل ما يحصل من فضائح اخلاقية.
الثاني: غياب القائد القدوة
قل عن عبد الكريم قاسم ما شئت، لكن الجميع يعترف بأنه كان نزيها. فالرجل كان ينام بغرفة في وزارة الدفاع، ولم يتقاضى امتيازات، فاقتدى به وزراء حكومته والموظفون في دوائر الدولة، فيما الذين تولوا الحكم بعد 2003 استفردوا بالسلطة والثروة وسكنوا القصور، مع أنهم رجال دين وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وكان عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم)، وبالأمام علي الذي قال يوم تولى الخلافة (جئتكم بجلبابي وثوبي هذا فان خرجت بغيرهما فأنا خائن).
وكان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.. مثال ذلك: ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر (ارشاد) هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب (شؤون اجتماعية)…نزيهة الدليمي (بلديات).. وهي اول وزيرة في تاريخ العراق. واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تأسست في زمنه.. الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي.. فأجابهم: (عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع)، فيما قادة الحكم الجدد اعتمدوا مبدأ المحاصصة والقرابة للتعيين في دوائر الدولة التي تقاسموها (عائليا) وكثير منهم لا يملك شهادة ولا مؤهل ما اثار الشعور بالحيف لدى موظفين مستقلين شكل عاملا لتخدير الضمير الأخلاقي والديني حتى بين الذين كانوا يوصفون بالنخبة.
الثالث: الفقر
يعدّ العراق البلد الأغنى في المنطقة.. وأحد اغنى عشرة بلدان في العالم، ومع ذلك بلغ عدد من هم دون خط الفقر فيه اكثر من 13 مليون في سابقة ما حدثت بتاريخ العراق السياسي ليذكرنا الحال بمقولة ابي ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولم يخرج شاهرا سيفه).. وقد فعلوها بدءا من شباط 2011 الى كانون اول 2023، يوم خرجوا في جميعها شاهرين علم الوطن ، وما استجابوا لصرختهم.. لتشكل مبررا للفساد الاخلاقي ايضا عند من اماتوا فيهم الضمير الأخلاقي والديني.
الفضائح.. تثبت صحة نظريتنا
تعدّ فضيحة عميد كلية الحاسوب، وفضيحة شبكة الأبتزاز التي يقودها مسئولون امنيون وعسكريون برتب كبيرة (نقيب، مقدم، عقيد، ولواء) يحتلون مراكز مرموقة (مستشار امني لوزير، ورئيس جامعة في الدفاع..) هي (نتيجة) لسبب رئيس هو أن تهرؤ القيم الأخلاقية الذي شاع بين العامة، وصل الى من يفترض فيهم ان يكونوا القدوة التي تحترم الرتبة العسكرية والموقع المرموق في الدولة، والاستاذ الجامعي بالجامعات الحكومية ، دع عنك جامعات اهلية تابعة لمسؤولين سياسيين فيها فضائح كثر لكن المال يسترها.
وما حصل ، يثبت صحة نظريتنا.. ان الشعب الذي ينفرد فيه قادة العملية السياسية بالسلطة والثروة، يشيع فيه الفساد بين الناس ويتحول من فعل كان يعد خزيا في قيمهم الأصيلة الى شطارة وانتهتاز فرصة.. وينجم عنه، بحتمية اجتماعية، كارثة خفية هي انهيار المنظومة القيمية وتهرؤ الأخلاق تصيب العامة صعودا الى من يوصفون بالنخبة.
ولأن الفاسدين الذين فقدوا الضمير الأخلاقي والديني ومن وصفتهم المرجعية بـ(الحيتان) وبح صوتها من نصحها لهم وما انتصحوا، ما زالوا يحتلون المراكز العليا في الدولة، فان الفضائح الأخلاقية ستكون ظاهرة عادية في كل مؤسسات الدولة ما دامت وصلت الى من كانت ارقى مؤسسات القيم في الدولة العراقية (الجامعات والمؤسسات العسكرية والأمنية) ، وما دام الفاسدون الفاقدون للقيم والأخلاق هم المستفردون بالسلطة والثروة، لقانون اجتماعي هو: يتوالى بقاء نتائج الظاهرة الأجتماعية ما دام السبب باق!
والحل؟!
واضح ان الحكومة الحالية ليس بأمكانها حلها، وان السيد محمد شياع السوداني لو فكر في ذلك، فان عليه ان يتذكر سلفه السيد حيدر العبادي يوم كان رئيس وزراء ووعد بأنه سيضرب (الفساد بيد من حديد)، وأكد قائلا (يقتلوني.. خل يقتلوني) وفي أقل من شهر تخلى عن وعده واعترف علنا.. ان الفاسدين يمتلكون المال والسلاح والفضائيات.. انهم مافيا.. وتلك هي الحقيقة.. انهم مافيا و.. دولة عميقة.. بيدها الأمور، الآن و.. لغد بعيد!.. ما لم يتوحد ملايين الجياع وأصحاب القيم العراقية الأصيلة في ثورة سلمية.
***
أ. د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية