آراء
عبد السلام فاروق: انحدار.. وازدهار!
كان همنا الأول قديماً أن نتخلص من الاستعمار فتخلصنا منه، فإذا بالاستعمار يترك لنا أذناباً وعملاء، فبات همنا التخلص من العمالة والتبعية، فإذا بنا نكتشف اليوم أن الأمر أبعد من مجرد كونه حلماً يراد له التحول إلى حقيقة. إذ أن سايكس بيكو وخرائط التقسيم كانت مجرد بداية، واليوم نحن نشهد امتدادات لخرائط التقسيم، يتم فيها تقسيم المقسم وتفتيت المفتت إلى أجزاء وشراذم. حتى بين الشعوب، هناك تعمد للتفريق بينها وإثارة نعرات التعصب ونزاعات البغضاء بين البلدان المتجاورة بل بين مكونات الشعب الواحد.. فعروبتنا المكلومة تتعرض اليوم أكثر مما مضى لتهديدات وجودية كبري!
أما لغتنا العربية فهى فى برج ذهبي وحدها، لا يستطيع المساس بها أحد. وشأنها اليوم أقوى عشرات المرات من ذى قبل، ولسوف تبقى أطول وتمتد أوسع وتزدهر أكثر من ذى قبل؛ وشواهدى على هذا وأدلتى عليه أكثر من أن يستوعبها مقالى هذا.
مبدأ يوشك على الزوال
يظل سؤال الهوية يتردد على الألسنة: من هم العرب؟ .. والسؤال إما أصولى تاريخى يعود بنا إلى عهد قحطان وعدنان والعرب العاربة والمستعربة، أو يمتد أكثر إلى ما قبل سبأ وسد مأرب، بل وحتى ما بعد طوفان نوح وذرية حام وسام ويافث! والتأصيل التاريخى هنا لا يعنينا كثيراً ، بل تهمنا الإجابة الديموغرافية أكثر! حيث العرب هم من ينتمون جغرافياً إلى حدود الوطن العربي المعروفة، وهى الحدود التى لم يعد لها اليوم مغزى أو تأثير إقليمى أو دولى كبير..
هناك قلق عميق لدي بعض المثقفين والكتاب على مستقبل الوحدة العربية المفتقدة؛ بعد تفكك المغرب العربي وتحلل مجلس التعاون الخليجى وخفوت صوت جامعة الدول العربية لتنغلق كل بلد عربي وتلتف على ذاتها مكتفية بمصالحها وهمومها دون أدنى اكتراث بهذا المبدأ الذى بدأ يضمحل شيئاً فشيئاً فى ظروف غامضة.. مبدأ العروبة!
تشرذم وضعف نعم.. لكن وحدتنا موجودة ومن السهل إعادة إحيائها بفضل قوة لغتنا العربية.
لغتنا الأقوى
مسألة الانتماء إلى أصل عرقى محدد كالعرق العربي الأصيل تفرِّق أكثر مما تجمع؛ إذ أنها تلغى فكرة انصهار الحضارات وامتزاج الأعراق كما هى عادة التاريخ فى كل مكان، وإلا بات الأسبان هم عرب أوروبا، والأمازيغ هم أوربيو العرب! وأصبح على كل ذى جذور غير عربية ويسكن فى بلاد العرب أن يفتش فى هذه الجذور ثم يدعو للاستقلال والانفصال عن بلاد العرب..
هكذا نفهم أن العروبة كحالة اجتماعية وإنسانية أضعف كثيراً من أن تصنع غراءً قوياً تنسجم معه أشتات الأصوليات العرقية فى شتى ربوع الوطن العربي. لكن اللغة العربية أقدر كلغة تفاهم على رأب مثل ذلك الصدع الذى تنفذ منه قوى الاستعمار وعملائه لإحداث الفرقة بين مكونات الشعوب العربية على أساس الانتماءات العرقية تحت مبدأ فرق تسد..
وفيما ينجح الاستعمار فى إنهاك مبدأ العروبة لتحقيق مزيد من التشرذم والتفكك بين العرب، فإنه قد فشل فشلاً ذريعاً فى كبح جماح اللغة العربية التى تتمدد خارج إطارها المرسوم لها فى سايكس بيكو لتنطلق إلى أبعد مدى ممكن فى الجهات الأربعة!
ولعل هذا ما يفسر تلك الحملة الأوروبية الشعواء الموجهة ضد القرآن الكريم ولغته التى غزت كل الألسنة وانتصرت على سائر لغات العالم. فلا تجد مسلماً من المسلمين الجدد فى أى بقعة فى العالم إلا ويحرص على حفظ القرآن بلغته العربية المنطوقة مهما كانت لغته الأصلية ألمانية أو يابانية أو إسبانية أو صينية. والأرقام تؤكد أن الإسلام بات اليوم هو الديانة الأسرع انتشاراً فى الشرق والغرب، تلك حقيقة لا ينكرها أحد.
العرب فى عصر مضطرب
الانتماءات والولاءات تتغير باستمرار، خاصةً فى عصر مضطرب يموج بالتحولات كعصرنا هذا! وليس مستغرباً أن تتجه البوصلة فجأة نحو الصين، بعد أن مالت لعقود طويلة ناحية الغرب الأمريكي. حتى أوروبا نفسها تغير جلدها وتتنكر للهيمنة الأمريكية طبقا لمصالحها اليوم. وإفريقيا بدأت فى فك الأغلال التى تربطها بتاريخ طويل من الاستعباد لتنطلق نحو الحداثة وتعوض ما فاتها فى أحقاب الاستعمار والاستغلال والعبودية والنهب المنظم.
العالم اليوم، والعرب بالضرورة، فى مفترق طرق. وهناك أزمات مفصلية سوف تؤدى لتحولات فارقة فى المشهد الثقافى والاجتماعى والإنسانى. وإذا لم نحدد أولوياتنا ووجهتنا فسوف نقع فى عين عاصفة عاتية توشك أن تتكون وتتضخم وتتسع حتى يكاد اتساعها يشمل أطراف الأرض الأربعة كأننا مقبلون على حالة من إعادة تشكيل خارطة العالم من جديد.
هنا لن يعود مصطلح العروبة فى ذاته هدفاً أو مرتكزاً للبناء عليه، وإنما المتحدثون بالعربية فى أى مكان بالعالم. حيث يصير كل لسان عربي فى أى مكان هو لسان داعم لقضايا العرب فى كل وقت وفى أى مكان.
التعريب.. بابنا السحرى للغد!
ليس علينا أن نلهث خلف حلم الوحدة العربية المهيض. بل الأولى أن نستقوى بلغتنا العربية التى تجمع إلى قوتنا قوى جديدة. وإذا كان مصطلح التعريب يعنى فى بعض المفاهيم مجرد الترجمة للعربية، فإن المعنى الذى أقصده أشمل وأعم..
إننا مقبلون على حقبة ثقافية جديدة تمتزج فيها الألسنة داخل الفضاء السيبرانى الواسع. وتصبح الغلبة لذوى التأثير والابتكار والريادة، ولاشك أن الذين يسبقون إلى استخدام أدوات العصر القادم هم القادرون على الدفع بسفينة النجاة فى اتجاه مصالحهم. وأدوات العصر القادم هى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى والميتافيرس والروبوت. ومن بين رواد هذه العلوم فى الغرب الآن أشخاص من أصول عربية، ما يعنى أن فرصة العرب للعالمية تتمثل فى قدرتهم على تجاوز الحدود والتأثير على الآخرين من خلال معارفهم التى اكتسبوها باحتكاكهم المباشر بمصادر العلم والمعرفة من منابعها..
وفى مقال سابق أشرت إلى أننا مقبلون على حقبة ثقافية جديدة أسميتها "حقبة الموزاييك" حيث يغيب تأثير الهيمنة الثقافية واللون الثقافى الموحد، وتتسارع وتيرة الاختلاط والامتزاج الثقافى من خلال تبادل الأفكار والفنون والحرف والعلوم والتقاليد عبر وسائل السوشيال ميديا ومقاطع الفيديو التى تسري بين الناس وتعبر الحدود وتتجاوز الآفاق كالعدوى، فتكون النتيجة أن تظهر موجات من الموضة الثقافية لم تبثها بيوت الأزياء الفرنسية وإنما تختلقها وسائل السوشيال ميديا، وعادات يكتسبها الناس لا من نجوم هوليود المنمقون وإنما نجوم اليوتيوب العاديون فى الشرق والغرب.
العروبة كمفهوم اجتماعى نوع من التعصب والتقوقع، بينما لغتنا العربية هى سر بقاءنا وفيها تكمن هويتنا الحقيقية. العروبة متغير حضارى، بينما لغتنا العربية ثابت معرفى. وإذا كان تشبثنا بحلم العروبة أدى بنا إلى ضعف وتردى، فلا شك أن تشبثنا بلغتنا العربية سيؤدى بنا إلى قوة كقوتها هى.
اللغة العربية هى بابنا الحقيقي لمزيد من الفهم والمعرفة والعلم. وربما كانت هى وسيلتنا الوحيدة للعالمية!
***
د. عبد السلام فاروق