قضايا وآراء
هل خرج دستويفسكي من معطف غوغول؟ / ضياء نافع
فهل الامر هكذا فعلا؟ لقد جاء دستويفسكي الى الادب بعد غوغول طبعا، واصبح واحدا من اعظم الروائيين في دنيا الادب الروسي والعالمي. دستويفسكي –فيلسوف قبل كل شئ، حاول ان يجسد فلسفته في رواياته، مؤكدا ان الكنيسة الارثذوكسية الروسية يمكن ان تنقذ العالم، وان موسكو هي روما الثالثة في تاريخ العالم. غوغول يختلف عن دستويفسكي، اذ انه لم يكن فيلسوفا ، رغم انه حاول ان يطرح نفسه هكذا في كتابه الاخير الموسوم – (مقاطع مختارة من المراسلات مع الاصدقاء)، الذي اكد فيه ان الكنيسة الارثذوكسية الروسية تمثل وتجسد روح الاخوة بين الشعوب السلافية كافة، وان هذه الفكرة تجعل روسيا مسؤولة عن مبدأ الاخوة عالميا. لقد ذكر الفيلسوف الروسي الكبير بيرديايف، وهو على حق من وجهة نظرنا، ان غوغول هو بداية تلك السمة في الادب الروسي، والتي تكمن في البحث المعمق عن المفهوم الديني – الاخلاقي ، الذي يؤدي في نهاية المطاف الى ربط الابداع الفني بالبحث عن التكامل الاخلاقي في الحياة الانسانية برمتها، اي تحويل الابداع الفني –شريطة عدم التفريط بخصائصه الابداعية- الى محاولة لاصلاح الحياة الانسانية ومسيرتها، والانتقال بها الى مرحلة التكامل الاخلاقي المطلق، بمعنى ان الادب يمتلك رسالة اخلاقية وفلسفية وسياسية عالية، وهي صفة امتاز بها معظم الادباء الروس الكبار منذ بداية القرن التاسع عشر وصولا الى سولجينيتسن في وقتنا الحاضر، اي ان غوغول في كتابه المذكور آنفا قد اكد على دور الكنيسة الروسية في العالم، وهو طرح فلسفي بشأن تلك الكنيسة، وربما يمكن القول انه اول طرح من مفكر روسي بشان هذا الموضوع.اما دستويفسكي ،فقد طرح هذا الموضوع نفسه عبر نتاجاته الادبية العملاقة، اي ان دستويفسكي تناول نفس الموضوع في نتاجاته الادبية، بينما لم يفعل غوغول ذلك وانما اشار اليه ليس الا في كتابه الاخير، وهذه مسألة مهمة وكبيرة تؤكد الاختلاف الجذري بين غوغول ودستويفسكي. ونعود الى تلك المقولة عن معطف غوغول وعلاقة دستويفسكي بها. لقد نشر دستويفسكي اول نتاج ادبي حقيقي له وهو روايته القصيرة (المساكين) ، والتي كانت مبنية على وفق اسلوب المراسلات بين عاشقين لا يستطيعان تحقيق حلمهما بالارتباط والعيش معا، ويعترف البطل في نهاية تلك الرواية بعجزه عن انقاذ حبيبته ، ويدعوها الى الاستسلام للامر الواقع. انها معاناة الانسان المسحوق في المجتمع الانساني، الذي لا يستطيع ان يحقق ابسط رغباته واحلامه، او (الانسان الصغير) كما اطلق عليه النقد الادبي السوفييتي فيما بعد، والذي اصبح بالنسبة لهذا النقد موضوعا رئيسيا و اساسيا، انطلاقا من الموقف الايديولوجي المعروف الذي كان سائدا في الاتحاد السوفييتي آنذاك. ويمكن التوقف هنا والتحدث عن التناغم والتشابه النسبي بين (معطف ) غوغول، الذي يصور فيه معاناة الانسان المسحوق وحلمه الذي يكمن في امتلاكه معطفا ليس الا، وبين معاناة بطل دستويفسكي في ( المساكين)، رغم التباين الهائل بين خيال غوغول ومبالغاته وغرائبيته، والذي يجعل بطله يظهر كشبح في نهاية ذلك النتاج الادبي، وبين بطل دستويفسكي العاشق البائس ليس الا.
انتمى دستويفسكي بعد نشره لتلك الرواية القصيرة الى حركة اشتراكية طوباوية تستند الى افكار الاشتراكي الفرنسي سان سيمون، ثم تم اعتقاله وصدر حكم باعدامه ثم تم العفو عنه من قبل القيصر الروسي في آخر لحظة قبل تنفيذ حكم الاعدام هذا، وتم نفيه الى سيبيريا، وهناك كان الكتاب المقدس رفيقه الوحيد في سنوات المنفى الرهيبة والقاسية تلك، وهكذا تحول دستويفسكي تدريجيا الى المسيحية الارثذوكسية، وعندما انتهت فترة المنفى عاد الى بطرسبورغ، وكتب على مدى سنين طويلة اعظم رواياته الفلسفية مثل (الجريمة والعقاب) و(الاخوة كارامازوف) وغيرها، ولا علاقة بتاتا ومطلقا لتلك الروايات بعالم غوغول الابداعي وخصائصه، اي ان دستويفسكي خلق عالمه الفني الخاص به، والذي جعله واحدا من اعلام الادب الروسي والعالمي معا،وكل هذا يعني ان عالم دستويفسكي الفني لا يرتبط بعالم غوغول الفني و وان كل واحد منهما يشكل ظاهرة ادبية مستقلة عن بعضهما البعض، ولهذا لا يمكن ابدا الاقرار ان دستويفسكي خرج من معطف غوغول حسب تلك المقولة المشهورة.
لقد اثارت تلك المقولة احد الاساتذة السوفييت في حينها، والذي اضطر ان يقرأ كل نتاجات دستويفسكي ورسائله ومقالاته ومقالات وذكريات معاصريه حوله ولم يجد اي اشارة الى تلك المقولةواكتشف هذا البروفيسور السوفييتي ان باحثا فرنسيا كتب عن الادب الروسي في بداية القرن العشرين واشار الى ان دستويفسكي كان يمكن ان يقول هكذا، وقد سافر البروفيسور هذا الى باريس بحثا عن هذا الكتاب، الذي وضعه ذلك الباحث الفرنسي، والقى محاضرة عن كل ذلك في المكتبة السلافية في باريس، وكنت انا احد الذين استمعوا الى تلك المحاضرة الطريفة في نهاية ستينيات القرن الماضي ،عندما كنت طالبا في قسم الدراسات العليا في جامعة باريس.
والخلاصة، فان مقولة (كلنا خرجنا من معطف غوغول) هي جملة رشيقة وجميلة، وانها التصقت بدستويفسكي عبر السنين، واصبح الاستشهاد بها شيئا طبيعيا،دون التعمق بجذورها وخصائصها، وانه لا توجد اي اشارة اليها بتاتا في نتاجات دستويفسكي الكاملة ولا في مقالاته وخطبه ورسائله وتصريحاته، وان نسبتها الى دستويفسكي شئ شائع ليس الا، ولا يستند الى اسس علمية دقيقة.
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2264 السبت 03 / 11 / 2012)