قضايا وآراء
غريبويديف والمتنبي / ضياء نافع
ودفن في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا في القوقاز على الحدود الايرانية مع الامبراطورية الروسية آنذاك، وابو الطيب المتنبي ولد في الكوفة العام 915 وتوفي مقتولا قرب واسط العام 965 ودفن هناك... والمسافة الزمنية بين الاثنين تسعة قرون ونيف، وهذا فارق زمني هائل، ولكن بعض الوقائع تجمعهما،فكلاهما ماتا قتلا في عمر مبكر، وكلاهما – ويا للغرابة- اغنيا لغتيهما، وبالتالي ثقافة امتيهما،بالامثال والحكم التي جاءت في ثنايا نتاجاتهما، الا ان هذا –مع ذلك- لا يعني امكانية الحديث عنهما معا،اذ اننا نقف مبدئيا ضد طرح مواضيع تتناول الادب المقارن، والتي تستند الى الاجتهادات الشخصية بشان التأثير والتأثر بين ادباء ثقافات مختلفة وفي عصور مختلفة، ولكننا نؤيد طرح تلك المواضيع في حالة وجود وقائع محددة وثابتة، وهذا ما وجدناه في بحثنا الحالي، اذ توجد في حياة الاديب الروسي غريبويديف وقائع تسمح لنا بهذا الطرح.
لقد اطلعنا على مقالة المستشرق الروسي المعروف كراجكوفسكي الموسومة (اقتباس عربي في رسالة غريبويديف)، / كراجكوفسكي – المؤلفات المختارة في ستة اجزاء،الجزء الاول، منشورات اكاديمية العلوم السوفيتية،موسكو- لينينغراد 1953 ص. 157-161 / والتي يشير كراجكوفسكي فيها الى ان غريبويديف قد كتب في شباط/فبراير 1820 رسالة الى صديقه ب.ا. كاتنين من مدينة تبريز يستشهد فيها بمقطع باللغة العربية( وينشر المستشرق كراجكوفسكي صورة لذلك المقطع في مقالته تلك) وهذا نصه (شر البلاد مكان لا صديق به)، ويكتب بالروسية بعد ذلك قائلا لصديقه –(هذا شعر عربي يعني، ان التعاسة هائلة، عندما لا يوجد لديك صديق).
يحلل كراجكوفسكي في مقالته تلك هذه الجملة العربية،ويسجل الاخطاء التي وقع فيها بعض الباحثين الروس بشانها، ولا مجال للحديث عن ذلك هنا، ويصل الى بعض الاستنتاجات حولها، ومنها ان غريبويديف كان يعرف العربية بشكل ضعيف في تلك الفترة، وهو استنتاج صحيح من وجهة نظرنا،اذ ان المصادر الروسية المختلفة تشير الى ان الاديب الروسي بدأ بدراسة اللغة العربية بعد وصوله الى بلاد فارس، عندما تم تعيينه في السفارة الروسية هناك،حيث التحق في مدينة تبريز، وهكذا يمكن لنا ان نعلن ان غريبويديف هو اول اديب روسي درس اللغة العربية واطلع على كنوزها.
لم يكن المستشرق الروسي يعرف في حينها،ان الجملة العربية تلك هي شطر من بيت شهير لابي الطيب المتنبي، وتشير المستشرقة الروسية آنا اركاديفنا دوليننا في دراسة لها منشورة في بطرسبورغ عام 1994 /روسيا والعالم العربي،دراسات وابحاث . كتاب صادر عن مكتبة اكاديمية العلوم الروسية وبعثة جامعة الدول العربية في روسيا والمركز الثقافي الروسي –العربي المستقل في سانت بطرسبورغ . ص- 78 -85 / تشير الى هذه الحقيقة، وكيف ان كراجكوفسكي اجاب في حينه عن تساؤلات المشرف على طبع مؤلفات غريبويديف الكاملة بانه لا يعرف اصل تلك الجملة،وتكتب داليننا عن مراسلات كراجكوفسكي مع المشرف المذكور، وكيف انه وجد اخيرا ان هذا شطر من قصيدة المتنبي المشهورة حول سيف الدولة-
واحر قلباه ممن قلبه شيم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي اكتم حبا قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الامم
الى ان يقول –
شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الانسان ما يصم
ولا يشير كراجكوفسكي (وكذلك دوليننا) الى مسألة مهمة في هذا السياق وهي- هل كان غريبويديف يعرف ان هذا الشطر للمتنبي ام لا، ولا يمكننا –مع الاسف الشديد- ان نجيب عن هذا السؤال هنا،اذ ان الاجابة تقتضي الاطلاع على ارشيف عدة مؤسسات روسية منها- ارشيف اكاديمية العلوم الروسية والمكتبة المركزية في موسكو وبطرسبورغ وكذلك ارشيف المكتبة الشخصية لغريبويديف نفسه،وهذا شئ يكاد ان يكون مستحيلا بالنسبة لنا، الا اننا يمكن ان نستنتج،ان المصدر الذي اطلع عليه الكاتب في بلاد فارس كان دقيقا، وان الاشارة العامة التي نجدها في بعض المصادر الروسية، ومفادها ان الجملة التي كتبها غريبويديف هي (حكمة عربية) مسالة غير دقيقة تماما.
ان غريبويديف انسان موهوب جدا، فقد كان يتكلم بالروسية والفرنسية بطلاقة عندما كان عمره (6) سنوات،وتعلم بعد ذلك اللغة الالمانية واتقنها عندما كان عمره (9) سنوات وبعدها اخذ يدرس اللغات الانكليزية والايطالية واللاتينية،ثم التحق بجامعة موسكو وانهى قسم الاداب واللغات وحصل على الشهادة،والتحق مرة اخرى بجامعة موسكو للدراسة في قسم القانون والسياسة وكذلك في قسم الرياضيات والفيزياء،الا ان هجوم نابليون على روسيا عام 1812 حال دون استمراره بالدراسة،اذ تطوع في صفوف الجيش الروسي وقاتل بشجاعة،وبقي في الجيش حتى عام 1816، وتم تعيينه في وزارة الخارجية عام 1817،وصدر الامر بتنسيبه للعمل في السفارة الروسية بايران، وحاول التخلص من هذا التنسيب ولم يفلح،فقرر ان يبدا بدراسة اللغة الفارسية عندما التحق بوظيفته عام 1818، وفعلا بدأ بدراسة اللغات الفارسية والجورجية والعربية والتركية، اضافة الى انه كان عازفا ماهرا على آلة البيانو ومؤلفا لعدة قطع موسيقية لا زالت تعزف لحد الان،وهذه كلها مواهب غير اعتيادية لاديب عاش (34) سنة ليس الا. هناك خاصية فريدة من نوعها تميزه في تاريخ الادب الروسي وهي- كتابته لنتاج مسرحي شعري واحد فقط والذي اصبح بفضله واحدا من كبار الادباء الروس، وتحيط قاعدة تمثاله الكبير في موسكو شخصيات تلك المسرحية الشعرية الموسومة –(ذو العقل يشقى) كما استقرت ترجمتها العربية. ان الترجمة الحرفية لتلك المسرحية الشعرية هي – (المصيبة من العقل) وقد ترجم المترجمون العرب هذا النتاج الادبي باشكال مختلفة منها –(المصيبة من العقل) او (مصيبة من العقل) او (البؤس من العقل ) او (الويل من العقل) او (الشقاء من العقل)...الخ..الخ،الا اننا ارتأينا ان تكون الترجمة –(ذو العقل يشقى) المقتبسة من بيت المتنبي المعروف – (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله....) وذلك لما يتميز به هذا المقطع من شاعرية وبنية لغوية جميلة تتناسب وتتناغم فعلا مع شاعرية وجمالية التسمية الروسية، وقد تقبل الزملاء حولنا هذه الترجمة، وهكذا اخذنا نتداولها في كلامنا حول هذه المسرحية، وثبتناها في كل ما نشرناه حولها، وهكذا جاءت في مقالة المرحومة أ.د.حياة شرارة في كتابها المشترك مع المرحوم أ.د.محمد يونس الموسوم – (مدخل الى الادب الروسي في القرن التاسع عشر (بيروت 1978 ص. 21،22، 23)، ولم نكن قد اطلعنا، عندما اقترحنا تلك الترجمة على مقالة المستشرق كراجكوفسكي ، ولا على الجذور الثقافية للاديب الروسي، وبعد ان تم لنا ذلك، فاننا نميل الى الراي القائل باحتمالية ان تكون تسمية المسرحية تلك متأثرة بشكل او باخر بشطر بيت المتنبي المذكور،ودليلنا في طرح هذه الاحتمالية (واكرر –الاحتمالية) يستند الى تحليلنا لطبيعة تسميات وعناوين النتاجات الادبية في الادب الروسي قبل غريبويديف واثناء حياته، اذ انها تختلف جذريا وجوهريا عن تلك التسمية،فمعظم تلك التسميات كانت ترتبط باسم البطل او البطلة، او تقترن بعناوين عادية عامة لا علاقة لها بهذه التسمية الفلسفية العميقة، والتي تحولت الان الى قول روسي ماثور،بما فيها تسميات نتاجات غريبويديف المبكرة نفسها،اذ انها لم تخرج عن طبيعة تلك العناوين السائدة عندها وهي –الطالب/الازواج الشباب/عائلتي/الليالي الجورجية/...الخ، وهي عناوين وتسميات لا تحمل الخلاصات الفكرية التي انعكست في تسمية تلك المسرحية الشعرية. ومما يعزز موقفنا تجاه هذه الاحتمالية ايضا هو استخدام غريبويديف لقصيدة المتنبي في رسالته لصديقه،ومن الطبيعي ان تكون دراسته للغتنا العربية اوسع واعمق من ان تكون مقتصرة على تعلم اوليات تلك اللغة وحسب،اذ ان اديبا موسوعيا مثله لا ترضيه تعلم مفردات بسيطة، بل كان يبحث حتما عن العمق الفلسفي والفكري لها، وليس عبثا او صدفة تحول مقاطع كثيرة من مسرحيته تلك الى امثال وحكم روسية، وهو شئ تنبأ به بوشكين عندما قرأ المسرحية، اذ اعلن ان نصف تلك المسرحية سيتحول الى حكم وامثال، ولا يمكن بالطبع لاديب بهذا المستوى الفكري عدم ملاحظة ما في شعر المتنبي من حكم وامثال خالدة.
اننا نطرح هذه الاحتمالية امام الباحثين المتخصصين عامة ونؤكد ان هذه الاحتمالية تتطلب الدراسة الدقيقة والتفصيلية، وبعد ذلك فقط يمكن تحديد الراي الحاسم بشانها، اي ان الهدف من هذا المقال هو طرح الموضوع ليس الا،مع التأكيد مرة اخرى،ان هذه الاحتمالية لا تقلل بتاتا من عظمة مسرحية غريبويديف واهميتها، ولا تعني باي حال من الاحوال تأثير المتنبي على مضمون المسرحية لا من قريب ولا من بعيد، اذ ان تلك المسرحية تناولت القضايا الاجتماعية والفكرية الكبرى للشعب الروسي في تلك المرحلة، وتحدثت عن العلاقات الانسانية الخالدة بين البشر،ولهذا اصبحت واحدة من ابرز نتاجات الادب الروسي،وليس عبثا ان الشعب الروسي لا زال يقرأ تلك المسرحية ويعرضها على خشبات مسارحه ويستشهد بامثالها وحكمها، لانها تجسد الصراع الخالد للانسان من اجل النقاء الروحي والصدق والحب.
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2251 الأحد 21 / 10 / 2012)