نصوص أدبية

سعد غلام: تَخرُّصاتُ الصَّمْتِ ما بَعْدَ المَطرِ

"في داخلي شُرْفَةٌ

لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ للتَّحيَّة"

" محمود درويش"

***

[1] [أَنْفاسُ ما بَعْدَ المطرِ]

الأَرْضُ تَفْتحُ كَفَّيْها، لا تَسْأَلُ: مِمَّنْ جِئْتَ؟

تَحْمِلُ خُطانا كالوَهْجِ... حتَّى مَنْ حَملُوا تُرابَ غُروبٍ

تَهْمِسُ: امْضُوا... فَالْأَسْماءُ يوْمًا سَتنْبُتُ في ظِلِّ الرِّيحِ

أَمُدُّ صَوْتي: هلْ تَأْتينَ؟ هَلْ يَقْرَعُ النُّورُ أَعْماقي؟

فَيرُدُّ صَمْتٌ يَمْتدُّ وَراءَ المَطرِ كَحدِسٍ يَبْحثُ عَنْ يَدٍ

[2] [شَمْعةُ القَلْبِ]

شَمْعتي لا تَحْترِقُ مِنْ أَعْلَى، بَلْ مِنْ قَلْبٍ يَتعبَّدُ في سِرِّهِ

كُلَّما دَعوْتُ بِاسْمِكِ... هَدأَ النُّورُ، وَصارَ أَقْربَ لِصوْتِكِ

فَإِذَا انْطَفأَتْ، بَقِيَتِ الكَلِمةُ تُشْعِلُ في العَتْمَةِ وَهْجًا،

كَأَنَّ نَجْمًا أُطْفئَ قَديمًا... يَتذكَّرُ لَحْظةَ مِيلادِ الضَّوْءِ

[3] [بَابٌ لِنِصْفِ ظِلّ]

لَمْ يَبْقَ في الدَّارِ سِوى رَائِحةِ الغِيابِ،

وَبَابٌ لا يُفْتحُ إِلَّا لِنِصْفِ ظِلٍّ مُتْعبٍ

أَكْتُبُ اسْمَكِ عَلَى الزُّجَاجِ، فَتغْسِلُهُ الحَيْرَةُ،

كَأَنَّ حُبِّنَا بَهَارٌ تَناثرَ في قَهْوةٍ بَارِدةٍ

وفي الحَديقةِ وَرْدَةٌ مَاتَتْ مِنْ وَحْدتِها،

لَمْ يَبْلُغْها خَبرُ أَنَّ العالمَ أَجَّلَ الإِزْهارَ،

فَنادتْ: هلْ مِنْ زَائِرٍ؟ فَلَمْ يُجِبْها إِلَّا المَطرُ

[4] [الحَرْفُ يُولَدُ مِنْ عَدمِهِ]

يَسْقُطُ الحَرْفُ قَبْلَ وِلادَتِهِ،

وتَنْظُرُ الوَرقَةُ البَيْضاءُ إِليَّ كَشاهِدٍ عَالِقٍ بَيْنَ جُرْحٍ وَلُغةٍ

أَبْحثُ عَنْ كَلِمةٍ تُوقِظُ مَنْ رَحلُوا...

فَلا أَجِدُ إِلَّا صدًى في مَتاهةِ الصَّوْتِ

الزَّمانُ يَنْهمِرُ رَمادًا فَوْقَ الكِتابةِ،

والنَّجْمةُ الأَخيرَةُ تُطْفئُ نَفْسَها دُونَ ودَاعٍ

أَقُولُ: هَلْ تَأْتينَ؟ فَيُجِيبُني السُّكُونُ:

كُلُّ مَنْ كَانَ يُحِبُّكَ... ذَهبَ

فَأَبْتَسِمُ: إِذَنْ... أَنَا حُرٌّ

[5] [عَتْمَةُ ما بَعْدَ المَطرِ]

أَمْسحُ عَنِ الزُّجاجِ آخِرَ قَطْرةٍ،

فَتَنْهمِرُ في يَدِي كَوَداعٍ يَخْتبِرُ قَلْبي

أَرْفَعُ العَتْمَةَ مِنْ زَوايا الغِيابِ،

فَيَتصاعَدُ مِنْها عِطْرُكِ كَنَبْضٍ يَتَعَثَّرُ بِاسْمي

أُعِدُّ فِنْجانَ قَهْوَتي... أَضَعُ سُكَّرًا لَا يَذُوبُ،

كَأَنَّهُ كَلِمةٌ بَارِدةٌ لَا تَقْبلُ العَوْدةَ

أَشْرَبُها... أَشْرَبُ صَمْتًا... أَشْرَبُ وَجْعًا... أَشْربُكِ

وأَعْلمُ أَنَّ المَطرَ لَمْ يَنْتهِ،

بَلْ يَسْقُطُ في دَاخِلي قَطْرَةً... فَقَطْرَةً... فَقَطْرَةً

[6] [وَرْدَةٌ لَا تَنَامُ]

الوَرْدَةُ الَّتي غَرسْتُهَا في قَاعِ القَلْبِ لا تَنامُ،

تُنادي اللَّيْلَ: هَلْ مِنْ زَائِرٍ؟

فلا يُجِيبُ إِلَّا صدَى العَطشِ

أَرْوِيهَا بِالدُّمُوعِ، فَتَنْبُتُ شَوْكًا،

فَأَعْلَمُ أَنَّكِ أَنْتِ الوَرْدَةُ... وَأَنَّ الشَّوْكَ لَيْسَ عَدُوًّا،

بَلْ دِفَاعًا عَنْ عِطْرٍ ضَاعَ مِنْني، وَعادَ جَرِيحًا

وأَضُمُّها لصَدْرِي... فَأَنْزِفُ... فَأَنْزِفُ...

حَتَّى يَصِيرَ الشَّوْكُ دَمًا... وَيَصِيرَ الدَّمُ وَرْدَةً

[7] [كَلِمَةٌ تُولَدُ مِنْ رَمادٍ]

أُوقِدُ الرَّمادَ... أُنَفِّخُ فِيهِ،

فَيَنْبُثِقُ حَرْفٌ صَغيرٌ يَرْتجِفُ كَنَبْضٍ أَوَّلٍ

أَضَعُهُ عَلى الوَرقَةِ البَيْضاءِ، فَتَبْكي... ثُمَّ تَبْتَسِمُ...

وتَحْتَضِنُهُ كَأُمٍّ عَثرَتْ على مَوْلُودٍ بَعْدَ فَقْدٍ

أُحَاوِلُ أَنْ أَكْتُبَ اسْمَكِ...

فَأَجِدُ أَنَّ الِاسْمَ لَيْسَ اسْمًا... بَلْ نَبْضةً تَنْطِقُ

فَأَكْتُبُ النَّبْضَةَ... فَتَكْبُرُ...

فَتَصِيرُ قَصِيدةً... فَتَصيرُكِ

وأَعْلَمُ أَنَّ الكَلِمةَ لَمْ تَمُتْ،

بَلْ كَانتْ نَائِمةً تَنْتظِرُ مَنْ يُوقِظُها،

فَتَصْحُو وَتَهْمِسُ: أَنَا... هُنَا

[8] كُودَا

[نُقْطَةُ الضَّوْءِ الَّتي تَبْقَى]

في آخِرِ المَطرِ... يَرْتفِعُ الصَّمْتُ نُقْطةَ ضَوْءٍ،

تَكْتُبُني لحْنًا يَتجدَّدُ كُلَّما انْكَسرْتُ.

وكُلَّما سَقَطْتُ... نَهضَتْ في الدَّاخِلِ كَلِمةٌ

تَعْرِفُ طَرِيقَها نَحْوَ يَدِكِ

وحينَ أُغْمِضُ نَفْسي عَلَى اسْمِكِ،

أَرَى أَنَّ المَطرَ لَمْ يَغِبْ،

بَلْ تَخَفَّى في نَبْضٍ يَتَجَدَّدُ في صَدْرِي،

وَيَهْمِسُ آخِرَ الضَّوْءِ:

-مَا زِلْتِ هُنا...

***

د. سعد غلام

 

في نصوص اليوم