نصوص أدبية
سعاد الراعي: الحرز
لم يكن مقتل الرئيس مجرّد حادثٍ سياسيٍ عابر، بل كان الشرارة التي أطلقت النار الكامنة في هشيم الوطن. ففي اللحظة التي سقط فيها جسده مضرجًا بدمه، سقطت معه هيبة الدولة، وتهاوت الأعمدة التي طالما أوهمت الناس بصلابتها. لم تمضِ ساعات حتى غادر أفراد عائلته خلسةً نحو الحدود، يتبعهم كبار المسؤولين كمن يهرب من طوفانٍ قادم. أمّا الشوارع، فقد امتلأت بغضبٍ يشتعل كوقودٍ أُريق منذ زمنٍ طويل ينتظر من يُشعل فتيله.
حينها انفتحت أبواب الجحيم على مصاريعها؛ خرج الغاضبون والمتمردون والناقمون من كل صوب، وسقطت لغة الخوف أمام هدير الحشود. حاول رجال السلطة أن يقاوموا بالسلاح، لكن الرصاص لم يعد يرهب أحدًا. سقط كثيرون في الطرقات، وتلطّخت الأرصفة بدماء المقهورين، حتى بات الموت مشهدًا عابرًا لا يثير الدهشة.
في ذلك الفراغ الذي خلّفه غياب الدولة، صعدت قوى الظلام من جحورها. تقاسمت العصابات المدن كما تُقسَّم الغنائم، يرسم كل فصيل حدوده بدماء الآخرين.
صار
الانتماء هو القانون...
العشيرة هي الوطن...
والسلاح هو القاضي الأعلى...
في كل زاويةٍ ولد تاجرُ حربٍ جديد، يبيع الخراب كسلعةٍ ثمينة:
سماسرةُ سلاح،
مهرّبو مخدرات،
تجارُ أجسادٍ...
يختبئون خلف شعاراتٍ جوفاء.
تسلّقوا الخراب بخفّة، حتى صار لكلّ منهم مملكة صغيرة تحرسها البنادق وتُغذّيها الرشوة والخوف.
استُبيحت المدن كما تُستباح الغنائم بعد معركةٍ طويلة. صار القتل وسيلةً لتصفية الحسابات القديمة، والخطف طقسًا يوميًّا لإذلال الآخرين. كانت النار تأكل البنايات التي حملت يومًا اسم "مؤسسات الدولة"، ولا يبقى منها سوى الرماد. النهب في وضح النهار. تُقتلع الأبواب والنوافذ ويُحمَّل البلاط من أرضيات القصور التي هجرها أصحابها أو قُتلوا داخلها.
لم يعد أحد يسأل: "لمن هذا؟"
فكلّ ما تقع عليه العين صار ملكًا للقويّ، وما لم يستطع حمله يتركه ليعود إليه لاحقًا مع مزيدٍ من الرجال والسلاح.
المهرّبون تنفّسوا، كما لو أُعيد إليهم الهواء.
تحوّلت الحدود إلى أسواقٍ مفتوحةٍ للمغادرين واليائسين، يُدفع فيها ثمن النجاة ذهبًا أو دمًا. بعضهم عبر إلى الضفة الأخرى، وبعضهم التهمته الصحراء قبل أن يبلغ الوهم الذي يسمّونه "أمانًا".
حتى المستشفيات، تلك التي كانت آخر ملاذٍ للضعفاء، لم تنج من الفوضى. اقتحمتها المجموعات المسلحة بحثًا عن الدواء كما يبحث اللص عن الغنيمة، اختلط أنين الجرحى بصيحات الناهبين. لم يبقَ من المراكز الطبية سوى مستشفى وحيد، يرفرف عليه علم الصليب الأحمر، تحرسه منظمةٌ دوليةٌ تتمتع بالحماية الدولية. كان ذلك المستشفى كجزيرة صغيرة وسط بحرٍ من الجنون، تحيط بها النيران من الجهات الأربع.
في ليلةٍ اختنق فيها الأفقُ بالدخان، حتى خُيِّل للناس أن القمر قد خُنق في مهده، توقّفت أمام بوابة المستشفى سيارة "جيب" عسكرية. كانت أضواؤها تشقّ الضباب كخناجر من نور، فيما تفوح من معدنها رائحة البارود، كأنها عادت تجرُّ أصداء معركةٍ خاسرةٍ على أطراف المدينة.
ترجّلت منها امرأتان؛ إحداهما صبية في مطلع عمرها، تنزف بغزارة، وقد غمر الدم الجزء الأوسط والأسفل من ثوبها، تتكئ على امرأةٍ تبدو ملامحها مشتعلة بالأمومة والوجل. كان في عيني الأمّ خوفٌ مكثّف، خليط من رجاءٍ وعجز، بينما ترتعش يداها محاولةً أن تُبقي ابنتها واقفة للحظاتٍ أطول.
ما إن بلغتا الباب حتى خارت قواهما، وسقطت الشابة على الإسفلت البارد، تفيض دماؤها كأنها تسقي الأرض العطشى بالوجع. التفّ حولهما طاقم المستشفى بسرعةٍ مشوبةٍ بالرهبة، فكلّ إنقاذٍ في زمن الحرب مغامرة. حملوها على نقالةٍ صدئة، جرى بها المسعفون نحو الداخل، فيما بقيت الأمّ تتبعهم بعينين غارقتين في الدمع والذهول.
تحرّكت السيارة التي أقلّتهما مسرعة، تلوّح فوهات الرشاشات من نوافذها المفتوحة، واختفت في عتمة الطريق كوحشٍ يبتلع نفسه في الظلام. بقي الصدى فقط، أزيز محركاتٍ وطلقاتٍ متقطّعة تتردد بين جدران الليل الذي لم يعرف بعدُ طريقه إلى الفجر.
هكذا...
بدأ زمنٌ جديد، لا هو سلمٌ ولا هو حرب. زمنٌ يتساوى فيه الموتى والأحياء، وتُختبر فيه إنسانية البشر عند حافة الانهيار. كان الجميع يبحث عن خلاصٍ صغيرٍ في عالمٍ لم يعد يُشبههم. وفي قلب ذلك الخراب، داخل المستشفى الوحيد، كانت حكايةٌ ما، حكايةٌ عن الوجع، عن البقاء، وعما يتبقّى من النور حين تُطفئ الحرب آخر مواقدها.
حين أُدخلت إلى غرفة الإنعاش في الطوارئ، كانت جسدًا ممدّدًا على حافة الغياب، غارقًا في صمتٍ ثقيلٍ يشبه آخر ما تبقّى من الوعي قبل السقوط في العدم. تحرّكت الأيدي بخبرةٍ آلية، أعدّوا قنينة المغذّي، جهّزوا ما يلزم لإيقاف النزيف، فيما ظلت الممرّضة تتفحّص ذراع المريضة بحثًا عن وريدٍ مطواع. وحين كشفت عن ساعدها، اعترض نظرها ما بدا لها شيئًا غريبًا: قطعة صغيرة من جلدٍ قديمٍ خُيطت بعنايةٍ رتيبةٍ، كما تُخاط الأسرار في الصمت، مربوطة بحبلٍ متينٍ حول زندها كأنها عهدٌ لا يُمسّ.. حرز؟ تميمة؟ دعاء قديم يختزن عمرًا من الخوف والرجاء؟
مدّت الممرضة يدها لتفك الرباط وتسمح بمرور الدواء، لكن يد الصبية الأخرى، رغم وهنها، انكمشت فجأةً كأنها تدافع عن حياتها الثانية. قبضت على كمّ ردائها بقوةٍ غريزيةٍ، وبدت تلك القبضة أبلغ من كل صراخٍ مكتوم، إذ تحمل رجاءً لا يُقال:
ـــ اتركيها، إنها لي
مالت الممرضة برفقٍ عليها، وبصوتٍ حاولت أن يجمع بين العطف والاحتراف:
ـــ لا تخافي، كل ما يخصّك سيكون محفوظًا تحت وسادتك. أنتِ في أيدٍ أمينة.
لكن الصبية فتحت عينيها بغتةً، بعينين متّسعتين من الفزع، تحدّقان كمن عاد من حافةٍ مظلمةٍ إلى ضوءٍ لا يعرفه. لمحَت في لهجة الممرّضة نغمة غريبة، فأدركت أنها أجنبية. تلفّتت حولها، بحثت عن مألوفٍ فلم تجد سوى جدرانٍ بيضاء لا تعرف الرحمة. بصوتٍ متهدّجٍ خرج من أعماقها قالت:
ـــ أرجوك... احتفظي به عندك. وإن متُّ... تصرّفي به، لكن لا... لا ترميه في سلة النفايات... إنه عمري...
ثم غابت ثانية في غيبوبةٍ كأنها سباتُ الطمأنينة الأخيرة بعد اعترافٍ موجع.
وقفت الممرضة لحظةً تتأمل الوجه المرهق، الشاحب، الذي كان رغم ذلك يحمل ملامح جمالٍ غامضٍ، كأن النور في أعماقه لا يريد أن ينطفئ. مدّت يدها بخفةٍ، ولفّت الحبل على الحرز برفقٍ، ثم دسّته في جيبها كمن يحتفظ بأمانةٍ مقدّسةٍ لا يجرؤ على خيانتها.
كانت الممرضة لا تدري ما الذي يدفعها لتلك الرقة المفرطة تجاه مريضةٍ لا تعرفها. ربما لأن في تلك القطعة الجلدية الصغيرة ما يشبه قصة حياةٍ بأكملها، أو لأن في لمحة تلك العيون الغارقة خوفَ إنسانةٍ ظلت طوال عمرها تدافع عن شيءٍ لا يراه سواها:
معنى،
ذكرى،
أو حبٍّ دفينٍ لا ينبغي له ان يموت.
**
يتبع
***
من رواية تحت الطبع
سعاد الراعي - المانيا
2025.11.23






