نصوص أدبية

سنية عبد عون: الصوت

تبدو الشوارع بليدة صامتة كأنها لا تعرفني. تزجرني لسبب لا أعرفه. أصبتُ بصعقة داخل رأسي. كل الظروف تسحبني نحو القلق. السيارات المزعجة. أصوات الباعة المتجولين. وشاشة التلفاز المضيئة في وسط الطرقات. وصوت الرافعة تهدم محلات الباعة المتجاوزين.

تكومتُ على نفسي من الإرباك والحيرة مرة أتجه شمالا ومرة أخرى يمينا علني أسمع خبرا يهدأ روعي وخوفي ولكن الأحداث تتشابك ولا أدري أي طريق أسلك..؟؟ كيف أصل الى بر الأمان،

 سمعت ضجيج الطلاب الصغار وهم يقصدون مدارسهم. مصادفة رأيت أحدهم يحاول العبور للجانب الآخر بينما كانت هناك سيارة قادمة بسرعة مجنونة صرخت دون وعيي واتجهت نحوه بطريقة عجيبة ثم سحبته بما امتلك من قوة وسرعة حركة. الا ان ما أدهشني أني فقدت صوتي في لحظة صراخي، كأن صوتي قد اختفى الى الأبد. أحسست وقتها اني أختنق لم تحدث هذه الظاهرة معي فيما مضى.

 كيف يمكنني ان أسير بدون صوتي..؟؟، بل وكيف يتم التعامل مع الآخرين..؟؟. دخلت الى حجرتي وأخذت اتدرب على الكلام كأني طفلة بعمر سنة أوسنتين. ادرب نفسي على نطق الحروف. جمدتُ في مكاني كمن يكتشف انه يسير منذ سنوات بلا حنجرة. تدربتُ صباحا ومساء ولكن. صوتي أبى ان يعود لي.

مضيت ابحث عنه في الازقة المبللة بذكريات الماضي. حيث كنت أخرج بصحبة صوتي والأمل يملأ صدري، وان غدا سيكون أفضل من اليوم. كانت الأماني تتراكض داخل روحي

 والسنوات زاحفة نحو مصيرها المجهول. هل يمكنني ان أمسكها وأعيدها الى الخلف الى أيام طفولتي؟ لم يكن هناك ما يزعجني. ولم أكن أفقه ما يدور.

لكنهم الآن يتحكمون بإرادتي. ويرسمون لي طريقا حسب اهوائهم وما يناسب مصالحهم الخاصة.

رسموا لي دائرة وأجبروني ان أبقى بداخلها أدور بلا هوادة مثل حصان الناعور الذي يخفون عينيه خلف قطعة جلدية. كي لا يرى نور الحياة والأضواء المشعة في هذا الكون الفسيح.

 هناك جلست قرب محل لبيع الشاي على الفحم والذي مازال يبيعه ذلك الكهل في فناجين مفقودة الاطراف. يفترش الأرض المفقودة التبليط. كنت اسمع الناس يتحدثون هامسين فيما بينهم عن الفقر والفقراء لكني لا أستطيع ان أشاركهم عما أفكر فيه. ولا يمكنني ان أبوح لهم بأني فقدت صوتي.

 والأفضل ان أعود من حيث أتيت متأبطة سري الجديد الذي لا يعرفه سواي. والذي اضطرني ان التزم حالة الصمت. لكن عيوني تترصد هفواتهم وتناحرهم فيما بينهم.

في طريق عودتي التقيتُ رجلا بلا صوت ايضا، كان يكتب على دفتر صغير جملة واحدة (خذلتني الحياة وهم خذلوا الجميع).

بالإشارة سألته من هم..؟؟ فلم يجبني!!

ثم رأيت امرأة تحدق في مرآة دائرية ولم يظهر داخل مرآتها أي شيء. قالت بصوت خافت: لم اعد اعرف وجهي، ربما ابتلعه اليأس لعدم صدقهم . وبالإشارة سألتها من هم.؟؟ فلم تجبني ايضا. !!

 وفي اخر الزقاق، كانت هناك طفلة صامتة غادرتها ضحكتها منذ زمن، فبدت كأنها عجوز صغيرة، حين نظرت اليها، شعرت انني انا من فقد ضحكته لا هي.

واصلت السير في قاع الوديان وقمم الجبال وتحت اشعة الشمس الحارقة ومع هيجان العواصف في آذار.

وأخيرا وجدت صوتي.نعم وجدته كان جالسا على مقعد خشبي في ركن المقهى، يحتسي الشاي ببطء. لا شأن له معي متظاهرا انه لا يعرفني. جلست امامه كأني أجلس أمام نفسي الهاربة من عالمها المضطرب.

لم يتكلم بلسان، لكني سمعته في داخلي يقول : تركتك حين هجرتِ نفسكِ. كنت قاسية معها تجاملين الآخرين على حسابها تعيشين غربتك بصمت دون ان تصرخي. مستسلمة لضعفك، أرى الكآبة مرسومة على صفحة وجهك لا يسعدك رفيف الطيور فوق رأسك. ولا زقزقة العنادل في ساعة الفجر ولا حتى المطر الغزير في ليالي الشتاء الباردة.

أحسست بدمعة ثقيلة ترقرقت في مقلتي وقلت له بلا صوت: عد إلي، لا أعرف ان أعيش بلا صوت فابتسم أو هكذا خيل إلي، ثم انسكب على جذع نخلة كأنه ماء الفرات الزلال. حاولت ان أتبعه لكنه قد ارتقى الى لب النخلة العملاقة.

لم أحزن كونها تستحق ان أمنحها كل ثقتي . ولأن صوتي ليس معروضا للبيع.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

في نصوص اليوم